للمرة الأولى بعد سنوات طويلة من الحضور والمواظبة لن يطل علينا صاحب الوردة الحمراء بابتسامته الصافية والتماعة الأمل في عينيه , عبر زاويتيه الثابتتين في صحيفة الجماهيرية ومجلة المؤتمر , وكذلك ستفتقده الأوساط الثقافية وهو يتوج أختتام فعالياتها المتنوعة كالأمسيات الشعرية ومهرجانات القراءات القصصية والنقدية بكلماته الجميلة التي ينحتها من رخام اللحظة التي يعيشها بانفعال كبير وبحماسة منقطعة النظير , فتأتي معبرة تماما عما يجيش في خاطره وتختلج به نفسه من مشاعر الحب والعشق لليبيا وللأم وللوردة ولفاطمة وللنخلة وللمدينة القديمة وللمساجد وللأضرحة وللساحات وللبحر وللمطر وللأساور وللأقراط , فمن خلال حضور الفقيد المتواصل للأنشطة الثقافية واحتراما له وتقديرا لتاريخه الحافل ودوره المؤثر في حركة الثقافة ببلادنا كثيرا ما مُنحَ الكلمة الأخيرة حتى تكون مسك ختام يختتم به المنشط حيث حرص الراحل على الحضور في كل مرة حتى وإن لم يتلقى دعوة رسمية وبمجرد أن يعلم بانتظام منشط ثقافي نراه أول الحاضرين , وقاده حبل التواصل هذا إلى مناطق كثيرة في ليبيا إلى جانب رحلاته إلى الخارج , وظل مواظبا على هذه العادة حتى عندما تقدمت به السن وأصبح هذا الأمر يشكل عبئا على صحته , وكثيرا ما ألقى أشعاره وكلماته التي تبعث على التفاؤل في هذه الانشطة وإن لم يكن أسمه مدرجا ضمن المشاركين حرصا منه أيضا على إنجاح هذه الفعاليات ونزوعاً منهُ نحو خلق حراك ثقافي تفتقده الساحة أحيانا , وتجد كلماته المنتقاة التي يلقيها آذانا صاغية وترحيبا كبيرا بفحواها الإنساني العميق , خاصة وأن البعض يجد في صوته ونبرته الحالمة ووقفته أمام مكبر الصوت مسحة براءة وبقايا طفولة وفيض من العفوية والبساطة .
ويروي الشاعر أنه كمن يسير في نومه أخذ ذات ظهيرة يتتبع خطوات امرأة عجوز صادفها بإحدى أزقة مدينة روما القديمة بإيطاليا لا لشيء إلا لأنها كانت تشبه أمه المتوفاة إلى حد بعيد , فكيف لا يكون شاعرا كل من حاز على هذا الحس المرهف والرقة المتناهية .
وكل من تابع بدايات الشاعر عبر دواوينه التي أصدرها مبكرا وقف بلا شك عند الأنعطافة الحادة والمنعرج الجديد الذي سلكه مع كتاباته الوسيطة والمتأخرة حيث التّماس المباشر مع اللا وعي والغوص عميقا في أغوار الذات والنفاذ بقوة إلى ما وراء الأشياء الظاهرة سعيا نحو الجوهر وتلمس غرائب الصور حتى أن بعض النقاد أطلق عليه أسم ” السوريالي ” الأخير لجرأة طرحه الشعري , ولم ينجو شاعرنا عقب انعطافته تلك من الهجوم الذي شنهُ عليه حراس المدارس الشعرية القديمة الذين أنكروا عليه وثبته واتُهِمَ بإفساد الشعر والإفلاس , غير أن البعض الآخر اعتبره مجددا للشعر الليبي الحديث ورائدا من رواد قصيدة النثر في ليبيا فاتحا بذلك أبواب التجريب على مصراعيها للأجيال التي أتت بعده ولم يكتفي بذلك عندما ظل بحماس كبير حتى قبيل وفاته بقليل مخلصا لنزعة التجريب التي آمن بها .
هي إذن إرادة الله وسنته في خلقه ولا راد لقضاء الله وكل ما نأمله الآن ونحن نودع الشاعر ونشيعه إلى مثواه الأخير بأدعية الرحمة والمغفرة أن يسامحنا أفرادا ومؤسسات على تقصيرنا تجاهه في محنته وهو يهيئ نفسه للرحلة الطويلة وهو يغمض عينيه للمرة الأخيرة محتفظا بكل ما أحبه في معشوقته ليبيا وهو يلتحق بمن سبقه إلى الأبدية البيضاء على حد تعبير محمود درويش حيث الرحمة الواسعة والمقام الرفيع .
___________________
نشرت هذه المقالة في العدد رقم 325 من صحيفة أويا العام 2008 عقب وفاة الشاعر بأيام .