قراءات

عسل الكلام

كتاب عصيان الكلام، للشاعر جمعة عبدالعليم.

نحن اليوم في ضيافة الشاعر جمعة عبدالعليم فدعونا نبحر معا في ديوانه المعنون بـ”عصيان الكلام وأشياء أخرى” في البدء لابد من الإشارة إلى أن الشاعر في هذا المتن الشعري لا يطيل ولا يرهق قارئه بالغموض أو الأستعراض اللغوي الفارغ , فالكلمات هنا والجُمل الشعرية تتشكل بعفوية كتشكل غيمة أو تكون ظل شجرة أو تفتح زهرة بعيدا عن الأعين ودونما مظاهر صخب أو ضجيج في هدوء ووضوح لا يضاهيه وضوح بلا تكلف حتى أن المعاني المندسة في سطور القصيدة تكاد تطفر أو تقفز بمجرد مصافحة أعين القراء لها لتعانق ذوائقهم وتدغدغ مراكز الأستقبال وتثير مجسات الأحاسيس لديهم , وكونه لا يطيل كان لا بد أن يقول فقط المهم والمُلح على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي \ الذاتي ويُكثفه إلى أقصى ما يستطيع كونهما أيضا متداخلان ببعضهما إلى الحد الذي يتعذر معه فصلهما عن بعضهما وتجزئتهما , فالهم العام لابد أن يحتوي بداخله على الهم الشخصي ولا مفر له من ذلك وكذا الهم الذاتي لابد أن يتقاطع مع العام , هذا إن لم يكن قطعة منه .
الذات ذلك الكائن المتخفي والمتواري , حاول الشاعر أن يفضحه تواريه عن الأنظار عندما قام بقوله صراحةً وعبّرَ عن همومه , آماله وآلامه وطموحاته وأحلامه في بوح مفتوح على كافة الأحتمالات , فالكثير من القصائد حملت نفسا ذاتيا وعكست بجلاء ما يتأجج في قلب قائلها ويضطرم داخل صدره , فالهواجس والأنفعالات والأحاسيس والعواطف المشبوبة الباعثة على قرض الشعر والبوح والمكاشفة وجدت لها حيزا في هذا الديوان , بل كادت أن تنفرد به دون الأغراض الأخرى وتستحوذ على مساحته , إن لم تكن قد فعلت .
كانت الأنا الشاعرة بكل حمولتها من القلق والأسئلة المباحة واللا مباحة \ المشروعة واللا مشروعة هي التي تتكلم هنا بكل أريحية ولم يزاحمها صوت آخر , فها هو شاعرنا يُنشئ قائلا في هذا الشأن :-
هو ذا لا يتسلح بغير عشقه
وليست تتسع قصيدته
لغير أناه .
وفعلا هي قصيدة على مقاس هذه الأنا المتشحة بالقلق والتوتر والتوثب والنزق .
ولأنها انفعالات عابرة ومتواترة في ذات الوقت , جاءت القصائد المختلفة في حجم هذه الأنفعالات والهواجس والأفكار المتضاربة التي تعبر رأس الشاعر وتجتاز عقله تارة ببطء وتارة بسرعة ضوئية , الأفكار التي تتصارع وتتطاحن في الذهن قبل أن يقتنص بعضا منها ليودعها في صندوق قصيدته القابل لحمل كل المتناقضات , وقبل أن تفسح المكان لأفكار أخرى تتخلق تبعا لحالات الشاعر النفسية والجسدية \ الروحية والمادية , ووفقا لقراءاته في الكتب والحياة ونظرته للوجود , ذلك أن القصائد تشي بخلفية الشاعر الثقافية والمعرفية , وبوعي أو بدون وعي لابد أن يتسرب بعضا من هذه المعرفة إلى بهو القصيدة ولابد للقارئ الجاد من أن يلاحظ ذلك .
ولأن الأنفعالات في الأعم قصيرة العمر ومباغتة , كانت القصائد في حجمها فأخذت شكل الومضة أو الشرارة التي تلمع في الظلام قبل أن تنطفئ تاركة ورائها محض وميض حاد , ولأن الشاعر تخلص من سطوة القافية والغنائية التي تحد أحيانا من تدفق الشعر واستطالة لحظاته , وسلك طائعا سبيل النثر قبل أن يروضه وعي الشاعر ويرده إلى حظيرة الشعر وذلك باعتراف الشاعر نفسه إذ يقول في بعضا من قصيدة .
هل تسمحون لرجل
في الأربعين
أن يقول قصيدته .
إلى أن يصل للقول :-
طويلا طارد سراب القصيدة
وكان دائما يباغته النثر .
ثمة شجن دفين وحزن شفيف وعميق تنضح به القصائد ويتراءى من وراء غلالة من الكلمات , وثمة وِحدة شاسعة تتسع لأحلام وإخفاقات الشاعر يحاول بالشعر أن يروضها وثمة عزلة اختيارية يفرضها منطق الإبداع نرى الشاعر يسعى إليها وبكل تأكيد هي العزلة المنتجة المستحبة والمطلوبة لا العزلة المرضية العقيمة إذ بدون هذه العزلة التي يدرك المبدعون جدواها ويبحثون عنها بكل الطرق ويعملون على استحضارها إن لم تكن متاحة , يستحيل إبداع أي نص , كتب الشاعر عزلته وما أسفرت عنه من تأملات وترجمها إلى إبداع , إذ نقرأ بقصيدة ” ألتماس ” :-
هل تسمحون لرجل في الأربعين
أن يقول قصيدته
هو محبط جدا
زوجته تسرقها الأمومة
أبناءه يقلقون خلوته .
إذن الشاعر المتعبد في محراب الشعر لا يختلف عن المتصوف المنقطع للوصل الإلهي إذ أنه في حاجة ماسة للخلوة والأنفراد بالذات حتى يقول نصه الإستثنائي , حيث الشاعر في قصيدة ” شذرات “يقول في هذا المعنى :-
حين تُطبق كماشة الوِحدة
على دفء السرير البارد
أفتح نافذة الحنين لفنجانك الممزوج
بسحر حكاياكِ
المعتق بهجرك الطويل .
فيما يحاكي التغني بالوِحدة والأنفراد لعزف أعذب الألحان على قيثارة الروح المعذبة .
فتية وناضجة تأتي القصيدة كل مرة حاملة لشحنة عالية من الشعر , وهي كوة انفتحت على أفاق يطل من خلالها المتابع على عوالم جميلة وطاقة مشرعة على كون من المعاني الرائقة والصور المعبرة .
جلي هنا أن القصائد لا تعبر إلا عن قائلها حتى وإن كُتبت بضمير الغائب لا المتكلم أحيانا , فالقصائد في الغالب قيلت بلسان الشاعر وتمركزت بهيئة أفعال يأتيها مثل , كنت حين أُرهف القلب وأُعاند حبسي وأستدعي أزمنة ميتة وأُعلق أيامنا الجميلة , وقِس على هذا النسق الكثير من الجُمل الفعلية المنطلقة من الذات والتي لا تصب في نهاية الأمر إلا في وعائها .
وحينما ابتغى الشاعر التخلص من أحاسيسه التي ترهقه وتضغط على روحه تطهر منها وكتبها في صيغة مقاطع خاطفة تقترح معنىً واضحاً ورسالة جلية مثلما أنها لم تتأخر حينما أُتيح لها , أن تحل في تضاعيف صورة شعرية لا شك أنها يسرت عملية التواصل مع المتلقي , هذا إلى جانب أنها حافظت بتقنياتها على خاصية كونها مباغتة ومفارقة هذا إن لم نقُل عنها انها مدهشة .
والآن لنلفت الأنتباه إلى الشاعر الذي ينشد قائلاً في سطر واحد أو أسطر قليلة كحكمة مجانية :-
نحن أصدقاء لا لتمتلكني .
أيضا يقول :-
التكشيرة
تحيل الوجه الملائكي
إلى حقل ألغام .
ويقول :-
تمر تسعة أشهر
كي تنضج
لحظة الشبق .
ويواصل :-
هذا الكلام الجموح
كلما حاولت اعتلائه
هز رأسه العنيد
وسار على عواهنه .
ولنلاحظ هنا الصورة الموفقة والشارحة لمعاناة الشاعر مع الكلام الذي يستحيل إلى جواد بري جامح وعنيد , عاشق للحرية والأنطلاق في البراري ممتنع على فارسه ومروضه , جوادا إن جاز لنا أن نتخيله فسوف نتخيله رافعا أطرافه الأمامية عاليا ضاربا بحوافره الهواء ملوحا بهما في الفضاء مرتكزا على قائمتيه الخلفيتين محمحما ومُطلقا صهيله يهز رأسه في كبرياء ويتدلى شعر ناصيته على جبهته العريضة حذو عينيه فيما يفضح جلده الأملس ذو الملمس الناعم والمنظر اللامع عن تقاطيع جسده المتناسقة وعضلاته المفتولة .
كان مهما أن نستعرض قدرا من قصائد الديوان حتى نقف عند ما خلصنا إليه من أحكام بشأنها , فهنا نحن نقف إزاء قصيدة بسيطة واضحة تقول نفسها بصراحة بالغة العذوبة وشفافية لا افتعال يؤطرها , ناجية من مصيدة الصنعة والنظم , وليس سوى الشعر يجري رقراقا مسترسلا في مجراه الطبيعي الذي ألفهُ كنهر يدرك طريقه ويعرف جهته , ومع أن الشاعر مدرك تماما لشروط لعبة الشعر الذي تورط في ممارستها , يعن له أحيانا أن يلقي جانبا بكل القواعد والقوانين المنظمة لهذه اللعبة الخطرة ويلعب بعفوية , أليس هو من يقول في قصيدته التي أطلق عليها أسم ” هذر ”
رغم أن الشعر
هو فن اختزال الكلام
سأراوغ هذه الليلة
الرقيب الفني
وأقول الكلام كما هو
ورغم أن السلامة
في إخفاء المعاني
إلا أنني سأقول الأشياء
كما هي
ورغم أنها حتما ستلعنني
آلهة النقد والبلاغة
إلا أنني سأهدّ الحدود الوهمية
بين القصيدة والمقال
بين الشعر والرواية .
ألا يعد هذا التصريح والوعد بكسر الحدود ما بين الشعر والنثر انحيازا للنثر الذي هو في وجه من وجوهه الكثيرة يمثل العفوية والعذوبة والبساطة , ثم اليس هي ذات القصيدة – قصيدة النثر – التي لم تنال الأعتراف الكامل حتى هذه اللحظة , التي يقترفها الشاعر ويمتدحها ضمنيا .
ولمن أراد أن يتلمس أثر القرآن والقص القرآني بهذه الأضمومة الشعرية عليه أن يعود إلى قصائد رؤيا ووطن وفروق حيث التلميح إلى رؤية سيدنا يوسف عليه السلام للإحدى عشرة كوكبا والشمس , تلك الرؤية الصادقة التي تحققت فيما بعد وحادثة الجب المعروفة وحيث السبع سنين العجاف وحيث تفجر نبع زمزم تحت قدمي سيدنا اسماعيل عليه السلام فالشاعر بحكم تكوينه الثقافي ذهب إلى الإفادة من القرآن كمبنى وكمعنى , ألم نقل قبل قليل أن خلفية الشاعر المعرفية لابد أن تتسلل إلى القصيدة شاء أم أبى , والشعر بهذا المعنى الفسيح فضاح للشعراء حينما يُنبئ بمرجعياتهم المختلفة ومنابعهم التي استقوا منها عباراتهم ونهلوا حالاتهم الشعرية قبل أن يجري عجن كل هذا الخليط في بوتقة الذات بأحاسيسهم المرهفة وانفعالاتهم الحادة , كون الشعراء رقيقي الإحساس سريعي الأنفعال والتفاعل مع الواقع ومع المُتخيل وما وراء الصور والمحسوسات , ولأن اللغة وعاء الشعر المكتوب والكلمات وسيلته لابد من إيجاد القالب اللغوي الملائم الذي سيضم في فراغه هذا الخليط حتى يتجانس ويُقدم طازجا للمتلقي .
ومرة أخرى نجد الشاعر متلبسا بفضيلة توظيف القرآن الكريم إذ بالبحث في قصيدة ” حال ” سنجد انعكاسا للآية الكريمة الواردة بسورة المُزمل وفيها يقول سبحانه وتعالى ” أن ناشئة الليل أشد وطئأ وأقوم قيلا ” صدق الله العظيم , والتأثير القرآني هنا واضح وجلي .
وفي الختام نقول , لا ريب في انها رحلة ممتعة تلك التي سيقوم بها القارئ لهذا المتن الشعري الذي يتميز بالخفة أيضا , ذلك أنه لن يعود خالي الوفاض وسيجد حاجته من الشعر النقي الغير مبهرج بخلاف ما يحدث أحيانا حينما لا يكون اختياره لما سيقرأ مناسباً .
” عصيان الكلام وأشياء أخرى ” كتاب شعري جدير بالقراءة , بقيَ أن نشير إلى أن الديوان كان قد صدر العام 2006 عن مجلس الثقافة العام واحتوى على عدد ثمانية وأربعون قصيدة وجاء في حوالي المائتي صفحة من القطع المتوسط , ولأن القصائد لا تحمل تواريخ تدشينها كنا نحبذ كقراء أن تُذيل بتواريخ تأليفها فلربما أفاد ذلك النقاد والباحثين , فبهذه الطريقة يسهل تحديد مراحل التجربة وتلمس نقاط القوة فيها ومعرفة أطوار نموها ورصد تحولاتها قبل ربطها بالمنظومة الشعرية العامة في ليبيا اليوم بكافة أطيافها وتصنيفها ضمن التجارب الموازية , لا سيما وأن الشاعر بحسب تتبعنا لإنتاجه لم نعثر له على قصائد منشورة في الصحف والدوريات المحلية في السابق وبدلا من هذا فضَّلَ أن يختصر الطريق إلى المتلقي ويصدر دواوين تضم كل قصائده , ولهذا السبب بحسب اعتقادي ورغم أنه صاحب كون شعري شفيف وقصيدة متألقة بالغة الرهافة والحساسية فأن جمعة عبدالعليم لا يعتبر شاعرا مشهورا في الساحة الأدبية ولا يعرفه الكثيرون خاصة ممن لم تصلهم دواوينه المطبوعة .
___________________________
** كُتبت هذه المقالة على الأغلب سنة 2007 أو 2008 ولم يتم نشرها في السابق , وتُنشر اليوم كما هي , وآمل أن تُقرأ في سياقها الزمني .

مقالات ذات علاقة

كونشيرتو قورينا ادواردو لنجوى بن شتوان

خديجة زعبية

المطر الأحمر والرقص مع الذئاب

سالم العوكلي

ليبيا.. “حوليات الخراب”، رواية جديدة عن ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق