عديد الأغاني اقتبس الرحابنة ألحانها من ألحان أخرى سابقة لها وغنتها فيروز مثل المقطوعة الموسيقية العائدة للموسيقار العالمي موزارت والتي استثمرها الرحابنة ووضعوا لها كلمات تلائم إيقاعاتها الباذخة وأدتها فيروز في أغنيتها الشهيرة “يا أنا يا أنا أنا وياك صرنا القصص الغريبة” وأغنية “حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي” التي قيل أو تنامى إلى علمي أنها لحنها مستمد أو مأخوذ من أغنية للمطرب الفرنسي جان فرانسيس ميشيل وهو الأمر الذي ثَبُتَ بطلانه بعد البحث، إذ تبين أن فيروز هي التي أدت الأغنية أولا في مسرحية “يعيش يعيش” سنة 1970 قبل أن يؤديها المطرب الفرنسي سنة 1973 وبالعودة إلى تواريخ صدور الألبومين اللذين جاءت فيهما الأغنيتين اتضح ان فيروز هي السباقة في استعمال اللحن، مع ملاحظة أن الأخوين رحباني سكتا عن هذا الموضوع ولم يصرحا بشيء فيما يتعلق به.
وأخيرا أغنية ” لمين ” التي سربتها فيروز مؤخرا كتهيئة لصدور ألبومها الجديد الذي يحتوي إلى جانب هذه الأغنية على أغنيات نرجع نتلاقى ويمكن و ببالي و ما تزعل مني و أنا وياك وحكايات كثيرة وبغير دني وبيتي زغير ولمين “عزف على البيانو”. وهي الأغنية المستوحاة من اغنية الفرنسي جليبرت بيكود “لمن تلمع النجمة” التي صدرت منتصف خمسينيات القرن الماضي والتي أرادت فيروز من خلالها تقديم تحية وفاء لزوجها الراحل عاصي الرحباني الذي يبدو أنها تفتقده كثيرا كما يفتقده الفن الأصيل والطرب الراقي.
“لمين” هذه الأغنية التي أثارت جدلا واسعا، ففي الوقت الذي تلقفها البعض باعتبارها تألقا فيروزيا جديدا ومؤشرا على قدرة فيروز على العطاء وحيوية صوتها وتمتعها بالصحة وهي تجتاز عقدها الثامن بتمهل وبتهيب كعادتها، فيما رأى البعض في الأغنية كل ذلك وغيره مما يصب في صالح الفن الراقي وفي سياق الطرب الأصيل الملتزم جماليا، لم يرى فيها البعض الآخر ممن يصيدون في الماء العكر والمتسرعون في إطلاق أحكامهم إلا بوادر إفلاس للمؤسسة الرحبانية التي تهاوى منها عمودين، وذهب البعض الآخر أو أومأ إلى الحكم بأن التجربة أصبحت تكرر نفسها ولا تنتج جديدا وذلك دون انتظار صدور الألبوم الذي سيفند بالتأكيد ما ذهب إليه البعض من مزاعم وأحكام مستعجلة ولربما تراجعوا حينها عن أحكامهم فلو أنهم صبروا قليلا، أولئك الذين اعتبروا أن الأغنية مخيبة للآمال بعد سبع سنوات من الأنتظار هي المدة التي مضت على آخر إصدار لها وهو ألبوم “أيه في أمل”.
وفيما يخصني بشأن اقتباس الألحان وكوني استمعت إليها لأول مرة من الرحابنة ولم أستمع إليها إلا لاحقا من خلال مؤلفيها الأصليين، فلا أرى في تبني الألحان بأساً ولا إفلاسا بل بالعكس أرى فيها إضافة إلى تلك الألحان وإعادة إحياءها لدى فئات وحتى شعوب وأمم أخرى ومساهمة في ذيوعها ورواجها عندما تقدم بثوب جديد في ثقافات غير ثقافتها الأصيلة وأجد فيها انفتاحا على ثقافات مناظرة وفرصة لتحاور الحضارات وأجد في مقتبسيها صفات التسامح والإلمام بالثقافات الأخرى وامتلاك لروح التجريب والنزوع نحو التجديد وفتح مسارب وأفاق مغايرة أمام الموسيقى العربية، بل لا أجد حرجا في القول وأنا المتيم بكل ما ينتمي لفيروز بأن الأداء الفيروزي قادر على سلب اللحن وتجريده من خصوصيته الأولى ووضع طابعه عليه بحيث يصبح لحنا فيروزيا رحبانيا بامتياز، ولا أعتقد بأن أصحاب الألحان الأصليين سيمتنعون عن منح الإذن لفيروز لإحياء ألحانهم ان هم سٌئلوا عن ذلك، وصوت فيروز فيما يعنيني شخصيا يستطيع بما ينطوي عليه من إمكانات وإيحاءات وبما يتكئ عليه من أرث ضخم وتاريخ عريض أن يُنسينا اللحن الأصيل بل ان اللحن الاصيل لا يصبح شيئا يذكر أمام بذخ وزخم صوت فيروز القادر على هضم وتفكيك كل نشاز وإعادة إنتاجه بشكل جميل وسيختفي كل شيء لحظة الإنصات ولا يبقى إلا تغريد فيروز يتردد صداه في ردهات الروح وجوانب الحياة.
أقول قولي هذا وأصمت إلى حين صدور الألبوم ولربما وجدنا فيه حينها ما يؤيد كلامنا وما يُسكت كل من تسرع في حكمه.