المقالة

كِتَابٌ عَاصَرَ الطُّوْفَانْ

كان أَحَدُ أَصْحَابِي يَقْرَأُ كثيراً بَلْ يلتهمُ الكُتُبَ التهاما بسرعةٍ لا تُفْقِدُهُ القُدْرَةَ على الفَهْم والإسْتِعابِ حَتىَّ أَنَّه قرأَ في سنواتٍ قليلةٍ مِئاتَ الكُتُبِ المختصَّةِ بموضوعاتٍ مُتَباينَةٍ مِمَّا يَدْفَعُ المَرْءَ إلى تصنيفهِ كَمُثَقَّف. وهو يَحِبُّ الإستماع إلى الموسيقا، وفي الغالب يَخْلِطُ الإثنين – القراءة والموسيقا- كَسْباً للوقت. وهذا الصَّاحب جَمُّ التَّواضع لدرجة تجعلُنِي أُرَدِّدُّ المأْثُورَةَ التي يُوْرِدَها المشايخُ عِنْدَ نصيحةِ الآخرين كالتّالي :” باركَ اللهُ في رجلٍ عَرَفَ قَدْر نَفْسِه وجَلَسَ دُوْنَه.”.

وذات مَرَّة سألني هذا الصَّاحِبُ الليبي قائلاً:

أَتُجِيْبُنِي بالموافقة فَتُحَدِّثُنِي عن تاريخ ” سُوْمِرْ” وتاريخ اللُّغةِ السُّوْمِرِيَّة بالذّاتْ؟!
فهربتُ بنظراتي إلى جهةٍ أخرى وقلت:

تَسْأَلُنِي عن ” سُوْمِرْ” وأنتَ رجلٌ مُثقَّف قَرأَ كثيراً مِنَ الكُتُب وبِمَقْدُورِكَ العثور على الإجابة بلا معاونةٍ مِنِّي ، فلماذا تَسْألُني!؟
قال بهدوء وهو يُصَوِّبُ نظراتً طويلةً نحوي:

لأنَّني أعرفُ أنَّك واسع الإطِّلاع على حقائقِ التاريخ الإنساني وخفاياه إلى مَدَى بعيد وعميق، وأنا أُرِيدُ تعزيزَ إستنتاجاتي في هذا الشَّأن بآرائك.
فأجبته بإحترام :

قَوْلُكَ إنِّي مِنْ أهل الإختصاص في التاريخ الإنساني ليس صحيحاً، فالبُؤْرَة التي لا أَسْتَبْدِلُها بغيرها في جميع الأحوال هي الأدب مهما بَلَغَتْ سِعة القراءات ومهما إمْتَدَّ مَدَاها. إنَّ البؤرة الأدبيَّة هي بؤرتي الوحيدة وقد نَقَلَتْني تلك البؤرة إلى الفلسفةِ ومَناهِجِها ومَنْطِقِها ونقلتني الفلسفة إلى التاريخ ونقلني التاريخ إلى العلوم ثم نقلتني العلوم إلى القوانين والدساتير المُعاصِرَة والأيدلوجيّات والنظريّاتِ المُتَبايِنَة. وفي الحقيقة لم تَكُنْ مُطالَعاتي مُجَرَّدَ مُطالعة فقط بل كانت تَحْصيْلاً دِراسِيّاً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وقد ذَكَرْتَ لي في السنين الماضية أنَّكَ تقرأُ أنواعاً كثيرة مِنَ الكُتُب كالرواياتِ والقصص بنَفْسِ السُّرْعَة التي تُطالِعُ بها الكُتُب الأكاديميَّة. أقولُ لَكَ إنَّ كُتُبَ التَّسْلِيَةِ مُهِمَّةٌ بدورها وسُرْعةُ قراءتِها لا يُؤثِّر إطلاقاً لكنَّ كُتُبُ الأبحاثِ الجادَّة في مختلف فروع المعرفة و حَتَّى روايات الكُتَّابِ والأدباء الحقيقيين أو العاملين يتأثَّرُ فَهْمُها وإسْتيعابُها سَلْباً إذا قرأناها بسُرْعَة, فهي تحتاجُ إلى وقَفاتِ تأمُّلٍ مِنَ المُطالَع كَيْ تَتَمَّ الفائدة مِنَ القراءة. والآن دَعْنِي أُسألُكَ عَنْ الإستنتاجات التي أشرتَ إليها بشأن اللُّغة السُّوْمِرِيَّة. ما هذه الإستنتاجات بالتفصيل ؟!
فقال :

إنَّ البعضَ بتأثيرِ قِلَّةُ المعرفةِ أو إنعدامِها أصْلاً, أو بسببِ شِيْفُوْنِيَّة لُغويَّة أو لسببٍ آخرٍ مجهولٍ يقولون إنَّ اللُّغة الأكْدِيَّة كانت في الدُّنْيا القديمة هي لُغة المُراسَلاتِ والاتصالات الدِّبْلُوْماسِيَّةِ بين دولِ الماضي البعيد. وتقول طائفةٌ مِنَ الأدْعِياءِ الذين نَخَرَهُمْ سُوسُ الخُرافَةِ وجَعَلَ أَقَاوِيْلِهُمْ مَدْعاةً للتَّعَجِّب والِّتَّنَدُّرِ والسُّخْرِيَة أن (السُّوْمِرِيين ) ليست لَدَيْهُمْ لُغة فلُغَتُهُمْ – إنْ وُجَدَتْ – هي في أشدِ العَوَزِ إلى أبْجَدِيَّةٍ لا يمتلكونها, وأقْصَى ما كانوا يَفْعَلُونَهُ هو اللَّغَطَ والصِّياحَ بأصواتٍ مُبْهَمَةٍ ولا مِعْنِى لها.
ويقولُ الأَدْعياءُ – فيما يقولون – إنَّ مَلْحَمَةَ (( جَلْجامِشْ )) الأدبيَّة مِنْ تأليفِ جَهابِذَةٌ في بابِلِ وآشور ولا علاقَةَ لها بالسُّوْمِرِيين !!

فنظرتُ إلى الساعة حول مِعْصَمِي ثم قلتُ له بسرور :

هذه إستنتاجات وتفاصيل سليمة وقد أجَدْتَ في إسْتِتْكارِكَ الضِّمْنِي لأقاوِيلِ الأدعياء مِنْ كلّ صِنْف.
قال :

أَشْكُرُكَ على الإطْراءِ وعلى تَعْزِيزِ مُلاحَظاتِي.
وما لَبثْتُ أنْ زَوَيْتُ ما بَيْنِ حَاجِبِيِّ قائلاً :

إنَّكَ تستحقُ عَنْ جَدارة ما هو أكثر مِنَ المَدِيح والإشادة لَكِنَّنِي الآن أحتاجُ إلى القهوة لأنَّنِي أَنْتَوي الحديث إليكِ بتركيزٍ أكْثَر, وإسمح لي بالقول إنَّ أحداً مِنْ عائلتي ليس في البيت الآن فأنتَ وأنا فقط في المكان… ولِذا فسأذهبُ في التَّوِ إلى المطبخ لإعْدادِ القهوة فهل ترغب القهوة أم ترغب في مَشْرُوبٍ آخرٍ كالشَّاي أو الكاكاو؟
فأجابني بإبتسامةٍ رَصِينَة ثم قال :

ماتَراه مُناسِباً لَكَ فإنَّهُ مُناسِبٌ لي أيضاً.
إذاً القهوة !
وإنصرفتُ إلى المطبخ ثم رجعتُ بعد قليل إلى صاحبي قائلاً وأنا أُقَدِّمُ له القهوة :

في الحقيقة إنَّكَ تَسْتَوْضِحُ مِنِّي ما يتعلَّقُ بتاريخ “سُوْمِرْ ” ولُغِةِ السُوْمِريين
وسوف أُفْضِىٍ إليكَ بكلِّ ما تَسَنَّى لي معرفتُه عَنْ تلك المسائل .

قال صاحبي :

هذا مُرادِي .. باركَ اللهُ في الحديث وأَلْهَمَكَ الصَّواب .
وبدأتُ حديثي قائلاً :

مُنْذُ 1200 سنة فقط عَرَفَتْ بَعْضُ مَناطِقِ العالم المراحلَ الأوَّلِيَّة للعصرِ الزِّراعِي والتَّحَضُّر, فلم يكنْ العصر الزِّراعِي عامّاً شَامِلاً جميعَ المناطق .
وذلك العصر ليس على بُعْدٍ بَعِيدٍ عَنَّا إذا قِسْناهُ بِبُعْدِ العصورِ السِّابِقَةِ له, فالعصر الباليوليتي – مَثَلاً – بيننا وبينه ثلاثة ملايين سنة .

وشربت قليلاً مِنَ الماء ثم قلت:

كانت الأقاليم المُناخِيَّة عَبْرَ 12000سنة في العصر الزِّراعي شديدةَ الإختلافِ عَمَّا نَعْرِفَهُ في عصرنا الحَالِي عَنْ مَناطِقِ العالمِ وأحوالِ مُناخِها. وفي ذلك العصر البعيد جداً – بالنسبَة للبشر الآن – كان “السُّوْمِرِيُونْ” في شمال أُوْرُبّا. وفي الحقيقة إنَّ النشأةَ الأُوْلَى للسُّوْمِرِيينْ كأُمَّةٍ مِنَ الأُمَم ووطَنِهُمْ الذي تكاثَروا فيه وتَرِعْرعُوا في رُبُوعِهِ هي نِقاطٌ يحيطُ بها الغُمُوضُ لكنَّ استقراء التاريخ والمراجع الأَصْلِيَّة واللجوء إلى مَصادِرِ علم المُقارَنَة اللُغَوِيَّة يُفيدنا في إزالةِ حَتَّى القليل مِنْ عَتَمَةِ هذه المسألة . وقد ذَكَرَتْ ” الألْياذَة” التي كانت قبل تَدْوِيْنِها يَنْشُدُها شَفَهِيّاً الشاعر اليوناني الجَوَّال ” هُوْمِيْرُوسْ” إنَّ “السُّوْمِرِيين” كانوا يُقِيمُون في آسيا الصُّغْرَى – وهي تُرْكِيَا الآن – إلَّا أنَّ آسيا الصُّغْرَى ليست مَنْبَعَهُمْ الأَصلِيّ.
وهذا صَحيح لأنَّ آسْيا الصُّغْرَى هي جزء مِنْ رِحْلَتِهُمْ العجيبة. ومِنْ جهةٍ أخرى كَتَبَ المؤرِّخ العالمي ” جاكُوْلُوفْ” – وهو في عِدَادِ المؤرِّخِين المُحْدِثِين- أنَّ “السُّوْمِرِيينْ” هم الذين إخترعوا الدُّرُوعَ الحَدِيدِيَّة أثناء الحرب التي شَنَّها عليهم ” الإسْكِيْثِيُّونْ” – وَهُمُ أقوام جِرْمانِيَّة الأَصْل- ودارَتْ الحرب في شمال أوروبا حَيْثُ إضْطُرَّ ” السُّوْمِرِيينْ” إلى مُغادَرِةِ أرضِهُمْ والإنْسِحاب وبَدْءِ رِحْلَتِهُمْ العَجِيبَة عَبْرَ العالم. ويشير “جاكولوف” إلى أن ” السُّوْمِرِيينْ” مكثوا في روسيا الجنوبية – قبل مواصلة رحلتهم بإتجاه جنوب القارة الآسيوية – في أحوال مناخية معتدلة.

وفي القرن الخامس قبل ميلاد المسيح دَوَّنَ ” هيرودوت” الكِتابَ الشهير عَنْ وقائع التاريخ الإنساني في تسعةِ مجلداتٍ كبيرة أَوْرَدَ فيها أَنَّ ” السُّوْمِرِيينْ” بعد أنْ دَفَعَهُمْ ” الإسْكِيْثِيُّونْ” للإرْتحال ” أقاموا في سَهْلٍ خصيب في منطقة كُوْبانْ.”. وبِصَدَدِ هذه النُّقْطَة نَجِدُ أنّ ” دِيْفِيدْ سُونِّفِيلْ” في كتابه الذي يحتوي على شروح لمؤلفاتِ “هيرودوت” الصَّادِر سنة 1938م بعنوان “الأَمَازُونِيُّون” يكتب عن إقامة ” السُّوْمَريين” في منطقة كُوْبانْ كالتّالي: ” وبذلك عاشوا في حضارةٍ قائمة على الزِّراعَة وتربية المواشي، وعلى صناعةٍ قائمة بِدَورِها على إستخراجِ المعادِن مِنَ الأَوْدِيَة المجاورة.”. وحين نلجأُ إلى مَصَادِرِ علم المُقارَنَةِ اللُّغَوِيَّةَ تُطالِعُنا كلمة “أوسْتار” لغة الجِّرْمان القُدَماء وهو أصل مُعْظَم الأورُبيين ، والألمان جزء صغير من سُلالَة الجِّرمان، ومعنى الكلمة السَّابقة هو :”رَبَّةُ الصَّباح” أو كَوْكَب ” الزُّهْرَة” أو “نَجْمُ ماقبل شروق الشمس بقليل” وهو كَوْكَب مَعْبُود في أصْنامِ الماضي.و “أوسْتار” الجِّرمانيَّة هي “أَفْروْدِيتْ” اليونانيَّة و “فِيْنُوسْ” الرومانيَّة و”عَشْتار” البابليَّة و” العُزَّى” العربيَّة و”أسْتار” السَّامِيَّة و”عَشتروت” الشّامِيَّة و”أَشْتار” و”عَشْتار” في اللُّغة السُّوْمِريَّة.واللغة السُّوْمِرِيَّة هي هَدَفُنا مِنْ اللجوءِ إلى مَصادِرِ علم المُقارَنَة اللُّغِويَّة لإزالة حَتىَّ القليل مِنَ العَتْمَة التي تَسُودُ مَوْضِعَ النَّشأةِ الأَوْلَى للسُّوْمِرِيين ولُغَتِهُمُ.

ثم إستطردتُ بعد بُرْهَةِ صَمْتٍ قائلاً:

لقد تَضَمَّنَتْ “مَلْحَمَةُ جَلْجَامِشْ” السُّوْمِرِية وَصْفاً بالِغَ بالدِّقَةِ للطُّوْفان وهو حقيقة جيولوجيَّة وليست خَيَالاً إسْطُوْرِيّاً فقد تَقَصَّى علماءُ العَصْرُ الحديث آثارَ ذلك الطُّوْفان الرَّهِيب وأَثبَتُوهُ كحقيقةٍ تاريخيَّة. وفي لقائنا القادم سَوفَ أُحَدِّثُكَ عَنْ ذلك الكِتاب الحَجَرىّ البَدِيع وأحوالِ تَرْجماتِه الكثيرة إلى مُعظم لُغات المَعْمُورَة.

مقالات ذات علاقة

لماذا نكتب؟

المشرف العام

خواطر في ليلة مشئومة ….!!

عطية الأوجلي

الساخرُ اللاذع

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق