فيما كانت المركب تشق البحر الساجي، عصر ذلك اليوم، كان (الدكتور طرنيو) هناك في (القش).. بمؤخرة المركب منحنياً على وعاء دائري ذي حواف من الفلين يحوي خيطا رفيعا ومتينا من (اللت) يبلغ طوله حوالي كيلومتر، متفرعة منه حرائر صغيرة تنتهي أطرافها بصنارة مغروزة بقطعة الفلين.
كان يفك كل صنارة على حدة ويثبت بها قطعة بيضاء ناصعة من حبارات بحر يلتقطها من إناء بجواره، ثم يضع الصنارة على حافة الإناء بجوار التي سبقتها.
بمنتصف المركب، عند أكوام الشباك، ذات الطيات الثلاث المرصوصة بعناية ونسق، ليسهل انسيابها عند رميها، تقابل اثنان من بحارتنا يرفيان بعض فتحات الشباك، التي تقطعت خيوطها.
كنا نرمي شباكنا بعد العصر وننتهي منها قبيل المغرب، ثم نشرع في (تمساية) بالصنار، وثانية بعدها ثم نختتم الصنار برمية (التصبيحة). بعد ذلك نرفع شباكنا، وفيما نشرع في تسليك الأسلاك العالقة بها، تكون المركب في طريقها نحو المرفأ.
كنت مساعدا للدكتور في رمي ورفع (البرنقالي) الذي تخصص وبرع فيه، أما تنظيف السيبيا وتقطيعها مستطيلات بحسب حجم الصنارة فهو أهم ما أقوم به قبل أن يشرع الدكتور في تثبيتها بالصنار.
كانت الشمس قد بدأت تتلون بلون الغروب الدامي وهي تقترب من حافة الأفق الغربية، عندما غرفت من البحر دلوا من الماء لأسكبه حيث كنت انظف (السيبيا)، فرأيت بضعة دلافين قد تقدمت المركب، كعادتها، عندما تنتظم أصوات دقات المحرك. وعندما انتبه الدكتور إلى الدلافين نهض واتجه نحو مقدمة المركب، ووقف يراقبها بغبطة وهي منطلقة، تغوص وتطفو بنسق، كما لو أنها تطرز سطح الماء.
كان الرايس قد ترك الدفة لأحد البحارة وجلس بجوار الدكتور.
سكبت دلو الماء حيث نظفت (السيبيا) واتجهت نحو (القش) وبعد أن مررت على موقد الغاز، وسكبت من إبريق الشاي كوبين، أخذت أحدهما للرايس وجلست بجواره.
كان الرايس ينظر إلى الدكتور وهو منتصب بقامته الطويلة، وجسمه الرياضي المتناسق الرشيق، الذي لوحته الشمس فبدا، بعد أن صبغت الشمس شعره بلون غروبها، كتمثال من البرونز لمحارب روماني.
كنا نعرف أن الدكتور قريب جدا من قلب الرايس وذلك ما جعلني أقول له:
– “الدكتور طيب القلب وأخلاقه عالية..”.
– “إنه بالفعل كذلك. ثم انه ماهر في كل ما يقوم به، سواء في عمله أو في سلوكه مع الناس… يقولون أنه كان طالبا ذكيا قبل أن يفقد النطق!”.
ثم دفع بقبعته الحمراء إلى الخلف ومسح الأفق بنظره، وطار بخياله بعيدا.
ليس بمقدوري أن أعرف إلى أين؟.. وإن كنت قد خمنت إنه كان يتمنى لو أن الله وهبه ذكرا مثل الدكتور ليكون أخا لبناته الست… حتى وإن كان أخرس!!.
منذ ذلك اليوم الذي أطلق الرايس فيه اسم (الدكتور طرنيو) على سليمان الأخرس، التصق الاسم به ولم يعد أحد طوال الأشهر الماضية يناديه بغيره.
كان سليمان قد قضى ذلك اليوم، يطبب فيه سلحفاة بحر كانت قد علقت بشباكنا وعند سحبها انشرخت درقتها.
لم يكن أحد، من الصيادين، يعود بسلحفاة بحر إلا ليذبحها ويسلخ لحمها عن درقتها ويحتفظ بها، بعد أن يملحها ويتركها فترة في الشمس. ولكن الرايس كان قد منعنا من القيام بهذا العمل.. فالله- كما يقول الرايس:- لم يخلق درق السلاحف للزينة. ثم إن السلاحف مسكونة، لم ينج أحد من الذين اعتدوا عليها من مغبة لعنتها!.
وبسبب الكسر الواضح بدرقة تلك السلحفاة لم يهتم بها أحد من البحارة، إلى أن هم أحدنا برميها في البحر، غير أن سليمان أخذها- قبل أن يطلق الرايس عليه اسم الدكتور- وشرع في تطبيبها فطلب مني ضم الدرقة بيدي حتى التصق الشرخ ثم سكب ذلك الغراء السريع الالتصاق فوق الدرقة ولفها بقطعة من مطاط الإطار الداخلي لعجلة السيارة، وتناوب معي في ضمها حتى التصقت قطعة، المطاط تماما بالدرقة، وضمت الشرخ.
واحتفظ الدكتور بالسلحفاة بالمركب يطعمها بعض الأسماك الطازجة، ويعتني بها، وعندما نغادر المركب يحتفظ بها أسفل العنبر خشية هروبها، وكان يدليها بين حين وآخر في الماء، بعد أن يوثقها بحبل من منتصفها.
منذ ذلك الحين، أطلق عليه اسم الدكتور (طرنيو) فالتصق به، ويبدو أن سليمان أعجبه الاسم فلم يعترض عليه، خصوصا وأنه كان سعيدا بسلحفاته.
غير أنه ذات يوم، بعد حوالي شهر من علاجه لها انزلقت منه بالبحر عندما كان يدليها كعادته ولم يرها بعد ذلك أبدا. والواقع أنه لم يحزن كثيرا لهروبها، فقد أفهمني بطريقة أو بأخرى، أنه راض عن ذهابها. ذهبت السلحفاة.. ولكنها اكسبته اسما التصق به!.
(2)
عندما رفعنا، فانوس نهاية (البرنقالي)، اتجه الرايس بالمركب نحو شبكتنا الممدودة، التي لم تكن بعيدة عن المكان الذي رمينا به (برنقالي) التصبيحة لأننا كنا نرى الفوانيس الأربعة التي كانت تطفو فوق سطح الماء باعتبار أنها دلائل امتداد الشبكة بالقاع. وعندما شرع بقية البحارة في سحب الشبكة بعد أن التقطوا أول فوانيسها، كانت الشمس قد أتمت دورتها حول الأرض وطلعت علينا من الجهة الأخرى.. من الشرق خجولة، وكسولة، ومشرقة كعذراء.
كنت منهكا، فبمجرد أن لففت الحبال وضممت (البرنقالي) وغمرت الأسماك بالثلج، تمددت بمكاني متوسدا حافة مقعد كان قريبا من وغفوت.
أيقظتني يد قوية تهز كتفي بعنف، وعندما فتحت عيناي كان الدكتور يصرخ منفعلا:
– “أوو.. إإإ.. فك.. فك فكروو!!” ويشير بيده فنهضت في الحال مرتبكا ومفجوعا، ونظرت إلى حيث كان يشير.. لم أكن أعرف عما يشير، ولكن بعد أن تمعنت، رأيت منظرا عجيبا فهتفت عاليا، دون وعي مني:
– “يا سبحان الله.. يا سبحان الله.. يا رايس.. يا رايس.. يا جماعه!”
فك الرايس قرص التعشيق وأقبل نحوي مسرعا مفجوعا:
– “ماذا هناك.. ماذا هناك؟ أسقط أحد بالبحر؟”.
– “لا.. انظر يا رايس.. انظر هناك.. سلحفاة الدكتور!!”.
– “أين.. أين؟.. آه.. رأيتها.. سبحان الله!!”.
– “صحيح.. هي والله. قطعة المطاط مازالت ملتصقة بها! “قال أحد البحارة.
– “ملتصقة به.. وليس بها، ألا تراه ممتطيا أنثاه!!” قلت، فقد كانت (سلحفاة) الدكتور ذكرا لأنه كان في حالة تسافد مع أنثى!.
تسافد سلاحف البحر يتم باعتلاء الذكر أنثاه وإيلاج عضوه التناسلي بها، فيما تقوم الأنثى بحمله والتحرك به فوق سطح البحر، وقد يستمر تحركها به يوما أو يومين!.
كان الذكر الذي رآه الدكتور هو السلحفاة الذي عالجه، لأن قطعة المطاط كانت ملتصقة بدرقته!.
ظللنا لفترة مأسورين بما نشاهده، ثم شرعنا نتناوب على تهنئة الدكتور الذي بدا لي مبتهجا بما ألت إليه حالة مريضه!.
– “سبحان الله..” قال الرايس: “أيضيق البحر إلى هذه الدرجة. أيضيق حتى نلتقي مرة أخرى بالسلحفاة نفسها.. أم تراها جاءت لتشكر طبيبها؟”.
– “(سلحف) يا رايس.. سلحف ذكر؟” قلت له مازحا، فأجاب:
– ” سلحف.. يا سيدي.. سلحف.. لا تزعل”.
(3)
بعد ذلك الموسم تركت مهنة صيد السمك، وسافرت خارج البلاد عدة سنوات، وعندما عرفت أن الدكتور تزوج إحدى بنات الرايس وأصبح، لبقية بنات الرايس، أخ لم تلده أمهن. ثم علمت أن صهري تزوج بنتا من بنات الرايس، وهكذا ضاق العالم مرة أخرى والتقيت بعد أكثر من عشر سنين بالدكتور الذي أصبح من أمهر رياس الرصيف!.