قصة

قلوب الأخطبوط!!

– (معقول؟!) قلت، متعجباً، في ذات نفسي عندما قرأت بصحيفة (الأهرام) أن للأخطبوط ثلاثة قلوب!! ثم رن جرس الهاتف فرفعت عيني نحو نضد الاستقبال، وهناك عند طرفه الممتد نحو بهو العيادة، حيث ينتظر المرضى ومرافقوهم، رأيت القسيس، الذي دخلت العيادة خلفه مباشرة، يجلس بمواجهتي.

– (الو.. نعم. مواعيد العيادة من الساعة السابعة مساء حتى الساعة الحادية عشرة.. لا. يوم الأحد عطلتنا الأسبوعية.. لا، الأحد العيادة مقفلة.. العفو). كذلك قالت الممرضة قبل أن تضع سماعة الهاتف في مكانها.

على الجدار، فوق كرسي الممرضة، عند مدخل العيادة صورة، ملونة، معلقة للسيد المسيح عليه السلام وهالة النور تلف وجهه المبارك الوسيم، وبجوار الصورة لوحة منقوش عليها بخط جميل اسم الله جل جلاله.

صورة المسيح -عليه السلام- الملونة.. وأسفلها الممرضة الخمرية الأنيقة، وهي جالسة خلف النضد الأبيض المزدانة حوافه بشريط أخضر، والقسيس بجوارها بجلبابه الحريري الأسود الفضفاض ولحيته الكثيفة الرمادية والصليب الذهبي الكبير الذي يتدلى فوق صدره، وقلنسوته المميزة جعلت الحائط الذي يواجهني كما لو أنه لوحة رائعة الألوان زادت من بهاء بهو الاستقبال بالعيادة التي جيدة التكييف والإضاءة والنظافة.

سعل أحد المنتظرين، فيما مالت سيدة وهمست لشاب بجوارها يبدو أنه ابنها، فقام الشاب نحوي واستأذنني، مبتسماً في استعارة الصحيفة التي وضعتها على الكرسي الملاصق لي، فأشرت له موافقاً.

دخلت سيدة جميلة، وإن لم تعد شابة، كانت ترتدي فستاناً بنفسجياً يحوي قوامها الرشيق. أخذت ورقة مطوية من حقيبة يدها الزرقاء، التي كانت من نفس لون الحذاء، وكذلك الشال الحريري الذي يلف رقبتها، وقدمتها للممرضة.

– (هذا التقرير للدكتور إسكندر، وهو لا يعمل هذا اليوم.. مواعيده الثلاثاء والخميس من كل أسبوع..) قالت الممرضة.

– (ومن هو الطبيب الذي يعمل هذا اليوم؟) سألت السيدة.

– (الدكتور موريس ومساعده الدكتور جميل.) قالت الممرضة.

– (هل أستطيع أن أراه؟) سألت السيدة.

– (كشف.. يعني؟) استفسرت الممرضة.

– (نعم). قالت السيدة.

– (سوف لن يكون دورك قبل الساعة العاشرة والنصف).

– (حسنا.. اسمي هناء حلمي الصافي) كذلك قالت السيدة بعد أن سألتها الممرضة عن اسمها: (سوف أعود قبل العاشرة) ثم خرجت، فرحل معها بصري حتى الباب، ثم عاد مع شيخ مهيب قال بصوت عذب، وهو عند الباب:

– (يا معين).. كان طويل القامة، يرتدي جلباباً رمادياً ويلف رأسه بشال أبيض ينتهي أحد أطرافه فوق الصدر والآخر على الظهر. لحيته البيضاء زادت من سواد لحية الشاب الذي كان يرافقه، والذي كان يرتدي جلباباً أبيض وسروالاً قصيراً.

جلس الشيخ بجواري، بمواجهة القسيس وبجانبه جلس الشاب الملتحي، الحليق شعر الشارب.

– (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..) كذلك حيا الشيخ الموجودين بالعيادة.

– (وعليكم السلام.) رد الحاضرون، بمن فيهم القسيس، الذي خصه الشيخ بتحية أخرى ألحقها له:

– (سعيدة يا مولانا) قال الشيخ مستخدماً ذراعه الذي طواه عند جبهته.

– (أهلاً وسهلاً..) قال القسيس: (ألف لا بأس عليك يا حاج).

– (الحمد لله.. الحمد لله، المؤمن ممتحن بالمرض.. الحمد لله على كل ما يتفكرنا به جل شأنه) قال الشيخ أو الحاج كما خاطبه القسيس.

– (صدقت.. نحن عباده وهو لطيف بنا..) قال القسيس، غير أنه لم يستمر في كلامه فقد أشارت إليه الممرضة بالدخول على الطبيب بعد أن خرج الذي سبقه.

– (لا أدري..) قال الشاب الملتحي، الحليق الشارب الموسومة جبهته ببقعة السجود: (لا أدري ما الذي يجعلك تصر على متابعة علاجك في هذه العيادة بالذات.. في مصر آلاف العيادات للمسلمين.. لماذا هذه العيادة بالذات؟!)

– (كلها عيادات ومستشفيات مصرية، وكلنا أبناء الله!!، قال الشيخ ثم التفت نحوي وقال لي بابتسامة دافئة ودودة: (أهلا.. أهلا يا أستاذ، ألف لا بأس عليك.. اطمئن، الدكتور موريس ماهر في متاعب القلب، أنا أعرفه منذ أكثر من عشر سنين، لقد أجرى لي عمليتين وأعتقد أنه ينوي إجراء الثالثة..).

– (سليمة بإذن الله..) قلت له، فيما رأيت الشاب الملتحي يهز رأسه يميناً ويساراً ثم ينتصب واقفاً، ويقول للشيخ: (سوف أصلي العشاء بالمسجد المجاور وأعود إليك مباشرة. عليك أن تدخل للطبيب لوحدك، وارجوا أن لا تقرر معه شيئاً قبل أن نراجع الدكتور محمد ابن الشيخ متولي.. فقد أكد لي أنك لا تحتاج عملية لأخرى).

– (حسناً..) قال الشيخ للشاب الذي كان في طريقه نحو الباب: (ادع لي ولك بالصحة والهداية).

– (يبدو أنه غير راض على هذه العيادة.. أهو ابنك؟) سألت الشيخ بعد أن غادر الشاب الملتحي العيادة.

– (نعم، انه ابني يريدني أن أتعالج بمستشفى يشرف عليه زملاء له..) قال الشيخ.

– (مستشفى إسلامي..؟) قلت له مستفسراً، يدفعني حب استطلاع تملكني كالعادة.

– (لا تكن مثله..) قال الشيخ بابتسامة عذبة: (ليس هناك مستشفى إسلامي وآخر مسيحي، هناك مستشفى وكفى.. ثم أن المستشفيات كالمساجد والكنائس كلها لله..) ودون أن يمنحني فرصة لإبداء رأي، واصل قائلاً: (أنا لو كنت مسيحياً لتطببت بمستشفى إسلامي؟!).

– (غريبة!!) قلت له: (ولماذا؟).

– (يا صديقي.. عندما يعبرون بك باب غرفة العمليات، فإنك لا تملك إلا الدعاء إلى الله والرجاء أن تخرج منها سالماً، والطبيب الجراح لا يملك بجانب مهارته، إلا الدعاء لينجح في مهمته أنت تدعو الله من باب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يطرقه من باب عيسى عليه السلام.. أصبحت فرصتك أمام الله أفضل!!.. أليست دعوتان مختلفتا السبيل أفضل من دعوتين بسبيل واحد!!).

لم أرد أن أقول له!؟ وودت لو أن يستمر حديثنا، ولكنني قمت، فقد نادت الممرضة على اسمي بعد أن خرج القسيس من غرفة الطبيب.

– (لقد سعدت كثيراً – يا حاج- بالحديث معك. قد نلتقي مرة أخرى!؟) ودعته ونهضت نحو غرفة الطبيب، مبهوراً بفلسفة الحاج.. بتناغم دقات قلوب بعض مخلوقات الله الطافحة بالود والدفء، والمحبة والحياة..

عندها تذكرت قلبي المنهك فوددت لو أن الله خلقني كالأخطبوط بثلاث قلوب.. أجل ثلاثة قلوب..!!

مقالات ذات علاقة

حكايتان

زكريا العنقودي

لعنة الرواية

نادرة عويتي

شهرزاد الشاي..شهريار السيف

نجوى بن شتوان

اترك تعليق