الترجمة فن يحتاج إلى دراية باللغة سواء المترجم منها أو إليها، لكن لا تأتي الدراية باللغة في المرتبة الأولى لإنجاز ترجمة ناجحة، بل لا بدّ للمترجم الناجح أن يكون ملمّا بتفاصيل النص اللغوية والفكرية والتاريخية، ليتمكن من نقل روح النص من لغة إلى أخرى. “العرب” التقت بالكاتبة التونسية إيناس العباسي للحديث حول ترجمتها لرواية “نهر صغير” للروائية الفيتنامية كيم ثوي.
حاورتها: خلود الفلاح
استبدلت الرواية اليوم الحديث عن القضايا الإنسانية الكبرى بشكل كلي كالنضال مثلا، بملاحقة ما تمر به المجتمعات الإنسانية المعاصرة من معاناة وتفاصيل وتغييرات، متناولة إياها بالنقد والمتابعة كالصحافة، وهذا يجعلنا نتساءل إن كانت الرواية قد أصبحت في عالم اليوم وثيقة تاريخية واجتماعية لحياة الشعوب؟تبدأ رواية “رو” أو نهر صغير للروائية الفيتنامية كيم ثوي والتي قامت بترجمتها إلى العربية الكاتبة التونسية إيناس العباسي من على ضفاف نهر “راش جيا”، وعلى متن مركب حمل العديد من الأسر الفيتنامية الهاربة من القمع الشيوعي، رحلت عائلة الروائية كيم ثوي إلى مخيمات اللجوء في ماليزيا، حيث قضت الليالي الأولى في مخيم ضم ألفي لاجئ في وقت يتوجب فيه استقبال مئتين فقط، لتبدأ رحلة البحث عن وطن بديل أكثر أمانا.
النص في العربية
عن تجربتها الأولى في مجال الترجمة الأدبية تقول إيناس العباسي “في البداية كنت أمضي في الترجمة بحذر محاولة الحفاظ على تركيبة الجملة بنفس موسيقاها الأصلية، حيث كثيرا ما تتعمد الكاتبة اختيار كلمات بعينها، لها نفس الإيقاع رغم أنها لا تكتب الشعر، وكان من المحال الحفاظ على هذا الإيقاع. ثم وبانغماسي في تتبع تفاصيل عوالم النص أكثر، والتزامي بنقل المعنى، لم تعد هذه النقطة هي ما يشغلني”.
وتضيف “أكثر ما لفت انتباهي وأنا أنقل النص إلى العربية، ان تأثري بأحداث الرواية كان أكثر حدة عندما قمت بمراجعتها، فحين قرأتها في نسختها العربية بدا لي وكأنني لم أقرأها أصلا بالفرنسية، وهذا أشعرني بأهمية اللغة ومدى تأثيرها”.
للروائية كيم ثوي عدة كتب منها “لك” و”روما” و”مان”. عن اختيار إيناس العباسي لرواية “رو” تحديدا؟ توضح ضيفتنا “في الحقيقة الكتاب هو الذي اختارني. بدأت علاقتي به من خلال الغلاف، فمنذ بضع سنوات بدأت في قراءة كل ما يقع في يدي من أدب آسيوي، دون الاكتفاء بما يترجم إلى العربية، وتمكنت من ذلك نظرا لاهتمام الناشرين الغربيين بهذا الأدب.
الرواية ليست مطالبة بتسجيل تغييرات بلد أو منطقة كما أنها ليست مطالبة بالسعي إلى تقديم رسالة ما
على غلاف رواية نهر صغير في نسختها الفرنسية، توجد صورة لامرأة فيتنامية تغطي قبعتها المخروطية (القبعة الفيتنامية التقليدية) وجهها. غلاف غامض في ظاهره، فمن هي هذه المرأة؟ وما قصتها؟ بالإضافة إلى النبذة في الغلاف الخلفي حيث تعرّف هذه الرواية كأولى روايات كيم ثوي، وكعمل قدمها بقوة إلى الساحة الأدبية ومن هنا جاء اختياري لهذه الرواية”.
الرواية تؤرخ
الرواية تعكس التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها الروائية من فيتنام إلى غرانبي. فهل كانت الرواية اليوم مطالبة بمواكبة كل تغيير في المجتمعات؟ تجيب العباسي “حسب اعتقادي الرواية ليست مطالبة بأن تسجل تغييرات بلد أو منطقة كما أنها ليست مطالبة بأن تسعى إلى تقديم رسالة ما. هذا ليس ضروريا، من الممكن كتابة رواية لأجل الحكاية ذاتها؛ لمتعة قول حكاية، لمتعة قراءة هذه الحكاية. يكفي قول ماركيز بأن الحكاية نفسها يمكن حكيها/ قولها بأكثر من طريقة مختلفة، هذه المقولة تلخص حسب رأيي أهمية الرواية والكتابة كوسيلة فنية متعددة الوجوه والمعاني.
وتضيف العباسي “يمكن للرواية أن تلعب دورا توثيقيا أو تسجيليا لتاريخ بلد أو مجتمع بعفوية وذلك عبر تسجيل التاريخ الشخصي للبطل ومتابعة رحلته هو، متابعة أحلامه وخيباته ونجاحاته. إن رواية مثل رواية ليون الأفريقي وهي رواية تاريخية بامتياز، تابعت رحلة شخص واحد، رحلته في الأماكن وفي الفكر والأديان والعلم والحب، ولكنها عكست تاريخ حقبة هامة شهدتها الإنسانية كان فيها الصراع بين الحضارات على أشده،وأجزم بأن هذه الرواية البديعة أفضل من كتب التاريخ المؤرخة لتلك الحقبة”.
يبدو أن معاناة الشعوب تتشابه في القسوة وإن اختلفت في تفاصيلها. وهنا تقول ضيفتنا “دون شك؛ بل وتتشابه أحيانا في بعض التفاصيل. اليوم ونحن نشاهد الإخوة السوريين في رحلة خطرة عبر قوارب لا توجد بها أدنى مقومات الأمان وتحمل أكثر من حمولتها، وهي التي لم تخصص لنقل الركاب، أستحضر رحلة الكاتبة كيم ثوي مع عائلتها في قوارب مماثلة في منتصف القرن الماضي عندما هرب الفيتناميون من بطش الشيوعيين ونيران الحرب في بلادهم. القسوة التي تعاني منها الشعوب تتحول إلى أمل في النجاة، وبالتشبث في هذا الأمل تتميز الشعوب عن بعضها البعض، الأمل في التخلص من هذه القسوة والانطلاق من جديد نحو حياة أفضل ومستقبل أجمل سواء بالعودة إلى الوطن المثخن بالجراح والعمل على مداواته أو بالعمل من بعيد كلا حسب إمكانياته”.
سيرة الكاتبة
رواية “رو” سيرة ذاتية للكاتبة كيم ثوي. فهل يمكن أن تكون سيرة الكاتب معينا كافيا للكتابة؟ لترد المترجمة “حسنا، ما عدا تغييرها للأسماء، فإن الرواية سيرة ذاتية للكاتبة مع بهارات الكتابة. وباستعمالها للغة مكثفة وشعرية جعلت نصها رشيقا يشد القارئ من أول فصل”.
وتضيف “لكن بكل تأكيد هذا غير كاف، لذلك احتاجت كيم ثوي لكتابة هذه الرواية عشرين سنة. وكأن ما تقدمه لنا سيرتنا الذاتية كمبدعين، يعاد تدويره بفعل الوقت، بفضل تجاربنا في الحياة، وبفضل علاقتنا بالكتابة ذاتها، لعلها المهارات التي ينميها الكاتب كي يعجن بها تاريخه الشخصي ويشكل منه حياة كاملة، بل عالما روائيا كاملا؛ فيه أناس يتنفسون ويحبون ويمرضون ويموتون. لو كانت السيرة الذاتية كافية لأصبح كل الناس الذين يدونون يومياتهم روائيين”.
___________________
نشر بصحيفة العرب