متأخِراً جداً , رُبما عشرون عاماً أو يزيد , مرّت قبل أن أقرأ أو أجئ إلى رواية ” كتاب التجليات ” للروائي والكاتب والشاعر – وإن لم أقرأ لهُ شِعراً – جمال الغيطاني , ذلك العاشق المستهام للحياة والوجود , الذي يستطيع أن ينتقل من زهرة إلى أُخرى ليمتح منها أجمل وأحلى رحيق , هكذا أراه وهو ينحاز إلى كل ما هو جميل في الحياة ويضطلع بدوره الخطير في اجتراح الجمال ومراكمته , وهو يتناول في مقالاته بشغف العمارة القديمة والموسيقى الإنسانية بصفة عامة والشرقية منها خاصة وتلك المتعلقة بالتصوف الإسلامي , وهو يُبحِر قصياً في التاريخ ليفتض بعض أختامه وينبش في أسراره ويكتشف مخبوءاته الثمينة ويجلو ذخائره , وهو يُحلق عالياً في فضاءات الكتب ويقتفي خطو ما دبَّج القلم من أثار شاهِدة على تجربة الإنسان فوق هذه الأرض مُذ كانت خلاء شاسع وفراغ كُليّ إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من عِمران وامتلاء صنعته الحضارات المتعاقبة وتراكم الخِبرات الإنسانية , قبل أن أقرأ هذا المتن كنتُ قد تعرفت إلى جمال الغيطاني كاتِباً وعاشِقاً للفنون والتراث وللتاريخ من خلال ما نشرت لهُ سلسلة كتاب في جريدة منذ سنوات وعبر ما خطهُ في زاويته الأسبوعية بأخبار الأدب وعبر إطلالاته التلفزيونية – وهذه يعض محاسن الفضائيات – كضيف ومُحاور , أو ببرامجه الثقافية التي كان يعدها ويقدمها وأذكر منها برنامج ” تجليات مصرية ” الذي يتتبع أثار نجيب محفوظ في القاهرة القديمة والمصحوب باختياراته الموسيقية الصوفية التي لا تنُم إلا عن ذوق رفيع وذائقة شفافة .
تجليات روائية
موضوع حديثنا هنا هو كتاب التجليات الذي يتعذر تصنيفه تحت أي جنس أدبي لأنهُ وببساطة شديدة يأخذ بطرف من كل منها , ففيه امتزجت عدة أساليب وطُرق فهو والحال كذلك , النص العابر للأجناس دون أن يُقيم في إحداها ويستقر في نوع , ولا غرابة أن اطلقنا عليه هذا التوصيف الذي يستحقه لأنهُ فِعلاً نوع آخر غبر مُشابه لما سبقه من أنواع ووفقاً لهذه النتيجة نستطيع أن نُضيف أنهُ نص أو كتابة سابقة لعصرها وهي أكثر حداثة من بعض ما نقرأ اليوم مع أن تاريخ وضعها يعود إلى سنوات خلت لا تقل عن العشرون , وهذا يقود إلى حقيقة أن ليس كل جديد يحمل صفة الحديث بالضرورة , بينما قد يكون القديم حديث بشكل من الأشكال , إذ تبدو بعض قصائد العصر الجاهلي والعصور الإسلامية المتأخرة أشد حداثة من نصوص تُكتب اليوم وتدّعي الحداثة , هُنا نقف عند حداثة عربية إسلامية خالصة ونقلة متفوقة دون أن تتوسل بحداثة الغرب أو أن تتكئ على أي نوع من الإستعراضية والتعالي على القارئ وهو طرف لا تقوم العملية الإبداعية في غيابه فالمختبر الذي ولجتهُ اللغة والكتابة ذو هوية عربية وإسلامية .
نقول نص حديث لأنهُ فعلاً كذلك عندما سافر بعيداً في دروب التجريب والتجديد في جُرأة وإقدام يُحسد عليهِما , هذا النص المتماسك على المستويين , الشكل والمُحتوى \ اللُغة والمضمون \ أسلوب الصياغة والموضوع , هو مزيج أو خلطة من عدة أصناف أدبية , هوَ السيرة الذاتية التي لو قُمنا بإزالتها من الرواية لما تبقى مِنها شيئاً , ثُمَ ومع أنها رِواية إلا أنَ تقسيماتها ووقفاتها وعناوينها الفرعية تجعل منها قصصاً قصيرة تتصل أحيانا وتنفصِل أحياناً وتبلغ درجة من التكثيف والإيجاز حتى يُمكن اعتبارها قصة قصيرة جداً , نقدر بِكل اطمئنان أن نفصلها عن سياقها العام أو ما يسبقها ويليها ونكتفي بِها ككيان أو نص قائِم بِذاته لهُ وجوده المتكامل دون الحاجة إلى أي دعم خارجي , وزادَ ذلك التكثيف والإيجاز نضارةً وإيحاء ً الأبيات الشعرية المنتقاة بعناية تامة التي جرى بثها في ثنايا وأركان النص وانعِطافاته الحادة وهيَ تُعبر تماماً عن الحالة العامة أو الأتجاه الكُلي للنص الذي ينطوي على شُعلة صوفية ظلت متوهجة منذُ اشتعالها ببداية النص وحتى بعد أن يقلب القارئ آخِرَ صفحة , وتلك الصوفية التي اقتسمت مع الخصائص الفنية الأُخرى النص , الذي لن يبقى منهُ الكثير إن نحنُ أزلناها واستبعدنا تأثيراتها أو غضضنا الطرف عن حضورها , بيدَ أنَ ذلك يبدو مستحيلاً على المستوى العملي .
أيضاً القرآن كنص مُقدس وكأسلوب عيش كامل ومنهج حياة , نلحظ حضوره القوي هُنا أن لم يكن بشكل مُباشر فبِصورة ضمنية ومضمرة , إلى جانب التراث الإنسانيّ عامة والإسلاميّ والعربي على وجه الخصوص , وهذا أن دل على شيء فإنهُ يدُل على القاعدة المعرِفية العريضة التي ينهل منها الكاتب مادتهُ وزاده , لِأننا لابد أن نصطدم بين الفينة والأُخرى ونحنُ نرتحل بفيافي ومتاهات هذا المتن الهجين – ونقول هجيناً ليس بقصد التقليل من شأنه بل على عكس ذلك نقصد مدحه وتمييزه عن غيره – نصطدم بالكثير من المواقف التاريخية والأسماء والرُموز والأشعار والحِكم والأمثال ولابد أن يكون القارئ في مستوى هذا الطرح ومُطّلع على جزء من هذا التراث ونتف مما كتبهُ الأسلاف وما حدثَ في الماضي القريب والبعيد حتى يستمتع بِهَذِهِ الرواية ويقبض على بعضاً من المعنى المدسوس بين سطورها , لِأنها فعلاً تنطوي على أكثر من نسق ومستوى تأويلي , ولا نُغالي إن قُلنا أنَ كُل قارئ مجتهد لابد وأن يحظى في نِهاية الأمر بقراءته وتفسيره الخاص والذي يتباين بالضرورة مع قِراءة الآخرين لِذات المتن الروائي .
مغامرة تجريبية مبكرة
لدينا الكثير مما يمكن أن نقوله حول هذه الرواية التي يتعذر أن يظل من قرأها هو ذاته قبل قراءتها , لأنها بالتأكيد ستُحدِثُ تغييراً وتترك لديه تأثيراً تتفاوت درجاته ولكنه ملموس , نحاول أن نختصر ونلجم القلم كي لا يستطرد ويجمح بعيداً وطبعاً كل ما تم استعراضه من خصائص فنية غير قادر على أن يُخفي نزعة التجريب التي اتجهت إلى دمج الواقعي في اللاواقعي أو ما نستطيع أن نصنفهُ بكل أريحية ضمن تيار الواقعية السحرية التي اشتهرت بها رواية أمريكا اللاتينية , ولما نذهب بعيداً فها هي هذه الرواية وقبل أن يتبلور هذا المفهوم وتكتمل هذه النظرية , تخوض في هذا التصنيف مُبكِراً وتقتحم مجاهله في مُغامرة ناجحة انتقلت فيها الشخصيات فيما يُشبه ما يحدث في الأساطير والخُرافات من الواقعي الملموس إلى الحلم والذي يقع ما وراء الحياة أو بالأحرى إلى مستويات معيشية وحيوات أُخرى لا زالت في طي الغيب , أما الزمن فقد تقلص هُنا وتفتت وتشظى واستطال واستحال إلى قِطع وفقدَ تماسُكهُ وهيمنته وسلطته فالماضي قد يكون حاضِراً والحاضر قد يكون ماضياً والمستقبل هو الماضي والماضي هو المستقبل فارتحلت فيه الشخصيات بِأجسادها وبخيالاتها وأطيافها ذهاباً وأياباً صعوداً وهبوطاً دون أية صعوبات وتداخلت الأزمان والمستويات المعيشية والحيوات الحقيقية مع الحيوات المفترضة وتعددت الأمكنة فبرزت أمكنة جديدة وانمحت أمكنة قديمة زارتها الشخصيات وتنقلت فيها بِلا أية قيود وحواجز في خِفة تُحسد عليها حتى غابت الحدود واندثرت الخطوط الفاصِلة فيما بينها .
وكأنها كُتبت في جلسة واحِدة متصلة وبنفس واحد , جاءت الرواية على مستوى متسق فلا فجوات تتخللها ولا ضعف يشوب صياغتها المُحكمة , وأضاف إليها التدفق الحُر الأفكار والهطول الشديد والمستمر للمعاني قوة إلى قوتها ومتانة إلى متانتها .
ولِأنها أخذت بِطرف من كُلِ شيء فلا نُضيف جديداً إن قلنا أنَ النص تماسَّ في أكثر من نقطة وموقع مع أدب الخيال العلمي الذي قد يسبق العلم بأشواط بعيدة ويتجاوز المخترعات والأبتكارات بِأزمان مديدة , أما عن أشكال الأدب الأخيرة التي نادت بِها جماعات أدبية ظهرت في أوروبا للتعبير عن التَّفسخ وعبثية الحياة مع تبني أبجدية الحروب وشيوع ثقافة القتل والإبادة والسيطرة وانحِدار الإنسانية إلى وحشيتها الأولى بعد حربين عالميتين راحَ ضحيتهما الملايين من البشر وخرج منهما العالم مُنهكاً متهالِكاً ومُحطما , وتطلب الأمر عقودا طويلة من العمل حتى استعاد العالم بعضاً من عافيته , مدارس مثل الدادائية والسوريالية والوحشية وأدب اللا معقول في الشعر والرواية والمسرح والسينما والتشكيل وغيره , فقد أدركت الرواية عن وعي أو عن غير وعي أهمية هذا الأتِجاه فأخذت مِنهُ يطرف وعزفت على وتر من أوتاره , ولا نجد داعياً لاستحضار نماذج من هذا الأتجاه في الرواية لِأنها تمتلئ بِهِ وهي لا تخفى على القارئ الفطِن والمتلقي الجاد , وهذا التنوع الشديد والتجاور في الأساليب وفنون الكِتابة لا ريب في أنهُ يرفع من منسوب الدهشة والتشويق والإثارة اللازِمة التي يبحث عنها القارئ , فالقارئ بجاجة إلى ما يهزه و يرجّه ويُولِّد الأسئِلة في نفسه ويستثير ذِهنه في حاجة إلى ما ينتشلهُ من الخُمول ويدفع بِهِ إلى الثورة والتمرد والأختلاف ومُسائلة السائد والمُهيمن والنبش بِعُنف في المُسلمات والبديهيات , لا إلى ما يدعوه إلى السكينة والهدوء ويُهدهِدهُ كي يستكين إلى الدعة والنوم والتغييب . ولئِن شابَ العمل بعض الغموض فإنهُ الغموض المُحبب الذي يدفع بمستقبلِهِ إلى البحث والتفاعل والتأمل وحتى المُشاركة في تأثيث النصّ , وليس غموض العجز والتهرب واستغفال القارئ الذي قد يمتلك من الفِطنة والدراية والنباهة اكثر مما يمتلكه الكاتب نفسه وبِهما يستطيع أن يُميز بين غث الأدب وثمينه .
بُنى متعددة
وعن مِعمار وهندسة النص أيضاً فقد جاءت مختلفة وجديدة وتجريبية إلى أبعد الحدود فالمشهد المرسوم بِدقة لرُبما تناسل مما سبقه أو تفرِّع إلى عدة مشاهد متوازية دون تقيد بنمطية أو نِظام مُعين حيثُ ليسَ ضرورياً العودة إلى استكمال مشهد مقطوع ولا تراتبية , فالمشهد قد يبدأ من نِهايته ويتدرج أو يتدحرج نحو البِداية , ومثلما أنهُ مرتبط بِمشاهد أُخرى قد يكتفي ببنائه دون أن يستعين بغيره وقد ينطلق التصوير من المنتصف ليتحرك يميناً وشِمالاً في ذات الوقت . يحدث كل ما مرَّ ذِكره في ظِل شعرية غامِرة هيمنت على النص ومنحتهُ صِفة الشِّعر حتى وإن جاءت في هيئة نثر خالص , لِأن المفردات والتعابير والجُمل مُغرقة في الشعر وهي تعود إلى قاموس لغوي لا يخص إلا الكاتب وهذا لا يعني نوع من أنواع الأحتِكار اللغوي بِقدر ما هو اجتهاد لغوي , لِأن اللغة ككنز غير مُكتشف بالكامل أو ككائِن حي متفاعل تمنح كل كاتب أو المتعاطي معها بِقدر اجتهاده وجديته , وهيَ هُنا في حضرة كاتِبنا تُفرجُ عن الكثير من دُررها وذخائِرها , حتى أنَ القارئ بعدَ ذلك لا يجد كثير عناء في التّعرف على أسلوب الكاتب أن صادفه في نص غير موقّع من قِبل كاتبه , لأن الأسلوب والصياغة هُما بِمثابة الهوية والبصمة , ولكن ليس إلى وقت طويل إذ يجب على الكاتب أن يُنوع أساليبه ويُقحم أو على الأقل يُجرب تقنيات جديدة ويرفد كتابته بحيلٌ أُخرى حتى لا يكرر نفسه ويجتر منجزه.
وكما ان لا بِداية متعينة للنص فلا نِهاية لهُ وما انتهاء الصفحات إلا نقطة للأنطِلاق نحو اللانِهاية التي سعى النص إلى رسمها في أُفق المتلقي , فالنص بانفتاحه اللامحدود ومثلما انهُ يزخر بالكثير فإنهُ يعِدُ بالكثير .
وإذا ما ذُكِرَ المِعمار والبِناء الروائي فلابد أن يُذكر إلى جانبه التصوير والتشكيل والرسم والسينما واللون والموسيقى الغامِرة التي جاءت كخلفية ومؤطِر عريض للنص , ومن باب رد الفضل إلى أهلِهِ , يجب الإشارة إلى هَذِهِ الاشتراطات الفنية التي تظافرت مع عديد الأشتراطات الأُخرى لِتُعطي هذا المِتن شكله النِهائي , ففيه من كل ما سبق ذكره أثر , ألم نقل أنهُ نص عابر للأشكال الأدبية فها هوَ يستهزأ باستنتاجنا المتواضع ليفاجئنا بِأنهُ أيضاً نص عابر للفنون السمعية والبصرية .
شِعرية غامرة
وإلى جانب أنها تضج وتحتشد بالشعر , تضج الجُمل بالحكمة التي تأخذ صورة القول الجامع والتعبير المأثور والمتواتر الذي يختزل خِبرة حياتية مُعينة ويختصر طريق طويل في خطوة واحِدة تؤدي إلى الهدف , وهذا ما يجعل البعض , خاصة ممن تتوفر لديهم قاعِدة قِرائية تراثية يعتقد بِأن النص الماثل بين أيدينا ينتمي إلى حِقب وأزمان قديمة وليس إلى هذا العصر إذ أنهُ غالِباً ما ينتهج نهج بعض الكُتب القديمة مثل كِتاب العقد الفريد لِأبن عبد ربه والأغاني للأصفهاني والبيان والتبيين للجاحظ والمقابسات والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذ يلم بزهرة من كل بستان وعِطر وفوح من كل روضة غنّاء . ونبخس الكِتاب حقه إن لم نأتي باستشهادات مِنهُ ونماذج حية لِما ذكرناه آنِفاً للبرهنة على الحِكمة المبثوثة في ثناياه , حيثُ يكتب الغيطاني مثلاً ” كل ماضي يبدو لمن عاشهُ جميلاً حتى وإن امتلأ بالصِعاب ” ” وكل شيء في سفر دائم ” هَكذا في مُباشرة وامتلاء نكاد نُغبطهُ عليهما , أما عن الشعر فتكفي هذه المقاطع لِتمنحنا نُبذة عن اللُغة الشفافة والسلِسة للرواية .
ولمّا تيقنت إني لستُ أُبصركم أغمضتُ عينيَّ فلم أرى أحداً
أو
كأن سِراج الوصل أزهَرَ بيننا فهبت ريحٌ مِن البين فانطفأَ
فمثل هذه الأبيات الرقيقة كثيراً ما صدّرَ بها الكاتب مقاطعه النثرية وهيَ إن لم تكُن لهُ فإنها تُعبِّر بِحق عنهُ وتُبلغ رسالته .
ولنتأمل معاً هذه السطور التي وردت بالرواية ثُمَ نحكُم عليها .
أما الظمأ المعنوي فغير متناه , منه الحنين إلى المفقود , إلى الزمن الذي ليس في المتناول , إلى رؤية محبوب غائب لم يعُد في إمكاننا إدراك طلاته وطلعاته , إلى لحظة نائية لم يتبقى سواها من سنين عديدة , إلى رائحة عبرت حواسنا في زمن قصي , إلى وقفة عند ناصية منسية لم تدُم غير ثواني , إلى صفير قاطٍرة تمضي , لا نعرف إلى أين أو بمن لكنها تُحرك الأسى وتُرجعنا إلى ذكرى الأحباب البعاد , إلى حفيف فستان إلى مذاق طعام ألِفنا طاهيه , أعتدناه ثُمَ رحلَ عنا , إلى ممشى في حديقة , إلى ظِل مِئذنة , إلى رائحة بساط عتيق ورُبما إلى جلسة ود انتهى وما عاد , قد يكون الظمأ لمعرفة الحقيقة والكُنه الغامض للأطِلاع على سر الأشياء وغوامض الموجودات , إلى ما ينقضي , ما يُفلت منها , وما يتسرب من بين أيدينا , الظمأ حال ومعنى تتعدد فيه الأوجه .
أليست هَذِهِ القِطعة , هيَ الشِّعر بعينه ؟ أليست قصيدة متكاملة الأركان بوحدتها العضوية ولُغتها الأستثنائية حتى وإن كانت في صورة نثر , ثُمَ لنقرأ المقطع التالي حيثُ نقبض على الشعر متنكِراً في أهاب الشعر مرة أُخرى ومتلبِساً بارتكابه , إذ يخط الغيطاني ويُقرر .
” هُنا وقع لي كشف بطيء متأني , لكنهُ ثاقب , نافذ , لهُ عندي تأثير عظيم , وبِمقتضاه أطّلعت على بعض من خواطره الليلة والأصوات التي أعتاد سماعها , ومنه دبيب فِئران وصرصار ليل , وصفير غامض يتردد في ساعة معينة وخطوات تقترب وتبتعد , وباب يُفتح ويُغلق في مكانٍ ما , ونِداء مجهول وخطوات جندي الدورية , يتأكد من متانة أقفال الدكاكين , وآهة مكتومة وصفير قطار يعبر الخلاء البعيد , صوت الحنين وآذان الفجر من المسجد القريب , عسعسة الليل وأصواته المُبهمة التي رُبما يجئ بعضها من أعماق الكون السحيق , وتنفس الصبح “
ونورِدُ هُنا بعضاً من عناوين مقطوعاته النثرية حتى نرى الأمتلاء الصوفي والعشق اللانهائي لأصل الوجود وعلة استمراره إذ تصادفنا عناوين هي عبارة عن مصطلحات صوفية دأب المتصوفة عل استعمالها في أدبياتهم والأستشهاد بها في كلامهم الذي ينحو نحو الإيحاء والإشارة أكثر من الوضوح والتصريح , ولهذا تبدو لغة المتصوفة مُرهقة وغامضة لمن لا يمتلك بعض مفاتيحها .فهُنا تُصادفنا مفردات مثل سماع ونوى وتجلي وترتيل وبحر البداية وطرح وإفصاح ووصل وإطلالة والسفر القصي واللقاء والتلقي وغيرها الكثير من المصطلحات المشحونة بالطاقة الشِعرية والروحية .
وفي خصوص التاريخ نستطيع أن نستدرج ونستشهد بنصف الصفحات لو أردنا البرهنة على قوة حضوره وفاعليته واستثماره وإسقاطه على الحاضر , ولهذا نكتفي يهذا القدر ونُحيل القارئ إلى الرواية التي لا جِدال في أنهُ سيعثر بداخلها عن كل ما يبحث عنهُ ويرتجيه فإن كانَ يبحث عن المتعة – متعة القراءة – فهيَ أول ما سيحظى بِهِ كمكافأة عن خوضه للمتاهة وركوبه للصِعاب , لِأن القِراءة هنا تحتاج إلى استنفار للعقل واستعداد ذهني فالعمل ليس من الأعمال التي يطرح جمالياته ومقاصده عند القراءة الأولى ويستنفد إمكاناته ويتوقف عن توليد المعاني , وإن بحثَ القارئ عن المعرفة فهي منتشرة في زوايا النص وإن ابتغى السحر والجاذبية فهو مصطدماً بهما منذ الصفحات الأولى هذا ناهيك عن الخفة والسخرية وحس الفكاهة والحفر المستمر في اللغة والبيان .
إذاً هذا غيض من فيض وقليل من مما تُقدمه الرواية ويعد به النص المفتوح على الحياة .
15- 6 – 2002 م