قديما، وعندما كنتَ صغيراً تذرع شوارع طرابلس دون كلل أو ملل.. تركض في أزقة مدينتك الحزينة مثل قط قد خُلق لتوه وأول ما يجب عليه فعله هو اكتشاف المكان الذي حوله.. كنتَ حينها تحلم بأن تكون كبيرا، لتكتشف عالمك الذي حولك من خلال عيون مفعمة بالحياة.
لقد كنتَ تعرف نصف هذه المدينة التي يكسوها الحزن والعتمة، وضجيج السيارات، وأصوات البحارة المتجهين صوب الجزيرة.. كنتَ تعرف نصف هذه المدينة الحزينة، وتعرف الحاجة تِبْره، والعم إسماعيل وابنه الذي يقبع في السجن منذ أمد، وتعرف سائق التاكسي سالم خريج كلية العلوم.. وطفقتَ تحلم باليوم الذي تصبح فيه كبيراً.
لقد كنت تحلم بهذا اليوم، لا لأن تشتري سيارة لتكتشف بها نصف المدينة الآخر والذي لم يكن أحسن حالا من نصفها الأول.. ولا لأن تصبح عميدا لمشجعي أحد النوادي، لتجلس بعد ذلك في مدرجات ناديك وتساهم في شتم النادي الآخر بما ينسيك حلمك.. لقد كنت تحلم بأن تكون شابا يافعا يمسك بحقيبته ويتجه نحو كلية الحقوق، ليغدو بعد ذلك محاميا فذاً.. كي يثأر لكل مظلوم قد اختزل اسمه في ذاكرته.. وليحمي الدار من غزوات الاستعمار.. لأجل ابن العم إسماعيل، ولأجل سالم سائق التاكسي.. ولأجل كل من له الفضل عليك.. ولكنّ ذلك لم يكن ليتحقق.
فكلية الحقوق لم تُبنى للحقوق، ولا أدري لما يدّعي طاقم تدريسها النزاهة بينما معظم أوقاتهم تُقضى في الكافيتريات الجامعية ؟.. ولا لوم على طلاب الكلية.. فاللوم حقيقة على من يقطن نصف المدينة الآخر والذي كان مليئا بالبالوعات وأوكار الفساد والرذيلة!.
ولقد كان ذلك حلما راودك طويلا وحمدتَ الله أنه لم يتحقق.. فعلى من ستُحامي طالما أن جُلّ الشعب حامي؟.. ورجعت بيتك في نسق ممل.. تحمل معك أرطال الخيبة والتشاؤم.. وألقيت بجسدك المنهك فوق السرير، لترفع شعار الهزيمة.
أنت.. حياتك غريبة !
لقد كنت حينها تقف عند تقاطع شاسع من الرمال المتناثرة بجنون ولا تدري أي الطرق تسلك!.. إنك لا تدري لماذا خرجت؟، ومن أين خرجت؟، وإلى أين هي وجهتك؟، ومتى ستعود؟!.. فكل ذلك كان بالنسبة لك سواء!.. كنت ترى العالم من خلال ثقب ضيق جدا، وكان الأصدقاء كثيرا ما يضايقونك تطلعاتك ورؤاك!.. وفي أثناء ذلك كان الآخرون يضحكون شديد الضحك عندما كنت تهمس لهم بما يجول في ثنايا قلبك الثمل.
كنت ترى العالم من خلال عيون ماسية.. تحس بدفئه وكثيرا ما تنفر من عشك الذي ولدت فيه.. وبعدما قررت خوض تجربتك بنفسك ولوحدك، مستغنيا عن نصائح الغير.. أخذت تجري بعد ذلك عبثا في المطارات، والأزقة، والمقاهي، والحانات، ودور عرض السينما، وأحيانا في دور عرض من نوع آخر.. ولكن في نهاية الأمر استسلمت مثل طير لا يقوى على الهجرة لوحده.. فأخذ يحلق فوق بقاع الأرض بحثا عن وطنه الأصلي.. لقد أحس بدفء عشه الذي تخلى عنه.
خرجت في أنصاف الليالي الباردة تبحث عن صديق تحكي له ما في بالك، عن صديق يحس بك، صديق يبادلك آلامك.. لكنك رجعت عند صباح يوم مثلج تحمل خفك الممزق فوق كتفك.. وجلست بعد ذلك في الشرفة المقابلة للشارع الرئيسي تراقب المارّة!.. وطفقت بعد ذلك تسأل نفسك بهوس: هل هم فعلا مارة أم أنهم يبحثون عني؟.. كان سؤالك هذا صادراً من روحك التي تتشبث بالقش، وبالليل، وبالمارة، وبكل ما يمكن أن يجعلك تجد تجربتك.
هذا هو أنت!.. تبعثرتَ منذ أول صدمة.. ولم تقوى على النهوض مجدداً.. بل طفقت تهرب من نفسك ومن واقعك.. مثل أرنب بري يجري بأقصى قوته هربا من الصياد.. لقد كان يجري ويعلم أن سرعته قد فاقت سرعة الرصاصة.. لأنه يعلم يقينا بأنه ضعيف ولا يقوى على المواجهة.
فتعال.. تعال لأحكي لك قصة الفيل الذي في السيرك.
لقد كان ثمة فيل في السيرك.. كان كبير الحجم.. ووزنه فاق أوزان الحيوانات التي في السيرك مجتمعة.. كان قوي البنية.. عالي القامة.. وكان يُستخدم في عرض الحركات البهلوانية بطريقة جميلة.. بعد كل عرض يذهب الفيل بمحض إرادته إلى المكان الذي يجب أن يُربط فيه.. فيُعلَّق حبل رفيع في عنق الفيل ويُربط الطرف الآخر من الحبل في قطعة من الحجر متوسطة الحجم.. لم يكن هذا الفيل مدربا على ذلك.. فبالرغم من صغر حجم قطعة الحجر الذي يُربط فيها دائما، وبالرغم من حجمه، ووزنه الثقيل، وقوته التي لا تقارن بقطعة حجر متوسطة الحجم.. إلا أنه لم يكن يحاول الفرار، لأنه ومنذ أن كان صغيرا وهو يُربط في قطعة الحجر تلك.
لقد حاول الفرار مرارا وتكرارا، عندما كان صغيرا.. كان يسحب الحبل بكامل قوته محاولا فكه من الحجر.. وعندما لا تنجح المحاولة، يغلق عيناه الحزينتان وينام.. وفي صباح اليوم الآخر، وبعد استيقاظه من النوم فيحاول الفرار مجددا.. يسحب الحبل بكامل قواه أو يمسكه بخرطومه محاولا تقطيعه، إلا أنه لم يكن يقدر على ذلك نظرا لحجمه الصغير آنذاك مقارن بحجم قطعة الحجر وسمك الحبل.. لقد حاول ذلك مرارا وتكرارا.. إلا أنه وبعد محاولات كثيرة باءت بالفشل اقتنع بأنه لا يقوى على ذلك.. ولن يكون بمقدوره الفرار.. فهذا الفيل الكبير الحجم قوي البنية الذي يقبع في السيرك الآن لا يحاول الهرب بالرغم من مقدرته على ذلك.. لأنه يعتقد بأنه لا يستطيع.. لقد حاول ذلك، إلا إنه لم يستطيع.. ومن يومها لم يحاول الفرار قط.. ولم يحاول التفكير في تقطيع الحبل والفرار.
وهذا هو أنت !..
لقد حاولت أن تكون!.. حاولت أن تفعل الشيء الذي يمكن أن يذر الخير والنجاح عليك وعلى بلدك، إلا أنك فشلت!.. ومن يومها تعتقد أنك لا تستطيع عمل أي شيء للعالم الذي حولك.. لأنك لا تستطيع!.. فهذه الفكرة قد طُبعت في مخيلتك منذ نعومة أظفارك.. ومنذ محاولتك الأولى التي باءت بالفشل حكمت على نفسك بأنك فاشل !.. وطفقت تهمس في نفسك قائلا : (لا أستطيع عمل أي شيء، ولن أستطيع عمل أي شيء ما حُيّيت).. وحتى عندما كبرت.. وصرت رجلا ضلت فكرة عجزك عن عمل أي شيء تراودك.
قم!.. قم حاول مجددا !.. حاول أن تكون أنت وحاول أن تقطع القيود التي في عنقك.. تحرر من أوهامك !.. تحرر من الإحباط الذي يمسك بك!.. وحاول مجددا!.. واعلم يقينا أن الطريقة الوحيدة لمعرفة قدرتك على شيء أو عدم قدرتك عليه هو تجربته.. تجربته بكل قواك، وبنية صادقة نابعة من داخل القلب.
ساربروكن/ ألمانيا
2006.02.03