الشاعر: محمد الهريوت
طيوب النص

مَعْزُوفَةُ ضَوْءٍ وَعِطْرٍ لِرُوحِ شَاعِرٍ

إلى محمَّد الهريوت في غيابِهِ الحضورِ …

 الشاعر: محمد الهريوت

سيِّدي الشَّاعِرَ ، فِي مِحْرَابِكَ تَرْتَجِلُ الْكَلِمَاتُ صَمْتَهَا الْمُبينَ .. تَتَوَرَّطُ في حُمَيَّا الْبَوْحِ الْحَمِيمِ .. تُمْلِي على ذَاكِرَةِ النَّهَارِ وَجْهَ الْحُلُمِ .. وَتُنْشِدُ عِنْدَ مَطْلَعِ الْجُرْحِ مُبْتَدَرِ الْغِيَابِ .. تَحِيكُ مُؤَامَرَةَ الإِنْصَاتِ لِقَلْبِكَ الصَّدُوقِ .. تَقُودُ مُظَاهَرَةَ النُّكُوصِ في وَجْهِ الْكَلامِ الْمُتَرَهِّلِ الْكَسِيحِ .. تُؤْذِنُ بِالرِّدَّةِ الْحسناءِ على قَوَامِيسِ الْكَلامِ الْعَارِي .. وَتَلْبَسُ ثِيَابَ سوادِهَا ..

آنَ للكلمَاتِ الْمُبَجَّلَةِ أن ترفَعَ قُبَّعَةَ الْعَجْزِ أَمَامِ صَمْتِكَ النَّاطِقِ الْمَهِيبِ ؛ إ ذ ليسَ بمقدور الكلماتِ أن تُؤَبِّنَ شاعرًا كانت تَرْقِصُ نشوى في عرسِ قصائدِهِ .. وَتَخْلَعُ وَقَارَهَا الجميلَ على مرأى من عيني قلبِكَ الرسولِ ..

آنَ للكلماتِ أن تُمَارِسَ الإِغْفَاءَ الْمُهَذَّبَ على شُرُفَاتِ قَلْبِكَ .. تُدَنْدِنُ لِلَّيلِ الْمُسَافِرِ وجعَ الحكايا الثَّكْلَى ..

آنَ لها أن تتقاعدَ عن فعلِ الرِّثَاءِ العقيمِ .. لتمتدحَ الصمتَ العظيمَ صُبْحَ غِيَابِكَ .. فهذا الصَّبَاحُ الأمينُ يُشَيِّعُ ليلَهُ بغَابَةِ ضَوْءٍ .. بنهارِ أغنياتٍ ضاحكةٍ .. بِحُقُولِ لَيْلَكٍ وَزَنَابِقَ وَيَاسَمِينٍ ..

صمتًا أَيَّتُهَا الكلماتُ ، فالشَّاعِرُ هَدَأَ ليحلمَ .. لِيَشْحَنَ قَلبَهُ بغيمةِ عطرٍ .. لأن يوقِعَ في حبائلِ حسنِهِ امرأةً أو قصيدةً ، ونجمةً وَسِرْبَ يَمَامٍ .. أن يغزوَ واحةَ عشقٍ ببعضِ قصيدٍ ، برميةِ لهفٍ صائبٍ .. أن يُسْقِطَ مليونَ قلبٍ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ ..

لقد ارتكنَ فجرَ المغادرةِ يتوضَّأُ بغيمةِ حلمٍ خصيبٍ .. سيصلِّي بعدَ نبضةٍ صلاةَ الخالدينَ .. بعدَ لَهَفٍ .. بعدَ حرفٍ .. بعدَ قصيدةٍ .. صمتًا ، فمحرابُ الشَّاعِرِ مُكْتَظٌّ بملايينِ القصائدِ .. مُزْدَحِمٌ بألفِ نَهَارٍ ضَحُوكٍ .. ممتلئٌ بألفِ ربيعٍ .. بألفِ ابتسامةِ طفلٍ .. بحقولِ أمنياتٍ أبكارٍ تعلنُ للحياةِ ميلادَ الشَّاعِرِ .. ميلادَ حلمِهِ .. وانطلاقَ عيدِ ميلادِ قلبِهِ .. فالشُّعَرَاءُ لا يموتونَ .. إنَّهم فقط يغادرُونَنَا ليولدوا فينا .. مغادرَتَهُم تنبيهٌ جميلٌ عن حُضُورِهِم الباهرِ .. إنها لعبَةُ الْحُضُورِ المستحيلةُ لا يُتْقِنُهَا غَيْرُ الأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءُ العَاشِقُونَ ..!

غيابُهُمُ الْمِلْحَاُح نَاطِقٌ بِحُضُورٍ خُرَافِيٍّ لا يُجِيدُهُ غيرُ وَجْهِ شاعرٍ..

بارحَنَا الشَّاعِرُ  .. ! لِنَجْتَمِعَ حَوْلَ عَرْشِهِ الشِّعْريِّ نُحْصِي خَسَائِرَنَا البَاهِظَةَ .. نُرَمِّمُ فِينَا جَسَدَ الْمَوَاجِعِ الْفَادِحَةِ .. مُسْتَحِينَ من ذَرْفِ دَمْعٍ بَارِدٍ لا يَلِيقُ بِرَحِيلِ رَسُولِ الأَعمَاقِ  الأَمِينِ الْمَهِيبِ..!

غَادَرَنَا لِيَسْكُنَنَا من جديدٍ .. ليعيدَ فعلَ سكناهُ في قلوبِنَا .. فقط أرادَ منحَنا فرصَةَ إِهْدَارِ دَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ ليعودَ ..لِنُهِيِّأَ قُلُوبَنَا لِعَوْدَتِهِ .. لِنُجَهِّزَ قُلُوبًا تَلِيقُ بِجَلالَةِ الشَّاعِرِ وَفَخَامَةِ حُضُورِهِ الْبَاذِخِ .. وَفَوْضَاهُ الْقُدْسِيَّةِ .. وَكَوْنِهِ السَّاحِرِ .. لِنَفْسَحَ مُتَّسَعًا من حُبٍّ نَقِيٍّ تُطْرَحُ مِنْهُ كُلُّ ما يُنَافي الْحُبَّ الْبَريءَ النَّقِيَّ ، فَقَلْبُ الشَّاعرِ كَوْنُ مَحَبَّةٍ لا يستضيفُ غيرُ الهوى والحلمِ والقصائدِ ، ولا يتورَّط في ضوضائِهِ الجميلةِ غيرُ عُشَّاقِ الْجَمَالِ ، مروِّجِي الْحُسْنِ .. ومدمني الدَّهْشَةِ ..!

 غلاف كتاب_هذيان

شُكْرًا أَيُّهَا الشَّاعِرُ  ، الآنَ صَارَ بإمكانِ الكلمَاتِ أن تَنْظَرَ وَجْهَهَا النُّوْرَانيَّ ، وَهْيَ تُرَاجِعُ وَجْهَ رَحِيلِكَ .. وهي تتوضَّأُ بعطرِ حروفِكَ .. وتنشرُ غَيَّهَا النَّبِيلِ على بُحَّةِ صَوْتِكَ .. وَهْيَ تَتَبَنَّى صَدًى مُعَطَّرًا تَهْذِي بِهِ الْغَيْمَاتُ صُبْحَ الرَّحِيلِ الْمَهِيبِ..

هل حَقَّا غَادَرْتَنَا أَيُّهَا الشَّاعِرُ !؟

مُسْتَقِيلاً من دُنْيَا الْقَصِيدَةِ  .. مُحْتَجًّا على بَلاهَةِ التَّلَقِّي ، وَسَذَاجَةِ مُرَاقَصَةِ حلمِكَ الوطنَ .. في وطنٍ يحسدُكَ موتَكَ الحياةَ .. وطنٍ أبَحْتَهُ كلَّ نبضِكَ .. كلَّ وجَعِكَ .. كُلَّ آهاتِكَ فبخلَ عليكَ بأَنَّةِ الْوَجَعِ اليتيمَةِ .. مُتَأَسِّفًا على وَطَنٍ يَتِّسِعُ فِيكَ .. وَطَنٍ تَتَلاشَى فِيهِ  .. وَطَنٍ تُبَارِكُهُ كَلِمَاتُكَ الْعَرَائِسُ .. فَيَلْعَنُكَ نُكرَانُهُ وَجُحُودُهُ .. تَوَعَّدْتَهُ بالْحُبِّ .. تعهَّدْتَهُ بالمُراوَدَةِ البريئَةِ فتهدَّدَكَ بِالنَّسْيَانِ الْمُقْذِعِ..!!

متبرِّئاً من أصدقاءَ لا ينمو الْحُبُّ في حُقُولِهِم كما هو في قَلْبِكَ .. ولا تَتَلَقَّى أَفْئِدَتُهُم أسرابَ القصائدِ بتظاهَرةِ فرحٍ وعرسِ أُمْنيَاتٍ  .. ولا تتلقَّفُ وجداناتُهُم  أطيَارَ الهوى حينَ تبدَأُ مراسِمُ العشقِ في قلبِ الشَّاعِرِ المحيطِ .. أصدقاءَ اندسَّتْ وجوهُهُم خَجَلاً أسودَ إبانَ طوارقِ المرضِ النَّحْسِ ..

غادرتَنَا ..!؟ هكذا كالأحلامِ والنَّوَارِسِ وَالْفَرَاشَاتِ ..كَأَعْيَادِنَا الشَّحِيحَةِ بِرَشْحَةِ فَرَحٍ .. بِحَفْنَةِ بَهْجَةٍ .. بِغَفْلَةِ مُتْعَةٍ  .. بِقَصْفَةِ مَرَحٍ .. بِقَبْسَةِ ضَحِكٍ .. بِسَانِحَةِ طَرَبٍ .. كَأَفْرَاحِنَا الْمَغْشُوشَةِ الْوجوهِ .. الْفَقِيرَةِ الدَّهْشَةِ .. الْقَلِيلَةِ الأَلَقِ وَالإِبْهَارِ !؟

غادرتَنَا ..!؟  فَمَن سَيُبَارُكَ أحلامَنَا النَّضِرَةَ الْمُعطَّلَةَ ، وَمن سَيُصَافِحُ عِطْرَ قَصَائِدِنَا .. ويُصارِحُ بِنَجْوَاهَ فَرْحَةَ عِيدِنَا الخجلى ..ويُمالِحُ وجهَ الغدِ الحييِّ متلكِّئًا عندَ بابِ صحوِنا الخَدِرِ .. من سَيُجِيزُ أُمْنِيَاتِنَا السَّاذِجَةَ البكماءَ .. من سَيَرْفَعُ إِلَى اللهِ دُعَاءِ أُمَّهَاتِنَا .. وَيُسَجِّلُ في كُرَّاسَةِ الأَحْلامِ وُجُوهَ صِغَارِنَا وَهْيَ تَتَبنَّى حُلْمَ قَصِيدَةٍ بِكْرٍ .. وَهْيَ تَتَمَنَّى حَقْلاً من زَهْرٍ ، وَسَلَّةَ كَوَاكِبَ عذراءَ .. وَعُلْبَةَ حَلْوَى .. وَمَرْجَ أَلْعَابٍ وَصَبْحَ عِيدٍ دَفِئٍ وَضِئٍ .. من سيطمئنُ طفولتَهُمُ المرْتَبِكَةَ غَدَاةَ ترتَجِلُ أَيَادِيْهُمُ الصَّغيرةُ دُعَاءً لا يخيبُ .. من سَيَعْطِفُ على أمانيِّهِمُ البريئَةِ وهم يُمْلُونَهَا على سَمْعِ رجولتِنا الْخَائِبَةِ .. من سيرحمُ ضعفَ صِبَاهُم وهو يَتَلَمَّسُ يَدًا تُجِيزُهُ عصافيرَ وفراشاتٍ وأورادَ مَحَبَّةٍ  .. من سيترجمُ لثغاتِها الأناشيدَ .. ودعاءَهَم التَّسَابيحَ ، وكلماتِهِمُ الغيمَاتِ ..!؟

فمن سَيَقْصُصُ على النَّجْمِ دِفْءَ رؤياهُ ، ويشرحُ للقصيدةِ معنى أن تُولَدَ دافئةً كَقُبْلَةٍ .. وَحَارِقَةً كَرَصَاصَةٍ ، وعَطِرَةً كلقَاءِ أحبَّةٍ .. وَصَادِقَةً كدعوةِ أُمٍّ .. وَمَشُوقَةٍ كَطَعْمِ الْحَلْوَى .. ويُحَدِّثُ الفَرَاشَاتِ عن دِفْءِ تطلُّعاتِنَا .. ويُقْنِعُ المَسَاءَ أن يُرْسِلَ إِلِينَا قَمَرًا خَجُولاً ليلَ يُتْمِنَا المستطيلِ .. أن يُوْفِدَ ألفَ نجمَةٍ تَرُشُّ على سَهِرِنَا الْكَسُولِ لَيْلاً مُضِيئًا .. مَسَاءً يَبِيعُنَا عُيُونَهُ وشجونَهُ وقصائدَهُ النَّوَاعسَ الفارهاتِ .. بعدَكَ من سيقنعُ الحمامَ بأنْ يَهْدُلَ على نَوَافِذِ جُرْحِنَا بأغنيَاتٍ منسوجَةٍ من لهفِ النَّهَارِ .. بترانيمَ مسروقةٍ من سؤالِ صِغَارٍ يَتَنَاجَونَ .. من ضِحْكَةِ حَقْلٍ لِفَجْرٍ قَبَّلَ وَجْنَتَيهِ بِشَفَتَينِ من ضَوْءٍ وَنَدًى ..!

رَحَلْتَ.. !؟

فمن سيعتذرُ للقصَائدِ عن شَغَفِ المعاني .. وللأغنياتِ عن جَسَامَةِ الأشوَاقِ .. وللشِّعْرِ عن كَسَلِ التَّبَاريحِ وفضاضَةِ المعنى .. من سَيُصَالِحُ قلوبَ العصافيرِ التي تُؤَوِّلُ وَصَايَاكَ الذَّهبيَّةَ بِفَجْرٍ نبيٍّ .. واليَمَامَاتِ التي تقرأُ الإِشْرَاقَ في عينيكِ فجرًا .. وبابَ حديقةٍ .. وجدولاً من سرورٍ..

من سيتحجَّجُ للنَّوَارسِ وهي تتوحَّمُ شَاطِئًا في يمينِكَ .. وبحرًا في عينيكَ .. وجزيرةَ خلدٍ عن مرفأِ الدَّهْشَةِ الأمينِ ..

من سيهدِّئُ من رَوْعِ القصائدِ وهي تتبركنُ في أتونِ الْغِيَابِ صَهِيرًا .. وأعاصيرَ .. وشَغَبَ زَلازِلَ..!؟

للصَّبَاحِ حينَ يمدُّ قلبَهُ الطَّمَوحَ لِرَشْفَةِ النَّدَى .. مُمَوْسِقًا الضَّوْءَ والدِّفْءَ وَالصَّحْوَ النَّبِيلَ ..

للصِّغَارِ حينَ يُتْعِبُهُم النَّثْرُ الرَّهُوقُ فَيُطْلِقُونَ عُيُونَ بُكَائِهِم تَلَهُّفًا لكسْرِةِ شِعْرٍ .. أو نفثَةِ شَاعِرٍ .. أو قَصْفَةِ دَهْشَةٍ .. أو عطرِ قَصِيدَةٍ …!؟

للمآذنِ حينَ تطلقُ صمتَهَا المهيبَ إنذارًا بغيابِ القمرِ ..

للقصائدِ حين تُسَنْفِرُ أوجاعَهَا غِنَاءً حَزِينًا تحذيرًا من هجمَةِ النَّثْرِ الضَّرُوسِ ..

غِبْتَ أَيَّهَا الشَّاعِرُ فَحَضَرْتَ ، فَأقْنِعِ الْمَطَرَ بِأنَّكَ لم تَزَلْ هنا ترنو إلى عَطَشِ الْفُقَرَاءِ بقلبٍ ظَامِئٍ .. وإلى جُوعِ اليتامى بقلبٍ كليمٍ .. وإلى جراحِ الحَزَانَى بقلبِ نبيٍّ ..   وإلى وَجْهِ الوطنِ بقلبِ ربيعٍ .. وإلى قلوبِ أحبابِكَ بقلبِكَ أنتَ .. قلبِكَ الرسولِ ..

ثمَّ أقنعِ السَّمَاءَ بأن تمدَّ ظلَّها على قلوبِ الْحَيَارَى وَطَنًا من دِفْءٍ وحلمٍ وئامٍ .. وشجرةً وظِلاًّ وبيتًا ومأوَى .. وفاوَضِ اللَّيْلَ على أن يُرْسِلَ قمرَهُ إلى أماسينا مكتوبًا غراميًّا ، وأن يُوفِدَ نجماتِهِ سفيراتٍ للنَّوايَا الحسَنَةِ المضيئَةِ..

ثم نمَّ هنا أوهناك .. ليسَ ثمَّةَ ما يُزْعِجُ الشَّاعِرَ .. ما يستفزُّ هَدْأةَ العَاشِقِ غيرُ دندنَاتِ القصيدةِ .. وأغنياتِ الصِّغَارِ .. وَدُعَاءِ الأُمَّهَاتِ  .. وقهقهَاتِ مُحِبِّيكَ تُعْلِنُ ميلادَ الْعِنَاقِ الحميمِ ..

امضِ حيثُ تريدُ سيِّدي الشَّاعِرُ  ، يُسَافرونَ كلُّهُم .. وتبقى أنتَ .. تبقى وَحْدَكَ .. وحيدًا إِلاَّ من وجعِكَ وأحلامِكَ  .. وقصَائِدِكَ .. فليفنَ العَالَمُ .. وليذْهَبْ لِلْجَحِيمِ ..  ولتبقَ أنتَ .. فسيعمرُ الكونُ بِكَ .. بِالشِّعْرِ وَالْحُبِّ وَالْجَمَالِ ..

مقالات ذات علاقة

قِصَّة بيتِ العُصفُورِ .. بالعربيّةِ والإنجليزيّةِ

المشرف العام

طفلة

المشرف العام

تعثرت ولعل الحظ غابَ

سمية أبوبكر الغناي

اترك تعليق