نعرف الكاتب الليبي منصور بوشناف منذ منتصف السبعينيات، حين لفت الأنظار إليه من خلال مسرحيتين، “عندما تحكم الجرذان” و”تداخل الحكايات عند غياب الراوي”، عرضتا في “عاصمة ليبيا الثقافية”، بنغازي، وكان آنذاك طالباً جامعياً. بعد ذلك رُمي في السجن لمدة 12 سنة متواصلة، لاختلاف آرائه ورؤاه كلياً عن أفكار ورؤى القذافي التي تبعها بعض المثقفين وهادنها آخرون كي يضمنوا البقاء خارج “الحصان الأسود” (سجن سياسي).
في عام 1988، أُطلق سراح بوشناف فاستأنف نشاطاته في الكتابة المسرحية والصحافية والروائية، وأصدر أولى رواياته، “العلكة”، عن “دار ليبيا للنشر” في مصر، لكن الرقابة منعتها كونها تتحدث عن مرحلة السنوات العشر التي عاشها الليبيون في ظل الحصار الأميركي؛ مرحلة غابت خلالها عن الأسواق الكثير من السلع، خصوصاً العلكة التي صار التجار الليبيون يسافرون إلى تركيا بالباخرة لجلبها وبيعها في الأسواق. وكان المواطنون يلوكونها بمتعة كونها خير معبّر عن الزمن الضائع الذي مضغهم خلاله حُكم القذافي ورماهم في قمامته.
ومثلما عاش الجزائريون عشرية سوداء، عاش الليبيون عشرية مماثلة مليئة بالفراغ والضياع، سمّاها بوشناف عشرية العلكة وشكّلت موضوع روايته التي صور فيها الحياة في ليبيا بكل تفاصيلها وتجلياتها. رواية ترجمت أخيراً في لندن إلى الإنجليزية وصدرت عن “دار دارف” المتخصصة في نشر كتب تتعلق بليبيا، خصوصاً في المجال التاريخي والثقافي والاجتماعي، ونالت استقبالاً حسناً من الجمهور والنقاد، حتى أنها أضحت من ضمن الكتب التي تقرأ في القطارات.
يقول بوشناف عن ظروف ولادة “العلكة”: “شرعتُ في كتابة هذه الرواية عام 2000، لكني لم أكتب منها إلا صفحة واحدة. وطوال خمس سنوات كنت أردد تلك الصفحة كما لو أنها قصيدة. حفظتها وغنيتها باستمرار من دون أن أضيف عليها كلمة واحدة. من هذه الصفحة أذكر: “حين قرّب شفتيه من أذنها كي يهمس فيها، كانت عشر سنوات قد انقضت على افتراقهما. كان عليه، طوال تلك السنوات العشر، أن يكابد الآماً لا حد لها وأن يئن تحت وطأة إحساس ثقيل بالفراغ”. وفعلاً، كنت، مثل كل الليبيين، منهمكاً آنذاك في ذلك اللوك العبثي لحياة فارغة، رغم جعجعة الشعارات. كان الليبيون قد عاشوا عشرية العلكة قبل أن يقعدوا للوك علكة الفراغ والإحباط، مستظلين بخيمة القمع والعبث. كنت ألوك ذلك المقطع من روايتي للوصول إلى مصب”.
ويضيف بوشناف عن العلكة ودلالاتها المكانية والزمنية: “كانت عشرية سوداء عاشها الليبيون بمرارة. ولأن سوقنا كانت مغلقة في وجه كل السلع، شحنوا سلعة العلكة برمزية كبيرة تعكس الثراء والحياة الكريمة، وشرعنا نلوك كل شيء، الحرية والعدالة والرفاهية، الفلسفة والسياسة والاقتصاد، لوك عبثي لا نهاية له. كنت ألوك أيضاً شوارع طرابلس ذهاباً وإياباً دونما هدف، ثم جلست لأكمل اللوك وكتبت روايتي”.
وحول طباعتها ومنعها من الرقابة خلال عهد القذافي ومرحلة الربيع العربي يقول: “طبعتها في القاهرة عام 2008، لكن الرقابة الليبية آنذاك منعت توزيعها في المكتبات، فوزّعتها على الأصدقاء باليد. ومع حلول الربيع العربي، حاولنا نشرها في ليبيا من جديد فمنعتها الرقابة الثورية الجديدة، استمراراً في لوك فلسفة الوصاية واحتكار الحقيقة والثورة. كان اللوك الثوري الجديد أشد عبثية وقسوة”.
وللعلكة دلالات فلسفية لدى بوشناف، خصوصاً في هذه المرحلة العصيبة: “شرع الليبيون اليوم في لوك لحم بعضهم البعض. صار القتل العبثي علكتهم المفضلة. كان النظام يبطش ويقتل، كان يحتكر القتل. الآن، صار القتل نشاطاً عاماً نمارسه بدلاً من أن نتفرج عليه. صار القتل “الرياضة” الجماهيرية الأثيرة”.
وعن طرق الخلاص الممكنة للوصول إلى السلام في ليبيا، يقول صاحب “عندما تحكم الجرذان”: “لا حل أمام الليبيين اليوم إلا التخلص من الأسلحة وتحريم حملها واستخدامها، وجلوس جميع الأطياف للحوار، وبناء دولة لها جيش وشرطة ومحاكم”.
وعن مستقبل الأدب في ليبيا ومدى تأثير الثورات العربية على الكتّاب الليبيين، يجيب: “لم تتشكّل ملامح الأدب الليبي بعد الثورة، لكن ثمة أصوات شابة جديدة واعدة تبدو أكثر عمقاً وصدقاً من أجيال “العلكة” التي أنا جزء منها”.
وحول تجربة السجن يقول: “أنا خريج السجون الليبية التي أمضيت في ربوعها 12 عاماً عجافاً تعلّمت فيها الصبر واللوك والحفاظ على الوجود في أسوأ الظروف، كما تعلّمت الضحك والسخرية. سيكون لهذا العبث أثر كبير على الأدب والفن في ليبيا. سيكتب الليبيون أدباً بطعم المرارة، وسيضحكون طويلاً من جنونهم الغريب”.
أما عن جديده، فيقول: “أنهيت روايتي الجديدة “الببغاوات” وأعمل حالياً على نص مسرحي ـ روائي بعنوان “الطريق الى عدن”. أتمنى أيضاً أن أتمكن من تجميع ونشر ما كتبت عن الصحراء الليبية وفنون ما قبل التاريخ وعن الفن الليبي الحديث، وأن أجمع وأنشر مسرحياتي القديمة”.
وفي ظل الظروف الليبية الخانقة في الوقت الراهن، سألناه إن كان سيلتحق بالكتّاب الليبيين الذين غادروا الوطن، فأجاب: “لم أغادر ليبيا في كل الظروف السابقة، ولا أرغب في مغادرتها. خارجها أشعر بأنني هامشي لا قيمة لي. أما داخلها فأشعر بوجودي وإن كنت سجيناً”.
________________
نشر بموقع العربي الجديد