علي المجبري
على الإنسان أنْ يتوقَّف عن عبادةِ الأصنام، حتَّى ولو كانت تماثيلَ للحرِّية! سنينٌ طويلة، ونحنُ ننتظرُهُم أمامَ البابِ الذي دخلوا منه..؛ يَبدو أنهم خرجوا من بابٍ آخرَ، لا يُشبهُ ـ أبدًا ـ بابَ الدخول!.
* * *
مُنذ ثلاثةِ قُرُون، دخلوا عصرَ التنوير!..، فما الذي حدَثَ ساعةَ عبورِهِم الباب؟ متى خرجوا من البابِ الآخر؟ وما الذي اجتَنُوه، بينما نحنُ، مُتَّكِئونَ عندَ الباب، ننتظرُ أخبارَهم السَّيئة!؟.
لقد تركَ الغربُ عقولَهُم القديمة، وانطلقوا يَبنونَ عقلَهُم الجديد..، ولِيَسْخَروا مِن عقولِهِم القديمة، كتبوا على شاهِدِ قبرِها : هُنا، بجوارِ هؤلاءِ المُتَّكِئِين، تَرقدُ العُصورُ المُظلمة!وبينما نحن مُتَشاغِلونَ بالاتِّكاء، خَرَجوا ـ من البابِ الآخر ـ مُعلنينَ أساسَ عقلِهِم الجديد : ” علَى الإنسانِ أنْ يُفكِّر! “..؛ ” لا وَصِيّ على عقلِ المَرْءِ غير نفْسِه! “؛ الإنسانُ حُرٌّ فيما يعتقد، وهو لا يُجْبَرُ على الإيمانِ بمُعتقد، مَهما اجتمعَ عليه الآخرون!..؛ لقد خرَجوا بعقلٍ مُحَدَّث، لا يُشبِهُ، أبدًا، عقلَهم السَّابق!.
* * *
فَما هو التَّنوِير؟
إنَّهُ الحَقيقة، الهُدَى، والمَعْرفةُ التي هيَ القوَّة!..، إنَّهُ أوَّلُ انتصارٍ للعقلانية؛ حيثُ تُكتشَفُ الحقيقةُ باستعمالِ العَقل، بكاملِ طاقتِه.أمَّا هَدْمُ المَوْرُوثات العَقِيمة، فإنَّها أوَّلُ خُطوة، في طريقِ التنوير.تَطَلَّبَ الأمرُ ثورة!، فجاءَت ثورةُ التنوير..؛ ثورةٌ خالِصَة للعقل، بِلا صُراخٍ، ولا زَعِيق، ولا فَرْقَعات..؛ ثورةٌ تُحاسِبُ المَوْرُوثات، وتهاجِم المُؤسَّسات القديمة، المُكَبِّلَة لذاتِها، دونَ أيَّة أصفادٍ مِن خارِجِها؛ لقد سَخَّرُوا الثقافة، لبناءِ العَقلِ والمُجتمع، بعيدًا عن الخُرافاتِ، والأوْهام، والقُيود.
* * *
ثلاثةُ قُرون، ونحنُ ننتظرُ عِندَ الباب، دونَ أنْ نَجْرُؤَ علَى عُبورِه!..، إنَّهُ الخَوفُ، التَّوَاكُل، الكَسَل..، ذِهنيَّةُ المارِدِ والْجِنِّيِّ ومُؤسَّساتُ الفوانيسِ والعَفارِيت؛ مَوْرُوثاتٌ لا تَقبلُ مُحاكَمَتَها، أو نقدَها، أو محاسَبَتَها، خُرافاتٌ لا يَحقُّ لأحدٍ الاقترابُ منها، أو حتَّى الدَّوَرانُ حَولَها.
إنَّ العرَبيّ، هو الإنسانُ الوحيدُ الذي يَحبسُ نَفْسَه بإرادَتِه، ويَشدُّ بيديهِ وِثاقَه، ويَفرحُ باستمرارِ أسْرِه..، إنَّهُ دائمُ التخبُّطِ في ظلامٍ لا يُحاولُ الخروجَ منه، بلْ ولا يرغبُ في إضاءَتِه!.فالعقلُ العربيّ، هو عقلٌ مَسلوب، مَنهوب، مُنتهَك..؛ عقلٌ تُثقِلُهُ عاداتٌ لا مَنفعة فيها، ومَورُوثاتٌ تجعلُهُ دائِخًا، نائِمًا.. نومَ السَّابِتين؛ سُباتٌ لا يقظة مِنهُ إلا بالخَضِّ، والرَّكْل، والصُّراخِ داخِل الأُذُنَين!.إنَّهُ عقلٌ لمْ يُدركْ ـ حتَّى القَرْنِ الحَادِي والعِشْرِين! ـ أنَّ مَوروثاتِهِ البالِيَةَ المُخِيفَة، هي مُجرَّدُ خَيَالِ مَآتَة، وقُفَّازاتٍ لا أيدي فيها!.
* * *
فأينَ تَكْمُنُ عِلَّةُ العربِّي؟.. وما الذي يَشُدُّنا إلى الأرضِ كُلَّما ( سَمَّيْنا باسْمِ الله )، وهَمَمْنَا بالوُقوف!؟ :.. إنَّهُ، هَواؤُنا المُثقَلُ بالعُبُودِيَّة..، وعَقلُنا الذِي لَيسَ عَقْلا!؛إنَّ القَمْعَ يقتلُ الفِكرَ والأدبَ؛ يُمَزِّقُ صَفحاتِ الشِّعر، ويُقَطِّعُ أوتارَ المُوسِيقَا..، فالفِكرُ والعلومُ والفنون ـ كالحرِّية ـ لا تترَبَّى إلا في مُجتمعِ الأخلاقِ والقانون.
فكيفَ هو العقلُ العربيّ؟؛
إنَّهُ عقلٌ مُمتلِئٌ بالعبوديّة، والجُمود، والجَهل..، عقلٌ يجوبُ الكرةَ الأرضيّة ثم يعودُ كما ذَهَب، بلا تغيير، أو تطوُّر، أو استزادةٍ مِن أيِّ شيء؛ فالإنسانُ العربيُّ يَنظرُ إلى كلِّ انجازاتِ العقل، ولكنه لا ينظرُ إلى العقلِ نفسِه..، إنه يسيرُ نحوَ فقدِ عقلِه، لأنه لا يمتلكُ الشَّجاعةَ لتحريكِهِ وتشغيلِه.
إنَّ العقلَ هو منظومةُ الأخلاقِ والمَعرفة..، إنَّهُ السلوكُ، والنِّظام، والكَمال، وفهمُ الوَعْيِ الإنسانيّ بالتأمُّلِ والتفكيرِ والتجرُبة.
فهل عقلُنا العربيُّ كذلك؟..، هل يُمكنُ أنْ يكونَ كذلك!؟؛ إنَّهُ عقلٌ يُخطئُ في كلِّ شَيء؛ حتىَّ ثوراتُهُ التي قامت ضد الطُّغيان، كَرَّسَتْ ـ بوجودِها ـ طُغياناً جديداً أشدَّ قوَّةً، وفَتْكا، ومَرارَة!..، عقلٌ لا يَقدرُ على شيء، إلاَّ على اللُّغَة العَرَبِيَّة!..؛ لُغتُنا، التي تُكبِّرُ الصَّغير، وتُسَمِّنُ النَّحيل، وتُطَوِّلُ إلى ما لاَ نِهاية أقصرَ الأقزام!؛ لُغَةٌ مَركُوبَةٌ مُنْحَلَّة!….. وبُلدانٌ مِن أقدامٍ ورَاكِعِين!!…..
إنَّ عقلَنا العربيّ، في مُقارَعَتِه للعقلِ المُنَوَّر، هو تمامًا كالأعمَى، الذي يُصارِعُ المُبْصِر، تحتَ شمسِ الظهيرة.
* * *
إنَّ أيَّ برنامجٍ إصلاحيّ يبدأُ مِن تنويرِ العقل..، يبدأُ مِن وُصُولِ أوَّلِ أمواجِ التنوير؛ فالتنويرُ يُغَذِّي العُلومَ، والثقافة، والمُوسِيْقَا، يَحتفلُ بالعقل، ويُلهِمُ الصانعَ والزَّارِعَ فيما يَصنعُ أو يَزرع.. إنَّ التنويرَ يُنتِجُ أعظمَ الأفكار، ويَصنعُ أُمَمًا عظيمة!
ولكنْ ما العَمل، إذا كانَ العرَبُ لا يرغبونَ دُخولَ عصرِ التنوير!؟ هل يُمكنُ أنْ يكونَ لليبيين عصرُ تنويرِهِم الخاصّ؟ هل يوجدُ تنويرٌ بمقاساتٍ ليبية..؟ والأهَمُّ مِن كلِّ هذا : هل نحنُ ـ فعلاً ـ نُحِبُّ أنْ نتنوَّر؟ : إنَّها معركةٌ بلا طُبُولٍ، ولا غُبار، ولا ضَجيج..؛ معركةٌ خَيلُها الشجاعة، وفُرْسانُها العُلماءُ، والأدباء، والمُفكِّرُون، والفنَّانون.
.. هكذا هي مَعركةُ التنوير.. معركةُ العقل!.
على الليبيينَ أنْ يَبنوا مجتمعَهُم المُنَوَّر..؛ فالطبيعةُ والعقل، إذا توافَقَا وتناغَمَا، أنتجَا أكبرَ إنجازاتِ العقول، وأعظمَها إشراقا!؛ التَّنْوير، هو مِصْباحُ عَلاءِ الدِّيْن، وبِسَاطُ سِنْدِبادِ الطَّائِرُ!. لتكُنْ لدينا أفكارُنا التجريبيَّة الخاصَة..! ولنُطبِّقْها دُونَ تفكيرٍ في الفشلِ، أو الخَسارة، أو السُّقوط؛.. إنَّ تغييرَ المُجتمع، يَبدأُ مِن تغييرِ العقل؛ فلا يجبُ أنْ تنقصَنا الشَّجاعة!؛.. الخائفونَ والمُتردِّدونَ والمختلفونَ لا يكوِّنونَ دَولة، ولا يُعَدِّلونَ التاريخ.
لنُصَحِّحْ عقلَنا!، ولنُصْلِحْ مُؤسساتِنا!، ولنُغْلِقْ خزائِنَنا في وُجُوه السُّرَّاق!.
أيُّهَا اللِّيبيون؛ إنَّ العقلَ المُظْلِم، لا يمكنُ أنْ يكسبَ أيَّ حَربٍ، أو مَعركة!.
* * *
أمَّا سِلاحُنا، الذي نَدخُلُ بهِ مَعرَكَةَ التنويرِ اللِّيبيّ، فلاَ أقلُّ مِنْ هذه الإضَاءَات :
1ـ مُجتمعُ الأخلاقِ والقانونِ لا يُبْنَى إلاَّ بالحَقيقة..،.
2ـ الشَّجاعةُ ـ وحدُها ـ هي التي تقودُ الإنسانَ لاستخدامِ العقل، دونَ انتظارِ مَعونَةِ أحد، أو تعليماتِه، أو توجيهاتِه..،.
3ـ جَوهَرُ التنوير، هو نُشُوءُ حركةٍ ثقافية صادِقة واعية وحقيقيَّة، أساسُهَا حُرِّيَةُ الْكَلامِ والكِتابَة..،.
4ـ البرنامجُ الثقافيّ، لا بُدَّ أنْ يكونَ على رأسِ حياتِنا الاجتماعيّة..،.
5ـ على الدولةِ أنْ تُنظِّمَ نفسَها تنظيمًا عقلياً؛ فالبرامجُ الواقعيةُ هي بالضَّرورةِ برامجُ عقلية..،.
6ـ التغييرُ يجبُ أنْ يشملَ قوانينَ البلاد، وعلومَهَا وآدابَها وفنونَها، وحتَّى رياضاتِها، ومُوسيقاها..،.
7ـ ابعدوا الأطفالَ عن السِّياسةِ والأفكارِ البالية،.. اترُكُوهُم لطفولتِهِم..،.
8ـ السَّرِقاتُ لا تَتَوَارَث..،.
9ـ المَزايا غَيرُ المُبَرَّرَة لا تتوارث..،.
10ـ الإقطاعيَّاتُ المَنْهُوبةُ لا تتوارث..،.
* * *
أيُّها الليبيون؛ إنَّ الحُرِّية، هي هِبَةُ العَقل، وليسَ مِنَّةً مِنَ القانُون.
18.10.2009