النقد

(عُمر آخر).. عندما ينْظم الشاعر رواية

رواية (عمر آخر) للشاعر عمر عبدالدائم
رواية (عمر آخر) للشاعر عمر عبدالدائم

تتشكل روايات الشعوب في المجمل من القصص الشخصية للأفراد والجماعات، وتتقاطع هذه الروايات أحيانا مع بعضها لتنتج روايات أخرى، وتعتبر الرواية توثيقًا مهمًا وحقيقيا في كثير من مجرياته لأحداث مرّ بها شخوص الرواية ومرّت بها البلدان التي ينتمون إليها أو كانت أمكنة لها، لذلك نالت أعمال أدبية مثل (ذهب مع الريح) و(الحرب والسلام) و(بين مدينتين) شهرة واسعة ومكنت القراء من معرفة ما كان يدور من حكايات تغفلها عادة كتب التاريخ الرسمية، وعندما يكتب أي منا حكاية مرّ على أحداثها ربع قرن، قد لا يهتم بنقش التفاصيل على طول القصة إذ لا بد من هروب بعضها منه في كثير من براحات استحضار الذاكرة، ويزيد الأمر صعوبة حين تكون شاعرًا تجيد نظم كلماتك في جملة شعرية،  فالشعر شقيق للقصة لكنه وعاء للتعابير المختزلة ما يجعله مختلفًا عن الرواية.

في روايته الأولى (عُمر آخر).. أفلح الشاعر متعدد الصفات والمواهب عمر عبد الدائم في نظم كلماته في نسيج روائي جذاب متنوع تنوع الصور الشعرية في القصائد الجميلة، يستحضر فيها الماضي ويربطه بالحاضر في تناغم هادئ يطبع الأحداث في ذاكرة المتلقي وينبش ما توافق أو تزامن معها من أحداث حفظتها ذاكرته الشخصية، وهذه الأحداث تفيض بالتنوع الجغرافي والمناخي والسياسي والشعبي، إذ ينقل “عبد الدائم” قرائه بسلاسة بين الأزمنة والأماكن المختلفة فتارة يأخذهم معه في جولة تحت ثلج (سراييقو) وتارة يلفح وجوههم حر الصحراء ويعفرها غبار المعارك ويوقظ ضمائرهم لاستنكار العنف وسفك الدماء وهو يعبر بهم بين أطلال ما صنعت يد الإنسان في مدن البرد وواحات البيداء على حد سواء، حيث تموت الأحلام ويتيتم الأطفال وتتناثر الرؤوس التي كانت عيونها ذات يوم تشع ببريق الحياة ودون أن يعرف كثير منها لماذا راح ضحية لأحداث لم يخترها ولم يقررها أو حتى يقرها،   وتارة يفتح لهم الستارة كي يشاركوا مع أبطال روايته جلساتهم الجميلة للاحتفال بحدث ما أو لوداع صديق ما، وتارة يطلعهم على الأفكار التي تدور بخلد المواطن البسيط وهو يرى بلاده يجرها السيل ولا يعرف إلى أين أو حتى متى؟

(عُمر آخر).. سرد موضوعي ناقد لكثير مما هو بين البينين، نقرأ فيها الاختلاف بين طقس وآخر، بين جغرافيا وأخرى، بين جيلين، بين ثقافات مختلفة وأفكار متنوعة، بين أن تتعلم علومًا عسكرية في الشمال ثم تطحنك الحرب جنوبًا، بين أن تدرس لتساهم في إحياء بلدك وأن تعمل لتموت لأجلها في حرب لم يستشرك أحد بشأنها أو تساهم في اتخاذ قرارها، بين طموحك في تأسيس أسرة وواقع حياة هذه الأسرة في غيابك، وبين أن تقرأ الأحداث بذكاء فتفلت من قدر كئيب وأن تستسلم لهذا القدر فيدهسك دون رحمة.

تحفل الرواية بالمفارقات على طول الرحلة، فقد زار “أيوب” (بلغراد) للعلاج من إصابة في الحرب، فإذا بحرب أخرى سببها ربيع عربي كربيع أوروبا الشرقية في تسعينيات القرن الماضي تقفل مطار طرابلس أمام الرحلات الجوية لتطير به الأقدار عنوة إلى “سراييقو” موطن الذكريات والحب، وحيدا مهزوما وغريبًا مقتفيًا أثر سراب لزمن ولّى وفات، يذرع الأماكن بعكازه ولسان حاله يقول (لا مكان اليوم لـتياترو ولا لماريا ولا عّباس ولا ليليانا)، فيجد القارئ نفسه وقد قطع تذكرة للإبحار في رواية (عُمر آخر) بين ضفتين وعمرين، وبين جيلين أحدهما صنع الرواية وآخر شاركه دفع ثمن أحداثها وساهم في تكملة سياقها وتفسير ما قد خفي من أسباب ونتائج قرارات جيل العمر الأول.

طالع أيضًا: عندما يَروي الشاعر قراءة في رواية «عمر آخر»

تطرح الرواية قصص أبطالها التي نسجت معًا ملحمة الحب والحرب، وتفلح في تتبع المتضادات في ثنائية الزمان والمكان، وقد رصدت لمة الأصدقاء الشباب “أيوب” و”عباس” القادمين من الشرق حيث الشمس والساحرات اللاتي يحلبن القمر و”خميس الغولة” الذي حلّق في رواية أحدهم بجناحي نسر فوق قلعة (سبها) المروية بدماء الأهالي حين هاجموا الحامية الفرنسية، و”ماريا” و”ليليانا” في (سراييقو) حيث البرد والثلوج وصراع الانتماء والهوية ما بين الشرق والغرب، جمعت الأربعة سعادة البدايات، ثم افترق جمعهم كما عديد النهايات، حيث عاد “عباس” لبلاده فألقت به مباشرة في أتون حربها مع إيران ثم الكويت تاركًا زوجته حبلى بطفلة لم يحملها بين ذراعيه، وعاد “أيوب” لبلاده فألقت به هي الأخرى في جحيم حرب ليبيا وتشاد، وتنبأ والد “ماريا” بحرب تلوح في الأفق فخطفها من “أيوب” مع أمها “سلافيتسا إيفانوفيتش” وهاجروا جميعا إلى كندا، ثم وقعت حرب البوسنة فعلا وقُتلت فيها “ليليانا” على الرصيف بدم بارد وهي تحاول مساعدة مرأة لا تدين بدينها ولا تقل عنها ضعفًا تاركة “ساشا” وحيدة يتيمة لا تملك إلا رسائل وصلت لوالدتها من “عباس” والدها الذي لم ترى وجهه، وصورًا  لهما مع رفاقهما مكنتها من التعرف على “أيوب” الذي رحل وهي جنين في رحم “ليليانا” ليعود فيجدها شابة عشرينية تدرس هندسة الديكور وتكتب القصة والرواية وتعمل نادلة في مقهى، فيقرر أن يكتب رواية أربعة أصدقاء جمعهم الحب في (سراييقو) وفرقتهم العودة لبلدانهم والانخراط في الحرب، هذه الحرب التي يتخذ قرارها الزعماء والقادة، وتكتب عنها الصحافة وينقل مجرياتها الإعلام وتنتهي بتسوية ما تزيد عدد النياشين على صدور الكبار وترسل الصغار للمقابر، وكما تدمر المباني وتحصد الأرواح تفعل مع قصص الحب وأبطالها ممن لا يهتم بالكتابة عنهم إلا شاعر أو قاص وراوي.. فكانت رواية بين عُمرين جُمعا معًا في (عمر آخر).

حضرت الطفولة في (عمر آخر) في صورة “أيوب” ورفاقه وهم يتسلقون سلالم قلعة (سبها) أو يتدحرجون على صخورها، وقدمت لنا كبارًا طحنت الحرب طفولتهم وعدّتهم ضمن ضحاياها، فهذه “سلافيتسا إيفانوفيتش” والدة “ماريا” كانت إحدى أيتام حرب ما، وهذه جدة “ساشا” قتل النازيون والدها خلال الحرب، ثم “ساشا” نفسها التي تدخَّل كل من “أيوب” و”ماريا” كي لا تُجهض وهي جنين، قتلت حرب العراق أباها وحرب البوسنة أمها، ومع كل الألم والحزن تفلح جدتها في تنفيذ وصية “عباس” في أن تهتم ابنته بالفنون، قد تقتل الحرب الآباء والأمهات لكنها لن تهزم الفن والحب والإنسانية.

وجد “أيوب” المهتم بالشعر والفنون نفسه محشورًا في عربة عسكرية تنبش الصحراء وصخور الجبال جنوبًا صوب (أزوار) ثم (فايا لارجو) في عمق يزيد عن 400 كيلو متر في الأراضي التشادية، يتم تلقينه في دقائق قواعد الاشتباك البري بعد أن أنفق سنوات ليتخصص في الدفاع الجوي وصواريخ سام 7، وصار مضطرًا لتأمين سلامة رتل يقوده بين جبال (تيبستي) وأن يحترف القتل ليحفظ حياة جنوده السبعين، بينما تعبر روحه صوب الشمال مقتفية أثر طفولته بجوار قلعة (سبها) ثم أجمل محطات شبابه مع “ماريا” التي لم يبرح طيفها مخيلته، يا لهؤلاء العشاق الشعراء كم يشبهون بعضهم، وببساطة يحذفون حرف (الراء) لتستقيم الكلمة والحياة، وليتهم هم من يحكمون العالم، منذ أكثر من 15 قرنًا وفي صحراء مشابهة وحرب ضروس قال “عنترة”:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل… منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها… لمعت كبارق ثغرك المتبسم

رَدّ “أيوب” في معركته الأولى على أول عيار ناري هاجمه بقصف بالقواذف والمدافع الرشاشة بلا هوادة ولمدة نصف ساعة حتى أسكت مهاجميه للأبد، هكذا هم الهادئون مخلصون في كل شيء في الحب كما الحرب، ألا يقول الشعراء أن الكلمة رصاصة؟! فكيف بالرصاص إن أطلقه شاعر تتنازعه تجربة يمضيها كلها وهو بين البينين؟! بين الجندية والشعر!!

رواية (عمر آخر) للشاعر عمر عبدالدائم
رواية (عمر آخر) للشاعر عمر عبدالدائم

لعل ما كتبه المؤرخون عن حرب ليبيا وتشاد خلال الفترة 1978-1987م والتي اختتمت بما عُرف بـ(حرب التويوتا) لم يفلح في تقديم تلك الحرب على حقيقتها وبصورة موضوعية تستحضر الجذور التاريخية والتوصيف الجيوسياسي للأسباب والمسار والنتائج، وقبل هذا وبعده لم يتطرق للحكايات الشخصية للذين أجبروا على المشاركة فيها أو تسديد ثمنها من الطرفين، لكن (عُمر آخر) توقف القارئ حذاء “أيوب” وهو يشاهد في يوم ميلاده الـ24 أشلاء التشاديين الذين أمر بقصفهم متناثرة على صخور الجبل ويديه ملطختين بدماء لم يطلبها، ولم يقبلها، لكنه مجبر كمقاتل شرس على المضي قدمًا فيما بدأه محاولًا إقناع نفسه أن البقاء للأقوى وأن يضرب بالمبادئ التي عاش عليها حتى هذه اللحظة عرض الحائط وهو يستمع لتوجيهات المقدم “حميدي” الذي لا يرى حلا في الحرب إلا القتل!! كم هي بشعة الحروب حين تحيل الأخيار أشرارًا، وليت الذين يتخذون قرارها في مكاتبهم الفاخرة يخوضونها بأنفسهم في ساحات الوغى ويواجهون ما يعقبها من مأساة بروح شاعر لا يمكنه إبعاد العاطفة والموضوعية عن تفكيره.

كان “أيوب” يستمع لجنوده يروون لزملائهم بفخر ما حدث لقتلى الكمين فيما يلوم نفسه وقد صار (الشاعر القاتل)، ويخشى أن ترفض “ماريا” نسخته الجديدة، وبعد 23 سنة من الهجرة، يلتقي “ساشا” في ذات الشمال البوسني حيث رشف الحب مع “ماريا” لأول مرة، ليعرف مصير أبويها فيقرر الهرب فورًا حتى لا يُفجع بخبر مشابه عن حبيبته!

انصاع “أيوب” لمبادئه وتربيته الدينية وما تعلّمه من قوانين السلم والحرب فأطلق سراح الأسرى البسطاء وأكرم ضيافتهم، ليرسل له الله “موسى” الراعي فينقذه من الموت فوق الرمال وحيدًا طريدًا، لقد نصحه المقدم “حميدي” بقتل أمثال “موسى” تحسبًا من المخاطر، وكم هي غريبة هذه الصحراء عندما تنعكس فيها الأدوار فتطلق من أسرته من فريق خصمك وينقذك من كان يمكن أن تقتله من نفس الفريق وهو يعلم أنك عدو لكنه لا يبالي!! وكأن المؤلف يرغب أن يقول لنا أن الحروب مهما انتصرت فستهزم قطعًا أمام الإنسانية.

ولمزيد المفارقات، نرى “أيوب” أسيرًا في العربة بين أقدام جنود يأخذونه لمصير مجهول، وقد نجا من بتر إصبعه لسرقة خاتم “ماريا” وانحصر تفكيره فيما سيقوله لها عن الخاتم! وخلال اعتقاله علم بهزيمة القوات التي كان قائد أحد أرتالها في (وادي الدوم) و(أزوار) و(فايا لارجو) و(فادا)، وربما خمّن أن “عباس” العراقي الذي يحمل صورة طفلته يمنحه الحلم بلقائها أملا يربطه بالحياة ومقاومة الموت، كان أفضل حالا من “نوري” الليبي الذي لا يعرف حتى إن كان قد ترك هدية لزوجته تؤنسها مذ تركها عروسًا مخضبة بالحناء والشوق والألم أم لا.

رسم المؤلف ببراعة خطًا عميقًا في روايته بين الإنسانية والتوحش، حيث يلتقي “أيوب” في نبل تفكيره وحضور ضميره وثقافته مع “شو”، فكل منهما ينتمي لفريق خصم للآخر، إلا أن الحرب لم تنجح في تحويلهما لذئاب بشرية، “أيوب”، “موسى” و”شو” كل قدم من بيئة وثقافة مختلفة لكنهم حافظوا على إنسانيتهم في مواجهة قذارة الحرب ومنحوا الحياة قدرها كحق لكل إنسان ولا للقتل مهما كان الموقف خطرًا.

بعد محنة الأسر لثلاث سنوات وتسعة شهور يغادر “أيوب” جوا بلادًا أتاها بالبر غازيًا مدججا بالسلاح، وقد عرف سر “شو” رفيقه في معتقل (الطين والعنكبوت) ومحرره من الأسر في أنجامينا، بترتيب إلهي كما قال “الحطيئة”:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه… لا يذهب العرف بين الله والناس

سلط “عمر عبد الدائم” الضوء في روايته على عديد من قضايا الحب والحرب، والحياة والموت، وتتبَّع الحالة النفسية للجندي عندما تسرقه بلاده من عائلته وأحلامه وتلقي به في أتون معركة قد لا يراها نزيهة ولا فرق في ذلك بين معارك الشمال والجنوب والشرق والغرب بداية القرن أو نهايته العلمين أو وادي الدوم أو البوسنة أو العراق أو أفغانستان، أفريقيا أو آسيا أو أوروبا، ثم حالة هذا الجندي وهو مجندل في الصحراء تدفنه رمال العواصف وحيدًا دونما يد حانية تواري جسده وتنصب شاهدًا على قبره للعابرين والباحثين، أو حالته خلال محنة الأسر بما فيها من إذلال آسر نذل أو احترام آسر شريف، ثم حالته بعد العودة إلى الديار وما تبقى فيها من الأهل، وكل السياط التي تجلد روحه فلا يمكنه تحقيق أمنية لأم حتى يشهد احتضارها ولا الاستجابة لتحفيز إيجابي أو سلبي من بيئته المعزولة عن عالم يتغير كل يوم فيما هي تتوقف عنده لدفعه لترك كل ما مضى ورائه والبدء من جديد كعصفور وُلد للتو في عش نظيف ودونما أثقال أو أغلال ولا حتى ريش أو زغب.

طالع أيضًا: عُمرٌ آخر (عمر عبد الدائم)

يستفيض “أيوب” في استذكار بعض المحطات ويختصر غيرها، فحين يركز مع الدقائق في مساحات يلفلف في غيرها سنوات، ومع هذا يكمل الرواية ويوكل لساشا كتابة الفصل الأخير، لكن الأقدار تصاب بالغيرة، إذ كيف تكتب فتاة صغيرة نهاية ما لم تشارك في نسجه؟ وكيف يقبل من يصنع شيئًا تسليمه لبديل كي يكمله؟ لذا ألقى المبدع “عمر عبد الدائم” آخر رشقة قدرية في ملحمته الروائية، ففي الوقت الذي ركب “أيوب” السيارة لمغادرة الفندق الذي تبين أنه ضمن سلسلة تترأس حبيبته مجلس إدارتها، تحجز “ماريا” فيه حجرة حاملة لقبها الأصلي “يانكوفيتش” ما يعني أنها باقية على العهد مع “أيوب”.

وهنا لا يفوتني أن أعتب على مبدع (عُمر آخر) لقد أقحم قرائه في عمرَي روايته حتى تراءى لهم طيف “ماريا” مثل “أيوب” وانتظروها معه، لكنه غادر قبل قدومها، أتراها جاءت في مهمة عمل فقط؟ أهو المجيء الأول لها كأيوب منذ عشائهم الأخير؟ أم أن أنفاسه الدافئة ودموعه السخية أحضرتها؟ لماذا بعد كل لحظات الخوف والترقب واليأس والأمل التي أفلح شاعرنا الراوي في الإبحار بنا عبرها في روايته ترك النهاية مفتوحة ولم يُبقي “أيوب” في (M&M) قليلا بعد، فقد يصل القدر ما قطعه الخبيث “ميروسلاف” والحروب القذرة ويتجدد الأمل وينتصر الحب مانحًا لأيوب وماريا معًا عمرًا آخر؟

مقالات ذات علاقة

ذُبابةُ رِحَاب

يونس شعبان الفنادي

احتفاء

ناصر سالم المقرحي

أوان بوح القصيدة

المشرف العام

اترك تعليق