كلُّ الأجناس الأدبية تمثل شهادةً على زمانها وعصرها ومكانها، وتوثيقاً للأحداث والمناسبات والمواقف، وتصويراً للحالة المعيشية والفكرية التي يعيشها المجتمع أو توصيفاً لعناصر المكان والزمان أياً كان في ذاك التاريخ، حتى أن الكثيرين من علماء الأنتربولوجيا يرجعون أحياناً إلى نصوص السرديات لمعرفة بعض تفاصيل الحياة الاجتماعية ومناحي أفكار الناس وتطوراتها مع أحداثها في أزمنتها الماضوية من خلال القصة والرواية وغيرهما…
فعلى سبيل المثال نجد في مجال الأدب القصصي المبدع الراحل الدكتور خليفة التليسي في مجموعته القصصية (زخارف قديمة) ينسج مشاهداته عن أحوال أهالي مدينة طرابلس وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم مع المستوطنين الإيطاليين وحياتهم إبان فترة الخمسينيات، فنستخلص من تلك القصص الكثير من الملامح الاجتماعية والسلوكيات والأفكار المتباينة. ولاحقاً استطاعت الأستاذة عزة كامل المقهور أن تسجل لنا في مجموعتها القصصية (فشلوم) عدة تفاصيل دقيقة لأحداث ثورة فبراير وبعضاً من أبطالها وشخصياتها بأسمائهم الحقيقية غالباً أو المستعارة أحياناً، مستلهمة من واقع ومجريات تلك الأحداث ذاتها، أفكارها القصصية وأعلامها وتوثيقها من خلال مشاهدات وحوارات تنقل ما يدور في ساحة الشارع الليبي خلال تلك الفترة العصيبة في حياة الليبيين.
وفي هذا الإطار نفسه جاءت المجموعة القصصية المعنونة (العالمُ ذبابةٌ حطتْ على أنفِها) الصادرة حديثاً للقاصة البارعة الدكتورة رحاب شنيب، التي غاصت بنا خلال تلك المجموعة الممتعة في واقعية الأحداث القاسية التي مرت بها مدينة بنغازي كافةً، وهي وأسرتها على وجه الخصوص، فجاءت قصص المجموعة مكتظة بالعديد من المشاهدات المؤلمة، وصور المعاناة التي غلب فيها النقل الواقعي الحقيقي المعاش لحظة بلحظة وحكاية بحكاية، على التصوير المستوحى من نسج وصياغة خيالها القصصي الخلاب، أو البناء السردي الافتراضي الباعث على الإندهاش والتشويق والجاذبية، الرامي إلى الرحيل بالقاريء بعيداً عن عوالمه المكانية والزمنية.
إن مجموعة (العالمُ ذبابةٌ حطتْ على أنفِها) تقدم شهادةً أدبية قصصية مكتملة الأركان على حياة واقعية عاشتها بنغازي الحبيبة إبان المواجهات المسلحة مع الإرهابيين والمتطرفين، وقد سجلتها القاصة المبدعة بروح تملك كل الشجاعة والفطنة التي جعلتها أولاً تواجه تلك الظروف المرعبة في حينها، وتتجاوز حالات الانكسار النفسي والضيق والعوز المعيشي المادي، وثانياً قدرتها على رصد والتقاط صور ومشاهد ومواقف ظلت طازجة تنبعث منها روح المغامرة والتحدي والخوف والقلق على الأطفال أولاً ثم الأنفس الإنسانية كافة.
إن رحاب شنيب.. الإنسان… المواطنة.. الأم.. الكيان الأنثوي الرقيق.. كانت تكتبُ وتتوسد الموت بشكله المادي حيث ظل معها وبجانبها على الدوام، بل ربما كان يطوقها من جميع النواحي والأركان في بعض الأحداث ويترقبها عند البوابات الموحشة وفي وجوه الملثمين ودوي أصوات التفجيرات الدموية، ورائحة الرصاص الكثيف العشوائي القاتل، ولكنها استطاعت تلك المبدعة.. الإنسان.. المرأة.. الأم.. الشرقاوية.. بكل الإيمان والتحدي والإرادة القوية أن تنقلب عليه، وتواجهه بقلمها الإبداعي وفكرها القصصي المشوق، بل وتهزمه وتقبض عليه وتسجنه في حكاياتها وقصصها الجميلة فجاءت تلك النصوص إضافة ثرية وموثقة لفترة زمنية مهمة في تاريخ المدينة وليبيا كافة، وستظل بالتالي مرجعاً في المستقبل لكل من يتطلع لمعرفة حجم الرعب والإرهاب والدمار والخراب الذي تعرضت له بنغازي، ولكن في نفس الوقت سينبهر بقدرة الكاتبة الإنسان على المواجهة وصفع القبح والتوحش والخوف والموت بنصوص مجموعتها القصصية (العالمُ ذبابةٌ حطتْ على أنفها).. فشكراً للمبدعة رحاب شنيب على هذه الالتقاطات المثرية للمشهد الأدبي والقصصي في ليبيا الحبيبة.
________________________
نشر بـ: جريدة برنيق .2019.