من فرط حلاوة الصوت البشري، أنه أحياناً، يخرج مصحوباً بموسيقا شجيّة، كأنّ في حنجرة صاحبه، تكمن جوقة موسيقية متعددة العازفين، فتتحوّل الحنجرة، التي هي من مثل هذا النوع، إلى ما يشبه سماعة لجهاز إلكتروني، يتدفق منها صوت تسجيل أية أغنية بموسيقاها وصوت مؤديها معاً، فأنت حينما تشغـّل أي تسجيل ٍ لأية أغنيةٍ، تلحظ سمعاً، أنّ السماعة تأتيك بصوتي الموسيقا والمطرب بدرجة واحدة ومن مصدر ٍ مشترك، بعكس ما تسمعها في حفلٍ حيٍّ، حيث يتناهى إلى أسماعك صوت الموسيقا بدرجات صوتية تختلف بالتمام عن صوت المطرب، بل إنّ حتى درجات وطبقات الصوت تتفاوت بين كل آلة موسيقية وأخرى ؛ وقد عرفت الأغنية العربية أصوات مطربين ومطربات كبار، لهم حناجر موسيقية، كالفنانة ” ليلى مراد ” و” شادية ” و” محمد قنديل ” و” كارم محمود ” و” عبد العزيز محمود ” واشتهروا من دون زملائهم بهذه الخاصية في أصواتهم الموسيقية.
و في ليبيا مطربون من هذه الشاكلة الصوتية النادرة الوجود، ففي كل جيل من الفنانين، تبرز أصواتٌ من هذه الخامة الصوتية البديعة، وأول من برز من هؤلاء المطربين، الفنان الراحل ” علي الشعالية ” و” عطية محسن ” و” ناصف محمود ” غير أنّ للأوسط صوتاً أخّاذاً، لم يفتقد بريقه الموسيقي حتى رحيله المبكر عن دنيانا، وهو في أوج عطائه وتألقه، أما الأخير، فقد اختار لذاته مجال التلحين، وبذلك افتقدنا صوته بمحض إرادته، ولقد كان أخر ما لحنه ما سمعناه منه فيما يُعرَف بـ ( الجلسة ) – ولست أعي حقيقةً، ما كان داعيه إلى اختيار هذه التسمية، التي عُرف بها الغناء الوافد إلينا من بلاد الخليج العربي، حينما يصطفُّ بعض المغنين جلوساً في شكل مربع ناقص ضلع، تتوسطه مواقيد النار، صيفاً وشتاءً، لإحماء الدفوف، التي يعتمد عليها هذا الضرب الغنائي الإيقاعي المعروفة به هذه المنطقة، التي تقع في أقصى المشرق العربي – فبعد أنْ كان الفنان ” ناصف محمود ” عازفاً على آلة الناي، ونفخ لزمن طويل في قصبته الخشبية الحزينة وبرع في ذلك، فكان لاعباً أساسياً في فرقة الإذاعة الموسيقية، انتقل إلى مجال الغناء، وبرز بصوته المموسق العذب في أغنية ( ميلي ) غير أنّ طموحه الفني، لم يقف عند ذلك، فسرعان ما تحوّل إلى مُنغِّم للكلمات وتزيّ بثياب الملحن، شأنه في ذلك، شأن عازف ( الساكسفون ) الفنان ” خليفة الزليطني ” غير أنّ الموسيقا التي سمعناها في صوته وهو يؤدي، كانت أشجى من الموسيقا النابعة من ألحانه، بحسب معتقدي، الذي أحتفظ به لنفسي، ولا أطالب هذه الصحيفة بتبنيه، حال نشرها لهذه المقالة، فلو اكتفى بخطوته الثانية، أيّ عند الأداء، لكان أفضل له وللأغنية الليبية ولنا نحن كمستمعين، ففي جلسته الليبية، لم يأتِ بشيءٍ جديد للأغنية المحلية، فكان كل ما قدَّمه مجرد محاولة لإعادة تقديم أغنيتنا إلى مربعها الأول ذي الضلع الناقص، أيّ إلى مرحلة ما قبل عملية التطوير والتحديث التي عكف عليها مجموعة من الملحنين والموسيقيين الضالعين بفنّ الغناء العربي المتقن، مثل الموسيقار الراحل ” كاظم نديم ” و” يوسف العالم ” و” حسن عريبي ” و” محمد مرشان ” و” إبراهيم أشرف ” وغيرهم من مبدعين، فبرز في كل جيل – كما أسلفت – صوتٌ من هذه الخامة النفيسة، التي لا يجود بها الزمن دوماً، مثل الراحل ” علي الشعالية ” ومن الجيل اللاحق ” عطية محسن ” و” علي القبرون ” و” خالد سعيد “.
و سأتناول في هذه الفرصة، الفنان ” عطية محسن ” بشيءٍ من التوسع، مع الوعد، بأنْ نعطي الآخرين شيئاً من اهتمامنا، فيما يأتي من مقالات – بعون الله – فلهذا المطرب، صوتٌ يمتاز بحلاوته ونقاوته، اللتين تكتسيهما شحنات موسيقية، قلما أنْ يقلَّ دفقها، فهو كما النهر العذب الغزير ماؤه، الذي لا ينضب في أي موسم من فصول السنة، ففي صوته تتكامل عناصر الأغنية جميعها، حيث إنّ الأغنية في أصلها، تكتمل بعد أنْ يقوم الملحن بالجمع والتوفيق بين المتقاربين وجدانياً أساساً، وهما الشاعر بكلماته والمغني بصوته، إلا أنّ هذا الفنان القدير رحمه الله، كانت له حنجرة، كما البوتقة التي انصهرت فيها الكلمة مع الجملة اللحنية والموسيقا، التي تنتج من الآلاتية ( العازفين ) مع صوته، لتكون هذه القامة الصوتية المرموقة بمثابة أغنية تتحرك على رجلين، فقد تجسدت في شخصه وصوته، الأغنية مستقلة ًعن أيّ تأثيرات خارجية أخرى، اللهم إلا، مجهودات كاتبي أغنياته وملحنيها الأفذاذ، الذين أذكر منهم الملحن الكبير ” إبراهيم أشرف ” الذي لحَّن له كوكبة من أعماله، تجيء في مقدمتها، أغنية ( بلدي ) التي يقول فيها من شعر الراحل ” عبد السلام زقلام “:
بلدي يا فرحة أيامي
بلدي يا حضني وأحلامي
…
بيديا نبنيك يا بلدي
بإخلاص انعليك يابلدي
و ما نبخلش عليك ابدمي يا بلدي
و ما نبخلش عليك ابعمرى يابلدي
فصوت المطرب ” عطية محسن ” بالإضافة إلى الموسيقة التي تسكن فيه، هو أقرب إلى صوت المطرب المصري الراحل ” محمد قنديل ” فهو مثله يبدو كأنه ملحون وملحوم، أو كأنّ نبراته مرتبطة بعقد لا تنفرط عُراه، فلا تتحسّس أثناء استماعك إليه، بأنّ ثمة فواصل بينها، فهي مرتبطة ببعضها البعض، ارتباطاً عضوياً لا انفصام له، وهذا ما جعل صوته يظهر رصيناً في مراحل عمره الفني كلها، إلى أنْ اتحفنا برائعته ( كلام الناس ) بصوته، وهو في أحلى شكل يمكن أنْ يظهر به الصوت البشري، وهذا لا يعني ضرورةً أنّ بدايته كانت تشوبها بعض النواقص في اكتمال المحاسن الجمالية، فهو في حلاوته، كما ثمار النخل، حينما تبدأ كبلح بحلاوته، ثم تزداد حلاوةً في مذاقها، حينما تتطور نضوجاً إلى رطبٍ جني، فتتحول بعد ذلك، إلى تمور شهية، وهذا ما حدث لصوت هذا الفنان الراحل، حينما استمعنا إليه في أغنية ( ما تحكيلي ) وهو يترنم بهذه المعاني الرائعة للشاعر ” عبد السلام زقلام ” أيضاً:
ع الحب ما تحكيلي.. ناسي سريبه خليني
…
ساعدني عن هم قلبي باعدني
نحساب حبي يسعدني.. ثاريت وعده امشقيني
…
أيامه فـ القلب طاوي وأحلامه
ناسيه مواله غرامه.. رد السلف للي انسيني
…
عذبنا قلبي وأنا تعبنا
تاب الحبيب وتوبنا.. واتاه عزم اموتيني
…
و شموعي نورت من بعد ادموعي
كان الهنا مش في طوعي.. واليوم كاسه يسقيني..
بنغازي في: 30 / 4 / 2009