لكل شعوب العالم مكونات أساسية لهويتها والتي تختلف فيها عن بقية الشعوب، ولعل ابن خلدون قد فصل في ذلك تفصيلاً في مقدمته المشهورة، وقد ذهب به الأمر إلى أن رد ذلك لطبيعة الأرض والمناخ والمنطقة الجيوغرافية التي تكون العناصر التي تتكئ عليها هذه الشعوب، ويذكر ابن خلدون مثلاً الشعوب الإفريقية الراقصة و”الرائقة” عند خط الاستواء وأن هويتهم الثقافية المكونة لهم كانت نتاج لهذه العوامل، وهذه فلسفة عظيمة لازال يعمل العلم الحديث على البحث في تفاصيلها، ورغم أن ابن خلدون فصل كثيراً في علاقة الشعوب الشرق أوسطية والشمال أفريقية بالدين وأنها لن تفلح إلا به راجعاً بذلك لأصولية دينية كانت سائدة في عصره، هذا عدا أن ابن خلدون يُعتبر أحد ” أصوليو” ذلك الوقت بالنسبة لغيره من معاصريه من الناحية العقائدية، ويصف ابن خلدون هذه الشعوب بالبربرية والغوغائية والنزعة للاقتتال والتنازع فيما بينها إذا لم يوجد الوازع الديني ناسياً أو متناسياً في ذلك أن الدين نفسه كان حافزاً أو ذريعةً ( وليس أساساً إذ أن شعوب هذه المنطقة كانت في وقت ما في العصور الرومانية متعايشة مع بعضها في ظل عقائد مختلفة، وهذا كان أساس من أساسات الإمبراطورية الرومانية والتي تنص على تقبل كافة الديانات إلى أن خرجت المسيحية للعالم) لصراعات هذه الشعوب، ثم أنه لم يذكر هوية ذلك الدين ( نقصد هنا الطائفة الإسلامية التي يقصدها)، وهو حقيق في ما قال، إذ أن ” استخدام الدين” نفسه أمام جميع الشعوب الأرضية المؤمنة بديانة ما سيجعلها خانعة ومخدرة إن كانت متعصبة لها جداً، حتى تلك الشعوب التي يدعي قوادها العلمانية وتتخذ دولتها هذا المبدأ في مسيرتها الشرعية تُعتبر ضعيفة أمام الدين إلا فيما ندر.
ولكني هنا، لست في صدد أن أتحدث عن الدين ( أي دين)، بل عن العقلية الشعوبية والتي تمثل هوية رئيسية، أقول لستُ في صدد الحديث عن الدين كونه ديناً أيضاً بل كونه جزء من تركيبة هذه العقلية، وبما أن انتمائي التاريخي بالأرض الليبية وقلة معرفتي ببقية شعوب الأرض وما يفكرون فيه، إذ أن معرفة شعب ما، عاداته وتقاليده ودينه وعقليته وطريقته في الحياة تتطلب من المرء أن يعيش معه عدد سنين، وفي حين لم تتوفر هذه الفرصة إلا في نطاقي الجيوغرافي الليبي، أحببت أن أتناول مسألة العقلية الليبية، وقد يتفرق الناس بين طائفتين عند الحديث عن العقل الليبي، بعضهم يمجده، بعضهم الآخر يستحقره ( أتحدث عن فريقين من الليبيين) وإن كان كلا الأمرين ناتج من منظومة هذا العقل ذاته.
والعقل الليبي الحديث ليس عقلاً عربياً خالصاً ( كما يدعي العروبيون منهم) بل هو نتاج تاريخي يمتد إلى ما قبل الحقبة العثمانية الأولى، امتزجت فيه عقليات شعوب عدة من عرب ويهود وأمازيغ وأتراك وإيطاليين و ( هؤلاء هم العناصر الأساسية في إنتاجه)، فهو عقل يهودي يميل دائماً إلى مبدأ الأفضلية الإنسانية ومنها يعمل على الرؤية الدونية لباقي الناس، وهو عقل أمازيغي يميل إلى التذمر والتمرد لكنه تمرد مؤقت غالباً ما تعقبه حالة من الخنوع والرضا، وهو عقل تركي/عثماني يرى في الخرافات الكثير والكثير من هويته الروحية، وهو أيضاً عقل إيطالي يشتم حيثما شاء ويعربد حيثما شاء ومضطرب فيما يصنعه، وهو بين هذا كله عقل عربي ينقسم إلى عقليْن، أحدهما قبائلي يعتمد على التحالفات القبلية والعداءات التاريخية ويرى الخنوع للقبيلة قبل كل شيء، الآخر عقل خانع وخاضع منذ ترحيل الأندلسيين عن أندلسهم ويرى هذا العقل أن هناك مؤامرة دائمة ضده، وأنه من الواجب عليه أن يحمي نفسه من أي آخَر يأتي إليه ولو أظهر حسن النية.
أقول، هو عقل يؤمن بالخرافات بشكل غريب، بل ويجعل منها قيمة مادية تصاحبه في صباحه ومسائه، وقد تبدو مسألة إيمانه بأن فردة لحذاء مقلوب قد تقلب موازين القوى وتغضب السماء ( إذ يعتبرها شتيمة وجهت لله) وبعيداً عن كون الأمر يعتبر من الآداب العامة التي أساء صاحبها الطريقة في التسويق إليها، ومسألة أخرى كالبصاق إلى أعلى شيء محرم أو أن الخبز قد ” يشمه الشيطان” إذا سقط على الأرض( وهذا أيضاً يعتبر من الآداب العامة) ، قد تبدو هذه المسائل مسائل بسيطة جداً إذا نظر لها المرء نظرة من بعيد، ولكن إذا تفحص الإنسان في تاريخه قليلاً سيرى أن هذه المسائل البسيطة تتضخم وتكون أخرى قد يراها متوسطة وتنتج تشوهات عقلية وخرافات أكبر من ذلك، وحيث أن أثر قلب فردة الحذاء قد يُرى بسيطاً في تكوين العقلية الليبية، إلا أن ذلك يساعد مع الزمن على تقبل خرافات أخرى تعرقل من المسيرة الحضارية ومن نمو العقل الليبي إذ تكون حاجزاً وعائقاً أمام سعي الإنسان لحريته ولتقبل العلوم، ولنضرب مثلاً وقوف مفتي الديار الطرابلسية أمام فتح المدارس الإيطالية أبوابها لأبناء طرابلس وكيف انصاع له عدد لا يستهان به من الأهالي عدد سنين. ولا تتوقف الخرافة إلى حد كونها خرافة فقط، بل تتعدى إلى ذلك لتكون جزءًا من العقيدة التي يعتنقها الليبي ومن صمام أمنها وأمانها، ولكن هذا يُعالج لا ريب، يُعالج بالرد على مسوقي هذه الخرافات، وليس الرد عليها عبر ما يُكتب بل بالصفع المباشر في الشارع حيث الناس، بالفن كأفضل الحلول وأسهلها مروراً للنفس البشرية، على جُدران الحارات والشوارع، أن ترى لوحة على حائط في أحد الشوارع الشعبية تقول أن ” قلب الحذاء ليس إهانة لله” أعظم تعبيراً من الكتابة عن ذلك في الصحف والمجلات، ولنكن صادقين مع أنفسنا.. الكتابة لم تعد تجدي كثيراً، ليس السبب في ذلك وجود شاشات التلفاز والانترنت، بل سبب ذلك وجود العقلية التي تؤمن بالخرافة إيماناً غرائبياً.
________________________________________
نشر في الكاف