من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
قصة

التصرف المجاني

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني

” لو كنت عشت سابقاً لعرفت كيف أعيش الآن! “. هذا ما قاله بضبط .. ” لا شيء يمكن فهمه من خلال حياة واحدة “. النظرة التي ألقاها إلى السماء تلك الليلة دفعت صديقه المقرب لأن يحتفظ بآرائه لنفسه. ” ماذ لو مت الآن ثم عدت للحياة؟ ” قال مضيفاً دون أن يفارق النظر للنجوم اللامعة بألق فضي. ” لابد بأني سأكون حزيناً على بعض الأمور قبل موتي ثم اسعد لحياتي مجدداً لأني عندها سأفعل ما حزنت بسبب عدم فعله. أتصدق ما يمكن أن يحدث عندها؟ “.

لم يجب صديقه على الإطلاق بل واصل التحديق في وجهه. نوبات الحزن هذه تجتاحه من وقت لآخر. تعود على هذه النوبات المفاجئة. لا يزال يذكر ذلك اليوم الذي طعن فيه فخذه بخنجر مزين على عجل بعدة دوائر على نصله. كأن وسائل الموت لا تحتاج لتجميل. طعن نفسه عمداً، فقط ليرى مقدار الألم في وجوه أصدقائه. كان ذلك اليوم مذهلاً بشكل كامل. لم يصدق كمية الدماء التي نزفها. ” لا تهتموا فالحياة فيها أشياء كهذه أيضاً “.

هكذا برر فعلته يومها.

حين نقلوه للمستشفى أضطروا أن يكذبوا لمعالجته. لقد تعثر وسقط على سكينه الشخصي! كان يود أن يطلع الطبيب على حقيقة فعلته.

هناك شيطان يسكن رأسه.

” أترون أنتم أصدقائي فعلاً، أنتم فعلاً اصدقائي! “

كانوا خمسة اصدقاء وقتها ثم تفرقوا على نحو مفاجيء بسبب ضغط الحياة. البعض غادر غرب البلاد لأجل الدراسة والمغامرة. كان هو يعيش ببساطة شديدة في أغلب أيام السنة. يستمع لموسقى الجاز لتسجيلات يزعم بأنها قديمة. زمن العشرينات. يجمع تك الأفلام التي تتحدث عن الشخيصيات القيادية في أمريكا. يشير لطارئين في حياته بأن الحياة ما هي إلا لحظات صغيرة متجمعة. كيف تكون تلك اللحظات مشدودة بعناية ومقنعة؟!

كان يسأل الجميع- تخيل بأنك تبني حياتك بيديك كبناء حجري، كيف تريد أن يكون هذا البناء؟ الأغلب يجيبون بانه لابد أن يكون مترابطاً وقوياً. عندها يسأل عن الترابط من أين ينبع؟ كان يتحدثون عن اشياء كثيرة يستخلص منها ببساطة أنه ينشأ من الداخل. الأخلاق والراحة النفسية. أجل من الداخل، بضبط. كيف تبني الداخل وأنت لا تستطيع التحكم برغباتك التي تنبع من الخارج ولا تأمن الأمراض ولا تستطيع التراحل وأنت تحدق في الجمال الخارجي للعالم دون أن تحوزه ولا تفهم ذاتك على الإطلاق وأنت تتبع آراء أناس من الخارج. كيف وأنت لا تستطيع أن تفصل نفسك عن الخارج. عندها تصبح الكلمات محض مضيعة للوقت. لا أحد بوسعه ترتيب دواخل الآخرين لسبب واحد. هو أنه لا أحد يعرف دواخل الآخرين، ما يحدث هو أنهم يتوقعون من تعيشه في الخارج لتحديد أسلوب حياتك ورغباك ومدى نجاحك او فشلك. لا شيء حقيقي. إذ ما يحدث في الخارج ليس أنت، بل هو أقرب لما ليس أنت! حيث تنتهي أنت عن الترتيب الداخلي. التناقضات في حياتك هي في الخارج.

من بوسعه أن يحكم على الآخرين؟!

حتى هو لا يستطيع.

لو رضى هو بالأحكام الأخلاقية الموجهة للداخل لظلت حياته محض هراء. هكذا كان يرى الحياة بكل بساطة. لا يمكن مطلقاً معرفة الأشياء من الخارج. ” كل ما يتوجب علينا فعله هو أن نعد للداخل من الخارج، أن نهتم بالعالم أكثر “. ما عرفه وقتها هو أن جسده ليس هو. ” حين أطعن نفسي هذا لا يعني على الإطلاق بأني مجنون، بل يعني بأنه هكذا أردت أن أجرب مدى إهتمامكم بمظهري وبألمي الداخلي “. هل نجحوا يومها في إبداء الإهتمام؟! هل لهذا وجدوا برفقته لإحساسهم بألمه؟ البعض لا يهتمون لألمه. والده لم يفعل اي أمر يشير على ذلك.

لأنه شخص ولد لأجل الداخل.

الروحي ظلم للجسدي.

بعد أن تفرق الجميع بقيا معاً، كان الصمت يحكم أغلب جلساتهما. يراقبان البحر معاً بخشوع مهيب، يستمعان لزعيق النوارس وهدير الأمواج، يعجبان سراً بالبواخر الراسية في عرض البحر عند حافة الأفق. لا شيء يبدو جديداً على حياتهما الرتيبة بشكل مكدر. كانا يشعران بأنهما يعيشان داخل المستنقع كأي ضفدع في العالم. أسفل قدميهما كانت بقايا الطعام والأكياس وعلب المشروبات الفارغة ملقاة في المياه، على صخور كانت ثمة علبة فيها بقايا مشروب غازي منسكب في حفرة على الصخرة البنية. رفعا بصريهما إلى السماء، عند الأفق، نهاراً يلوح نقياً بشكل مغري وليلاً تضيئه البواخر الراسية بإضاءات كحفل صاخب، نادراً ما يظهر مغبراً وبعيداً كوهم مقيت عندها يقدم على أمر مجاني ليرى إنتفاضة الحياة في الجوار، حتى إنه طعن نفسه ذات مرة، ليعرف مقدار الحياة في الأعين.

– إنتهت –

إبريل 2013- بنغازي.

مقالات ذات علاقة

بقلاوة باللوز

المشرف العام

الـعَـرُوْس

عبدالرحمن جماعة

أقاصيص.. أقاصيص!

محمد زيدان

اترك تعليق