جزء من رواية بعنوان ” هايكو لترميم الذاكرة “.
شكري الميدي آجي
كان ذلك هو بداية كل التجربة التي وجد نفسه طرفاً فيها. العشق المنهزم. قبله كان يمهد الطريق لكي يكتشف ذلك الإحساس الجارف. داخل احدى قاعات الجامعة رأى ساقيها داخل الجينز، كانت تغادر القاعة بجراءة عارضة. عيناه لم تكونا تفارقان الأرض. برؤيتها ظهرت السماء فوقه بندف كالثلج. لم يعد يبصر ما على الأرض. مر بعد ذلك إثنى عشر ربيعاً، لم يبصر الأرض أثنائها لحظة واحدة. الذكريات غدت عشقه الوحيد. ثمة دموع في عينيه على الدوام. منكسراً بشكل يبعث على الأسى. ذات مرة قالت عجوز في المدينة حين رأته وسمعته. ” يا ربي، أنت كسير الخاطر “. لم يكن قد سمع بهذه الجملة من قبل. كان وقتها مسحوراً بظلال النخيل والروايات الفرنسية المترجمة وصور الإعلانات داخل المجلات الفنية. يقرأ بنهم بالغ وأحياناً يركض عبر الطرقات بشكل غريب، بلا سبب واضح إلا لكونه خاضعاً لذكرى منذ زمن الطفولة، أحياناً يتوهج أثناء الركض حتى يرى ما عاشه وقتها، تويوتا تدهمه بسرعة رهيبة، لينتهي كل شيء. يركض حتى يتفصد جسده عرقاً. متذكراً مرضه الروحي. أبيات شعره تلوح له وحوشاً تطارده ليلاً بكوابيس كأفيال هائجة. متى أخر مرة كان فيها حاضر الذهن؟ حتى وهو يتساءل، يكون فاقداً ذاته في ذكرياته البعيدة. يسير عبر الطرقات الليلية، يصعد الحافلات متنقلا بلا وجهة محددة، يستمع لأغاني المروكية، يشاهد المدينة الغارقة في حزن خافت ليس كحزنه المتوهج كقلب عذراء عاشقة. أصدقائه يلقون التحية متحدثين معه عن كل المواضيع، لا يكف هو عن إلقاء الآراء المتطرفة عمداً، لكي يشعر بأنه ما يزال حياً في أعينهم، كثيراً ما يرى موته الممتد، أرائه المتطرفة كانت محض موت معلن. لديه صديقان يداومان على زيارته. في السابق، قبل أن يتعرف بفتاته، كانت صداقاته كثيرة بعدد صداقات نجم سينمائي. لم تكن الأمور مهمة. في الحقيقة لم يكن شيئاً مهماً في حياته، هي من أدخلت معنى الأهمية داخل كل تفصيل في هذه الحياة. لغز ظهورها كان مشابهاً للغز إختفائها. ظهرت كنجمة نهارية، حين غادرت تحولت الدنيا لليل ماطر، هل بكى على فراقها يوماً؟ … لم يفعل، الأمر يسبب له الكثير من الألم، لا يستطيع البكاء على أهم شيء في حياته، فهل سيبكي على شيء بعدها؟ البكاء. النبع الحار للروح البشرية، هكذا يتحدث في أبياته. أين نبعي؟ لم يكن يملك واحداً. كان جافاً كصخرة نارية، كالصوان. حين يصل لنهاية جموده يتذكر بشيء من الأمل الميت ذلك الصباح. هل كان صباح أحد الأعياد؟ عيد الفطر، سهر مع أخته الصغيرة في انتظار دخول العيد، والدهما قال بأن الشمس ترقص صباح كل عيد، ثلاث أعياد مرت وهما ينتظران رؤية الشمس وهي ترقص صاعدة كبجعة ذهبية. سهرا الليل بطوله ثم حين ينعس كانت أخته تخزه بأصبعها-
“هل نمت؟ “.
” لا فقط أدت أردت فقط أن أريح عيني”.
كل عيد كانا ينامان في لحظة مجهولة. دون أن يرايا الشمس ترقص. ذات عيد. رابع عيد بعد سماعهما القصة. استطاع أن يلاحظ في لحظة إستيقظ مصادفة، إنفجار الضوء عند الأفق. تنفس هواء نقياً، بارداً كالعلكة بنكهة النعاع. غاصت المباني والأشجار في عمق ضوء ذهبي دافيء لشمس متلالئة بأجنحة مضيئة. حاول إيقاظ أخته الصغيرة التي ظلت نائمة. إلتفت مواجهاً الضوء المتفجر، قلبه يدق بقوة، جسده يرتجف، الرقصة كانت في جسده. دموع في عينيه. في لحظة مذهلة مليئة بالجلال والنزاهة، رأى الشمس ترقص صاعدة، إنسابت الدموع حارة على خديه. مولد النبي أم عيد الفطر؟ حين رفعت أخته رأسها، سألته: ” هل رقصت؟ “\ ” أجل، فعلت”.\ والدهما ضحك بأعلى صوته المجلجل. ثم بعد سنوات عرف بأن الشمس لا ترقص، فالمدرسة أكدت في كتبها بأنها مجرد نجم كبير محترق. وذات بليون سنة ستنفجر لتموت مثل شموس كثيرة أخرى انفجرت وماتت. ذهب لوالده وأخبره بأن الشمس لا ترقص لا للعيد ولا للنبي، حتى إنها لا تعرف شيئاً، وستنفجر ذات مرة كمصباح كهربائي معطوب. والده كان يعرف بالأمر، قال: بإذن الله. الأيام تخبيء الكثير من الأمور السيئة التي تحدث بإذن الله. الشيخ يسميها إبتلاء، وإن حب الله يأخذ المرء في عمليات إبتلاء دائمة. كان حب الله بالنسبة له أمراً خاصاً. فكم الأمور السيئة التي تحدث له، جعلته يعرف بأن الله يحبه كثيراً. فالقلم الذي ضاع من حقيبيته قبل درس أكثر المعلمات فظاعة، كان إشارة واضحة بأن الله يختبره أمام أفظع المدرسات بشكل مباشر. تلقى عشرات الضربات المتتالية، وقبل أن تبرد السخونة الناتجة عن الضرب على يديه، أجاب على عدة أسئلة من الدرس السابق، مثابرته، عدم عناده، وسذاجته جعلت المدرسة تقسم على أن لا تضربه مرة أخرى. في غرفة المدرسات وضعت كومة الأوراق ثم قالت للمدرسات الآخريات \ من يصدق هذا، جلدته ثلاث وثلاثين جلدة قبل أن يبلغ الدقيقة. كان يجيب على أسئلة حصة لم يحضرها؟ كيف يمكن ضرب هكذا طفل، لن أفعل مطلقاً “\ الشمس التي رقصت، كانت كذبة كبيرة. لكن اختبارات الرب لم تكن كذلك. للرب أساليب غريبة في تحقيق الأمور، كان هذا إستنتاج من عنده. لم ينسى ان يكتب الأمر في دفتر صغير، كان لوالده. ما لم يفهمه هو أن الرب متفرغ كلياً لكي يختبره أو ربما كلف ملاكاً مثابراً لفعل الأمر بكل جودة. قبل أن تهدأ تلك الحادثة مع المدرسة، كان قد دخل في فوضى أخلاقية هائلة. طوال حياته ظل مدركاً لأمر واحد، إنه ليس كالآخرين، ليس أفضل منهم، لكنه ليس مثلهم. ثمة اشياء تجعل من الأشخاص متوحدين جميعاً، لكن، لا شيء يجمعهم به على صعيد واحد. في لحظات وحدته حين كان في العاشرة، كان يرى عالماً أخر. كانت الرسوم المتحركة وقتها تفتح المجال له. ليكتسب المزيد من الأصدقاء الخياليين. كان يعي بأنهم اصدقاء لا وجود لهم. ربما كان الأمر يتم نسيانه بعد إتمام عمليات بنائهم في الذاكرة. حين يتجسدون أمامه وبعد الكلمة الأولى، تنتهي قضية خياليتهم. يصبح الخيال هو الواقع الأكثر قوة. ثمة أحاديث، ملامسات وضربات وحتى دماء، كان الواقع يقف وجهاً لوجه مع الخيال. الباب مقفل، الوسائد موجودة، الفرشات الصغيرة الأقمشة المخملية اللامعة. صفوف كاملة من الكتب يتم إنزالها على الأرض لتمثل الشعب المسحوق. جيوش خيالية ووجوه مألوفة من عالم غريب. أسماء، أجداد وسلاطين وأيضاً حيوانات وأبطال أفلام الرعب القليلة التي شاهدها عبر القنوات الجديدة. جنرالات بأعقب حديدية، وبنجوم نحاسية أسفل رؤوسهم. هل هم قراصنة بلا أرجل خشبية؟ أحياناً يشاركه ابن عمه وأخوته ثم عند نهاية اليوم تتحول القضية لمعركة أهلية، يكون هو القائد وإبن العم هو الدخيل. ذات مرة أقفل جميع أبواب البيت، حاصر إبن عمه في الفناء، أمر جميع قواته – أخوته المسلحين بالعصى مهاجمة الطفل الدخيل. سالت الدماء على الأرض. الأمر يعيد له نوعاً من الغضب في ذاته، إنه كشخص بتاريخ سيء يحتاج للعقاب. كيف يمكن أن يحتفظ بحب فتاة مثل تلك الملاك وهو شيطان؟ لا يمكن مطلقاً. الحب يحتاج لطفولة بريئة أيضاً. هكذا فكر على الدوام طوال عشر سنوات من النفي الإرادي. بعض من أحلامه عن تلك الفترة تحكي عن مدى ضياعه. ذات مرة استيقظ ليلاً وهو ينادي بإسمها ” خـ” لحسن حظه أن البيت كله كان نائماً. لم يسمعه أحد، إنما كان متأكداً بأنه صرخ بأعلى صوته. حين استوى مستيقظاً ليلتها كان صدى الإسم ما يزال على شفتيه، كالحبيبات السكرية، أحس بها في بقايا الإسم، تذوقها ، شعر بطعمها الأكثر من الخيالي، كان الأمر كالنوم داخل النوم، راحة بالغة. كيف وصل للأسم من بين كل الأسماء. لم يكن يملك صورة في حلمه، لم يرها مطلقاً في أحلامه. كيف ذكر الاسم دون أن يذكر بأنه رأها؟ فقد صورتها منذ السنة الرابعة بعد فراقهما. في دفتره كان يكتب بعض الأمور الأقرب للقصائد بالنسبة إليه دون أن يلتفت لشيء أخر. متفرقاً بخفة السحب عند ملتقي الماء بالسماء.
وحيداً في الأفق الوحشي،
كالزبد الأبيض، كاللبن المخفوق، سحباً كثيفة بلذة فم أنثوي.
السعى وراء الكلمات لمجرد النسيان. أصدقائه لم يعرفوا معنى ما يحدث له. كانت الحياة تأخذهم بعيداً. فيما هو يضع كلمات الصداقات على محك الإختبار، تماماً كما يفعل الله معه. قال لنفسه: لنرى مدى جودة هذه الكلمة! فماذا وجد؟ على مقربة من القبر عند أحد الأصدقاء تعرف على شاب جديد. وقتها تكلموا عن عدة مواضيع، الحب الحقيقي الذي لا يموت، العشق الأعلى مرتبة في السابق، الفتيات الجسورات، الصداقات المتينة. ليلتها وجد صديقاً جديداً بالمصادفة. بعد عشر سنوات، فقد خلالها تلك الفتاة وأشياء أخرى، أخبره ذلك الصديق بالذات بأنه كان يكرهه، بل كان يتشائم منه حين كان يراه عبر الأحياء. كان ليلاً بلا نجوم، رياح منعشة في ليلة صيفية، مظلمة. حين غادر صديقه، إتكيء على احدى الأشجار ثم راح يفكر عميقاً. للمرة الأولى اكتشف بأنه كان من الممكن أن يتم كرهه. قبلها لم يكن يعرف معنى الكره. لم يفترض وجوده بجواره، كان يفترض بأن كل الدنيا تحبه، أن يكرهه أحد لحد التشاؤم منه ودون أن يشعر هو شخصياً، كان الأمر مدمراً لكل شيء فكر فيه سابقاً عن نفسه. في اليوم التالي تغيير تماماً. كلما قابل شخص في الطريق يبدأ بتساؤل: هل يكرهني؟ كيف أبدو في نظره؟ كم شخصاً كرهني في السابق دون علمي؟ هل أحبتني فتاتي؟ هل تكرهني الآن؟ ثم تعلم أن ينسى الأمر، لم يفعل إلا أنه كف عن التساؤل مفترضاً أن لا أحد يهم في هذه الحياة. أي شخص يكره لا يهم في شيء. كما كانت الأمور مهمة في السابق. يمكن لها أن تصبح مهمة مرة أخرى. بعض الأمور الأخرى تظل إلى الأبد مهمة. كاليوم الذي وقف فيه تحت الشمس يحادث فتاته الجامعية. كانت أرسلت له رسالة مع صديق. تريد محادثته. لم يكن قد فعل منذ أشهر طويلة. حملت مذكرة صغيرة واتجهت ناحيته. كانت الشمس مشرقة كوجه حسناء هلينية. وقفت أمامه لم تكن تبتسم، حاول أن يجعلها تبتسم لكن الشمس كانت قوية جداً. فجاءة صار كمن يقف أمام شمسان. العرق من داخله ومن خارجه، مسماته تحترق بشكل مؤلم، كوخزات الإبر المتعاقبة على طول الظهر. كان ينظر لتقليب المذكرة بين يديها. بعض اللحظات تأخذ أبعاداً أخرى خلال الحياة. تصبح على الدوام أكثر كثافة. كان بوسعه أن يتوقف هنا بعد عشر سنوات. أن يوقف الصورة أو المشهد ليتذكر بدقة ما كان يحدث. ما يجري في داخله وما يجري حوله. كان هو والعالم متحدين تماماً. لم يكن يعرف شيئاً عما يجري في داخله. ذات مرة بعد سنوات عرف بأن هناك خللاً عميقاً. لم يكن يعرف ما يجري في داخلها. عرف كل شيء في تلك اللحظة. الفتاة التي تحدق إليهما وهي تعبر بهدوء، بدت لاحقاً غير هادئة. القلب الذي يدق في الجوار، لم يكن قلبيهما. كشك المراجع المسروقة والمحاضرات المنسوخة والذي يعرض احياناً فيديوهات لبرتني سبيرز، بيت الغفير الدارفوري المسيج بالأعشاب الطبية، السيارة اليابانية الواقفة عند الملعب الإسمنتي وداخلها أعين شابان قريبان لفتاته الصغيرة. أصوات أصدقائه الجامعيين الذين تركتهم في نقاش ساخن عن نشأة الكون بنظريات ملفقة بتوتر، بحيث تداخلت آراء جيولوجيا بقوانين فيرزياء وآيات قرآنية ليغدو المزيج قصة اسطورية مذهلة يمكن تصنيفها في إطار الإعجاز العلمي. في خضم نظريات معقدة عن الأوتار الفائقة والكون الموازي ونظرية الكايوس. هناك امتدادات متشابكة لم حدث يومها. الصورة دوماً تتزداد تعقيداً وتشعباً. كم مرة فكر حولها خلال عشر سنوات. كل مرة يكتشف أشياء ذات ظلال هائلة. ذات مرة استطاع أن يعرف بضبط طريقة تنفسها كما إنه رأى تلك الحركة في إصبعها، الحركة الدقيقة التي اكتشف لاحقاً بإنها جزء من شخصيتها. كما كان يحب طريقة لبسها، سيرها، البريق في عينيها. لا يمكن أبداً نسيان ضحكتها الرنانة ذات صدى الروحي العميق. كان يشعر بالإرتعاش لذيذ داخل صدره. أراد أكثر من مرة أن يقول لها بأنها اكثر أمور حياته حميمية. لكنه لم يفعل في تلك المرة. نظرت إليه وأخبرته بأنها لا تستطيع أن تتحمل المزيد. صديقاتها يتحدثن عن الأمر. وإنه يقدم على أمور جنونية. نظر إليها، كانت الشمس في عينيه. كان لابد من البحث عن مكان أكثر ملائمة. الشمس تجعله يفقد الكثير من تركيزه.
” هل أنت من كتب على سطح القاعة؟ “. ضحك ببلاهة ثم متمعاً بها. قال-
” أجل! أنا “.
” الفتيات يعتقدن بإنني أنا من فعل “. قالت بصوت حاني.
” الفتيات يعتقدن أن ” خــ” صعدت للسقف القاعة وكتبت بالحروف الإنجليزية “. ضاحكاً.
عندها ضحكتْ. كم كان اسمها لذيذاً. كانت مشاعره تجاه ضحكتها أشبه بإحساس تناول حلوى ذات الغلاف الذهبي، دائماً فيها شيء طفولي بريء. كانت أمراً مدهشاً إلى الأبد. هل عاش أحد مثل تلك اللحظة؟ بالرغم الألم الناتج عن الشمس والعرق، كان ثمة احساس هائل بالروعة. عاش لحظات ألم كثيرة تحملها بتذكره ذلك اليوم. ذات مرة كتب رسالة شكر لها ورماها في البحر الأبيض المتوسط. كتب بضبط: أشكرك على ذلك اليوم، ملاكي. ثم رسم الشعار الخاص بثلاث أحرف إنجليزية. كان قد اكتشف بعد ذلك إنها تستخدم شعاره في أوراقها. كتابته للشعار على سقف القاعة كان أمراً متفوقاً. اصدقائه لا يكفون عن ممازحته بسبب تلك الحادثة. إفتراق عن أحدهم لمدة سبع سنوات، بعد أن قابله بالمصادفة على صفحات الفيسبوك. كان السؤال الأول بعد التحايا عن فتاة الجامعة. كانت قد غابت عن حياته منذ عقد كامل. لم يشعر مطلقاً بنفسه في الوقت الحاضر حتى قابل ” فـ ” كانت رائعة الجمال، لطيفة، دائماً تعرف الكلمة المناسبة في الوقت المناسب. كان ذلك شتاء 2007 هطل خلاله المطر بجنون. لفت المدينة سحابة من الأوهام. برد وعاصفة متوقعة على مدى عشرة ايام كاملة. عطلت خلالها المصالح الحكومية. لم يتبقى أمام الجميع إلا الذكريات المشتركة والبطولات التي حدثت في غياب الآخرين. المسنين كانوا مولعين بالحديث عن الملك الذي ظل يلوح لهم بكفه البيضاء عبر الشرفة أو من نافذة سيارته المرسيدس وهو يعبر الطرقات، منذ خمسين سنة حتى بعد وفاته. قال أحدهم بأنه شاهده برفقة الملكة البريطانية التي أخذت بدورها تلوح بمنديلها عبر النافذة، كان زمناً مرتبطاً بشدة بالعالم، العجائز، الجدات يأخذن في سرد القصص الخيالية (( أتعرف سبب غرام الجدات بالقصص الخيالية؟ )) لا أحد يرى جدة ما تتحدث عن طفولتها مطلقاً، كأن لا طفولة للجدات في أعين الأحفاد لذا الحديث حولها لا يعني الكثير. جدته ظلت كشابة حتى وفاتها، بطولها الأنيق داخل الفساتين المشجرة أنيقة برسومات الغزلان الهاربة برشاقة وخفة. كانت من تلك اللواتي يغرمن بالأعمال اليدوية، كان هو غيره من أحفادها ينادونها بأمي، فقد كانت تتصرف على الدوام كام حديثة. كانت مرتبطة بدورها بعصر ملكي حافل بالصور، تحتفظ بصورة للملك في صندوق حديدي قديم. البعض عبر الحافلات لا ينسى أن يتذكر ما يحدث في العالم الآخر. كدمار نيو أورلينز قبل سنتين، من ذلك العالم. إنما الأعاصير لا تحدث في بلاد المسلمين. الكفرة فقط يموتون بالأعاصير بينما الصلف الليبي يعبر الطرقات بسلامة مطلقة للسماء. كان هو يتساءل عن مدى حب الرب لهؤلاء لكي يختبرهم بهكذا قوة كبقية من تأثيرات الطفولية التي يستمتع بها لدقائق ثم يهجرها، إختبار الرب للنصارى. أسر بهذا الأمر كأحد أرائه المتطرفة لصديقه. نظر في وجهه وقال بأن الأمر يتعدى قدرة الإنسان على الفهم. كانا يحلمان بأشياء شبه متشابهة. الخوف كان من الفقدان الحقيقة. كانت الحياة كثيفة كثافة الحلم المشترك. لنعد من ماضينا لنرى كيف أصبح المستقبل. أتظن بأن كل شيء على ما يرام؟ أتعرف أخاف أن نجد أنفسنا قد أخطئنا الطريق يوم الحساب؟ كيف ذلك؟ لا تهتم فالأمور محض توقعات لا أكثر. نعم في تلك السنة ولد من جديد احساسه بالتوقع. متى مات؟ كان ذلك قبل خمس سنوات كاملة. على احدى حافلات الربع وخيوط المطر تنساب بمروكية حزينة على زجاج الحافلة. أخبره أحد الركاب بأن نهاية كل الأشياء تبدو وشيكة. نظر إليه، كان مسناً لم يحلق ذقنه منذ مدة. يرتدي فرملة حائلة اللون، ربما كانت بنية في وقت ما، على جنباتها بقايا زمن غابر. ارتخى على كرسيه ثم قال: ” كانت الأمور بسيطة في السابق، الآن لم تعد، مطلقاً لم تعد بسيطة \ لا شيء بسيط \ أترى، هكذا غدت الحياة بلا هدف\ ماذا تعني؟ \ في السابق كنا نعرف ما نريد، كنا نريد أن نؤسس عائلة، نحترم أباءنا فنحلم أن نكون أباء بدورنا، هذه الأيام الأمور تغيرت. لم تعد الحياة مفهومة\ نظر إليه لوهلة ثم جعل يتابع الزجاج المغلق، كانت أنفاسه ترتسم بحرارة بيضاء على الزجاج الجانبي، فخط عدة أحرف بالإنجليزية، ليعرف بأنه فريسة شرود حقيقي. أصابعه تعمل بشكل آلي. تمدد ببطء على الكرسي، كانت الحافلة تنساب في الليل الهاديء نحو وجهتها. غرق عميقاً في النهار التازري، سنة 2007 عاد بذاكرته لزمن الطفولة. كان وقتها يجاهد لصنع سيارة سلكية، كانت الأسلاك لا تطاوع يديه مطلقاً. شدها بعنف حتى ينسلخ جلد كفيه. يلفها بعناية ليصنع قاعدة الهيكل لسيارته السلكية، لا ينجح على الإطلاق، دوماً ثمة إعوجاج واضح للعيان. يلقي بقاعدة الهيكل ليصنع واحدة أخرى. سيارة في ذهنه لا يجد سبيلاً لوضعها كما هي. منتصف النهار قبل سنوات في تازر. كالحلم على الدوام، السير داخل تلك الطرقات الترابية. بالنسبة له أن يكون موجوداً في خياله عبر تلك الأزقة لأمر سحري. واقعه ينبذ مثل هكذا مسيرات. فهو من مجموعة عرقية متميزة في حياتها. هل كان يجب أن يخضع نقاط عرقه في دمه؟ أن يُسكت للأبد ذلك الصراخ البربري في عروقه ليعيش في مدينة بعيدة كنيويورك. شخص مثله لا يستحق إلا العيش في ليبيا كعقاب إلهي. أن يضطر لتعامل مع الجميع بشيء من الحذر الدائم. أن يراقب الأشياء الجميلة تموت ببطء كموت المواهب. كان يكره هذه الجزئية، التعامل الحذر حتى مع أصدقائه، فحين يقفد أي شخص موهبته يتحول لقاتل متسلسل لمواهب الآخرين، كخلية تنتج الفيروسات. مراقبة كل كلمة في المكالمات الهاتفية، الإستماع لأصوات المحيطين بالشخص المتكلم، محاولات رسم صور طوبوغرافية للأمكنة التي تصدر منها المكالمات. الحركات، أبعاد الصوتية، التلفاز، البرنامج المعروض، الصدى الصوتي، ردود الفعل والضحكات، هل هي حقيقية؟ لا أحد يعرف أين يقبع اللغم اللغوي! أحياناً يلقي أحدهم بمزحة تحتاج لرد فوري، تلك الحاجة الدائمة ترهقه. لم يتوجب علينا أن نعذب بعضنا باللغة، بالكلمات المؤذية؟ لا أحد يعرف. كان ذلك الشتاء أمراً مذهلاً بالنسبة له. فالقدرة على التوقع أمر متفوق برأيه على الدوام. أن ترسم تلك الأبعاد للأشخاص قبل التعامل معهم. بمجرد الرؤية تحاول أن تفهم تلك الشخصية، الحركات، الملابس، الأحاديث. ” لا يجب أن يدخل أحد غير مفهوم في تفاصيل حياتي”. هكذا كان يردد على نفسه في ليالي الشتاء في بنغازي. كان يمتلك خطاً بسيطاً كعامل مقهى. يخرج من مقاهاه ليلاً يأخذ حافلة ينزل بها في وسط المدينة، الفندق البلدي، لم يتأكد مطلقاً إن كان وسطاً فعلاً، يتجه رأساً عبر شارع عمرو بن العاص، بين واجهات الملابس الإيطالية والأحذية الجلدية الثمينة كخواتم الأعراس ورائحة القهوة التركية، ميدان الشجرة ثم يتجه نحو الميناء متخذاً شارع عمر المختار الذي يصل بشاع جمال عبد الناصر. إذ لا شيء يصل بينهما سواه. فالأول محارب في الميدان ومتدين يستخدم السلاح في وجه العدو. الثاني محارب كلامي يستخدم السياسة والدين والجيش لمحاربة الأعداء الحقيقيين الموجودين في أوساط الشعب، وهو قومي. كان الإستعمار قد بنى كل هذه الشوارع، عند الميناء بكل سنواته الغابرة يقف أمام حصان محكم الربط هناك بشذوذ غريب. وسط الرافعات الصدئة والسفن الراسية منذ الأمد في الميناء المعاقب. لا صوت سوى صكصكة السلسلة الحديدية المثبتة إلى وتد ضخم صديء مغروس في أعماق الأرض. يظل الحصان العجوز يدور في حلقات تزداد تقلصاً بسبب التفافات السلسلة حول الوتد. على خطمه الجاف شعيرات منتصبة. في عينيه سواد غريب كليل بهيم. هل هو غارق في ذاكرته الخاصة؟ الشرود الذي هو فيه يقول هذا. رأه منذ حوالي سنتين. يأتيه دائماً قبيل المغرب ليجلس بصمت يحادثه عن كل شيء. \ أليس مرهقاً ما يحدث؟\ ثم يجيب نفسه بنوع من الحذر للمارة: إنه لكذلك، لكن ماذا الذي يعنيه هذا، هل هنا أحد يتوقع غير هذا؟\ يتحرك الحصان مقلباً التراب بحوافره المقشرة.\ تبدو منهكاً يا صديق، منهكاً بقدري وأكثر، لا نملك إلا بعضنا أتعرف؟ ربما لا نملك شيئاً حتى بعضنا. يتحرك عكسياً لكي يخلص السلسلة التي تصدر صوتاً كضحكة مكتومة من الوتد. كان الأمر غريباً فعلاً. \ كلانا نعاني نفس المشكلة أتعرف؟\ حرك الحصان نفسه أكثر في ذات الإتجاه ثم حدق فيه. عينيه غاصتا عميقاً في عيني الحصان الكهل. شعر بتلك اللحظة بينهما تشتعل في صدره. \ أجل، نعاني نفس المشكلة، أتعرف من عاني قبلنا هذه المشكلة؟ المتنبي. لا تستغرب كان كالحصان المحكم الربط في قصر كافور الأخشيدي. أنا ايضاً محكم الربط بطريقة لم أفهمها بعد، لكنني محكم كجواد إمبراطوري. الأمر مذل في كثير من الأحيان، كأنك تأكل مباشر بفمك في خيمة مليئة بالأعين المحدقة، آسف لكن الأمر مذل على نحو قاتل بالنسبة للبشر. كنت ولازلت محكماً يا صديقي الكهل، أنت لست الوحيد”\ كان الحصان قد كف عن الدوران وأخذ ينظر مباشرة فيما فوق كتفه. كانت السيارات تعبر مسرعة تاركة الأضواء تنساب برقة في الفضاء الذي يزداد إظلاماً. في عمق عيني الحصان الكهل لمعت أضواء السيارات، أو هكذا تخيل، حين إقترب لكي يتأكد اظلمت فجأة.\ لابد بأنك تذكرت شيئاً!\ أطلقت السلسلة صوتاً مكتوماً كالضحكة تماماً. \ أهي ذكرى مفرحة؟\ كان الصمت مخترقاً برقرقات المياه وأصوات المحركات. كل شيء كان مغلفاً بأمر كالنوم. البرد اللاسع كان يخف قليلاً. ربما ظهرت نجمة في السماء، بحذاء الأفق. سماء بنغازي لا تمطر نجوماً، تازر تمطر نجوماً على الدوام، كما إنها في مهب طائرات العبور الوامضة بشكل سحري. تكتفي ليلاً بمتابعة كل الطائرات التي تخترق الأجواء من أوروبا إلى أسيا إلى أبعد من ذلك. هذه ذكريات محفورة في رأسه منذ كان صغيراً، منذ أن رضع أصبعه لمرة الأولى وأدرك أنه يمكن أن يختزن شيئاً لذيذاً. كان يرضع أبهامه على الدوام. حتى إن والدته اضطرت أن تضع فلفلاً حاراً على الأصبع لكي يكف عن ذلك. إلا إنه أمتص الفلفل كله حتى وجد إبهامه أخيراً. لفد فعلوا الأعاجيب لمنعه من اكتشف نفسه. لكنه فعل عرف أنه يمتلك أموراً أكثر قدماً وعراقة. كذلك فهو قادر على جعل الأمور تأخذ منحاً أخر في الحياة. كان منحاه وعراً. أجداده كانوا من سكان الجبال. ذات مرة هوجموا بشح في الطعام أضطرهم لأن يتخذوا من الحنظل طعاماً. لطالما فكر في الأمر كإحدى صور الفوتوشوب خاصته. عجوز منهكة تأخذ الحنظل المر، تفرغه وتجمع حبيباته بدأئب وكد ثم تصنع منه بطريقة سحرية طعاماً تمنح للتمور طعماً أشهى. الأمر فيه تحوير لغوي أيضاً! هل كان ذلك قبل ستة الآلاف سنة. كانت الحياة مغايرة تماماً، الإبداع كان أمراً مذهلاً. دائماً يحدث التغيير في الأعماق ثم ينتقل للخارج. أن يُسلب من الحنظل مراراته بفعل لغوي، من أعماق البذور المعجزة غدت بلا قيمة في زمن تسخيف المعجزات. قال المسن في الحافلة بصوت محزون: لم تعد الأمور كما هي، علينا أن نفهم، ونترك أنفسنا كالقمصان المعروضة للشمس، لتفعل بنا الحياة ما تشاء. \ إنسياب مياه المطر كان كإنسياب الدموع فيها شيء نقي نقاوة لا يمكن إحتمالها.\ أتبكي ايها العجوز، أتبكي؟\ حق علي أن أبكي، لا شيء أفعله بعد الآن سوى البكاء، لقد ضحكت كثيراً ذات مرة، كما يضحك شبان هذه الأيام، ضحكاتنا كانت أكثر رجولة وفحشاً، سأبكي بقدر ما ضحكت، هكذا هي الحياة، أتفهم؟ اترى، كل شيء واضح بالنسبة لي.\ كنا نجلس على المقعد الخلفي. لا نملك سوى ذلك الكرسي لوقت محدد. قال بأنه أثناء الحرب. بنغازي كانت كلها في الخارج. تركنا المدينة تحت القصف. سنة 1942 كنا مشردين تماماً. ثم لا نعرف كيف. لا أبي ولا جدي يعرفون ما حدث. أخذت الحياة تعود، في الحقيقة عادت سريعاً. كأن الحرب كانت مزحة. لن تجد أي ذكرى للحروب في نفوس الليبيين. المسن كان محقاً. لا ذكريات فقط ألغام تنفجر أحياناً في الأفلام الروائية الموجهة. في احداها يطعن جندي إيطالي ليبياً في قلبه، بحربة بندقيته. دائماً الجندي الإيطالي يطعن القلوب. هل للإيطاليين ميل وولع لطعن القلوب؟ هل هو هوس من نوع ما؟ أيضاً لا أحد يعرف. ذات مرة أعدم الجيش الإيطالي ثلاث رجال من التبو في تازر، طلقة في القلب. يقال بأنه بعد تنفيذ الإعدام جاء أحد الجنود راكضا وهو يلوح ببرقية الإعفاء. ليتهم أخذوا البرقية للتاريخ. الحروب الحقيقية دائماً ما تغدو مزارع للسياسيين وشيوخ القبائل. فالشهداء مع نهاية القرن صاروا السلعة الشرفية عبر كل الشوارع. الليبي المنهك من الحروب تحول لمهرج في الدراما الرمضانية . دائماً تاتي الأمور متأخرة. \ ” سمعت عن أحد الثوار الذي وضع أملاً كبيراً في المنحة المالية. كان مفلساً لا يملك قرشاً لتأسيس عائلة. حين سمع بتوزيع صكوك المنح المالية أنطلق من ألف كم في الجنوب لإستلام منحته. أتعرف ما حدث؟ تعرض لحادث مروري ومات على بعد 100 كم عن الصك المحرر بإسمه. “كم تبدو مسناً أيها الحصان! شخص أخر قتل بعد استلام منحته مباشرة لدى خروجه من المصرف. حين كنت صغيراً كنت اكره الكبار. أعتقد بأن الأمر كبر معي، كرهي للكبار، كيف نسيت إني كنت أكرههم”. هذا ما قاله في ذلك الليل المتوسطي. في حين أخذت المياه كلماته استطاع أن يرى بوضوح قفزة سمكة من المياه. كانت أكبر سمكة شاهدها في الطبيعة. اخترقت المياه كأنها تخترق سطحاً بلاستيكياً. صعدت في الهواء متحررة من بيئتها. هل كنت تلعب أم تغامر؟ كيف له أن يعرف. أراد ان يرى الأمر مرة أخرى. حين سمع طرطشة الماء في الظلام. عرف بأنها خرجت مرة أخرى. هل هي نفس السمكة؟ حدق في المياه السوداء المتماوجة بإنتباه محاولاً رؤية الحدث مرة أخرى. ذهنه لم يفارق الصورة الأولى. كان قد بدأ يرى القطرات اللامعة منها. علقت في ذهنه. تراجع بعينيه إلى الوراء وزع نظره على كامل الصورة. لم يركز على شيء واحد، بل كان يحدق لكل شيء في الميناء. الرافعات، المياه البلاستيكية، القطع البحرية الراسية، المباني البعيدة، رعشات الأعشاب عند الحواف، حتى الحصان المنتبه. ثم سمع الطرطشة مرة أخرى دون أن يرى شيئاً، فشعر بالإنهاك التام. فراغ هائل. ترك اللعبة وعاد للحصان الكهل. الشعيرات الجافة في خطمه. ” لا أحد يعرف ما تقدمه الحياة. كنت أكره الكبار ثم حدث أن صرت كبيراً. هكذا فجأة! ” كان ذلك قبل سنوات طويلة. كان الصبي الوحيد بين أخواته. يلعب معهن الألعاب الأنثوية. يعطينه دوراً رئيساً في اللعب. حسناً، كانت مستمتعاً بأداء دور احدى النسوة اللائي يأتين إلى البيت. كان الأمر أشبه بأن يدخل في جسد المرأة، مغرياً وشهياً. استمتع بها على مدى سنوات. كانت في العشرينات من عمرها، متزوجة من شاب متحمس قتل لاحقاً في حرب أهلية. بطريقة ما كان الجميع يتوقعون موته بالسلاح. بقيت وحيدة مع ابويها. لم تكن تتبرج. لكنها في البيت كانت تبدي جمالاً خارقاً. كل شيء فيها مدعاة للبهجة والحلم. كانت حلماً حياً ضاع منه في الطرقات. بحث مطولاً لكن عبثاً، إنه يريد أن يجد فكرة قديمة فقدها في طريقه الملتوي. يتذكر كلمات والده وفقرات من الكتب التي قرأها. بصمت يحاول أن يُسكت رأسه. لكن الماضي يغدو صوتاً وسرعان ما يراه، إنه أمامه هنا. الأمر مسرحي بشكل سخيف، لكنها لعبة ممتعة. بدأتْ مذ كان في العاشرة، إنه يعي هذا جيداً كما كان يعيه من قبل، لا، الآن يعيه بأفضل مما كان يفعل، أكثر من نفسه. عبر طرقات بنغازي يتلاعب بكل شيء في ذهنه. شيء وحيد لم يستطع أن يدمجه بخيالاته: ذلك الحصان الأبيض عند الميناء. لطالما إقتعد بجواره يحادثه ذهنياً (( هل كان تعويضاً عن الصداقات الحقيقية؟ )). يراقب بصمت المياه السوداء المتلامعة بالأضواء والألوان المبهجة للمدينة. أحياناً كانت الأسماك تندفع قافزة بلمعان مذهل، تغتسل داخل النسيم المنعش قبل أن تغوص ثانية. الفكرة المفقودة، حين كان صغيراً و بينما هو يركض وصخب خطواته ترج معدته واهتزاز رأسه المريح يوحي له بأشياء غير حقيقية. أمامه يرى البيوت ترتفع وتهبط، يسمع لصوت لهاثه الشخصي. أحيانا كان يلتفت للسيارة التي تلاحقه، تويوتا لاند كروزر صحراوية، موديل 1995. كانت لا تستطيع اللاحق به، هكذا تخيل يحب أن يتذكر. كأي الأمور الأخرى التي ظهرت فجأة بعدها. رأى بعينيه: العالم فارغاً. كان ذلك في السنوات البطولية حين كان الصراخ هو كل المعركة. لكن الأمور كلها مرتبطة بالركض في الوقت المناسب. قرأ هذا في مقالات سريعة غير تحليلية. كان يركض مع باعة الجوالين في طرقات المدن. صار يحدق طويلاً للماضي محاولاً اقتناص حتى لحظات أحلامه أو كوابيسه. مشاهد بسطية تتوالى مع الأيام ليعيش أحياناً في رعب مشابه لرعب طفولته، كان يصارع كل شيء. حين شاهد الكهل الأبيض موثوقاً بإحكام، بينما أخذ يدور بصمت بعينيه المظلمتين، عرف بان هذا المخلوق جزء من فكرته. أين رآه سابقاً؟ انطلق لأيام يعبر عوالمه السرية القديمة، صفحات كتبه، مذكراته التي أحرقها تحت وهج الشمسي وحتى كلمات أشعاره. كان موجوداً في كل شيء منها، بشكل ما كان موجوداً. فكر بشيء من توهج. هل يمكن أن تكون الأرواح كلها واحدة؟ أرواح! تذكر فيلماً من الهوليوود حين غزا الكوكب مخلوقات أقوى وأكثر رسوخاً في الكون. لم يهزم هذا الجيش إلا عدم انتمائهم للكوكب الأرضي، كأن ثمة شيء يجعلنا واحداً، ذكرياتنا. هل هذه فكرتي؟ “. لم تكن هي. حين كان في العاشرة يركض هارباً من تويوتا لم يكن يفكر، بل كان فقط، يعيش. لم يكن مهدداً ولكنه لا يعرف، لذا قطع مسافة طويلة ركضاً. دائماً ثمة مسافات تحتاج للقطع، ثمة شيء يدفعنا لقطعها. الخوف لم يكن من ضمنها في حياته. بأسلوب سحري كان الخوف لا يوجد إلا في عالم أحلامه، تلك الكوابيس والضياع والأطنان الباردة والمستمرة من القنابل والكلاب الهائجة. حين رأى الحصان تذكر كل هذا. وقف أمامه، راقبه بصمت وتركيز، مترهل الجسد، شعيرات على خطمه الجاف. الحزن العميق في سواد عينيه، حركته البطيئة والراضخة للقيد الحديدي الموثوق بإحكام إلى وتد صدئ. كان هناك بلا هدف. عرض غير لائق لمخلوق ولد ليستخدم قدميه. تذكر بشكل عنيف حياته الأولى، انحنى بهدوء وهو يتذكر. اقترب بوجهه من الحيوان الذي اقترب بدوره ليرى نفسه في صفحة البحر البشري. “ماذا؟ ” لم يتحرك الحيوان ظل يتأمل شيئاً ما فيه. ” لم يعد ثمة وقت للركض “. هكذا قال ثم جلس تاركاً رأسه ليتحدث ويدور الأماكن السرية والغير السرية عبر سراديب المدينة المظلمة، الأزقة الضيقة والمربعات السكنية. تلك القصص التي كان يكتبها جيل سابق. الزمن البطولي، كلمات من قلب الجوع. المباني والرسومات على رصيف الكورنيش.