النقد

جماليات بناء الحكاية والنص في رواية المولد لأمين مازن

رواية المولد للكاتب أمين مازن.
رواية المولد للكاتب أمين مازن.

1.1 مدخل حول السرديات وتحولاتها

تأسست السرديات في ستينيات القرن الماضي وهي تركز على النص السردي في بعده الداخلي أي بعده الحصري، وتحولت ضمن التحولات الحاصلة ضمن ما يعرفه البعض بما بعد الحداثة نحو التفاعلات النصية المختلفة، فصارت أكثر اهتماما بالبعد النصي، حيث برزت مفاهيم التفاعل النصي المختلفة ومنها: التناص والمناصة التي تختص بالعنونة والعتبات بشكل عام. وظل البحث في عناصر الحكاية أساسيا لفهم أي نص وهذه العناصر هي: الأحداث، والشخصيات، والزمان، والمكان.

أولا. مستوى الحكاية بين البناء والبنية:

الحكاية الأولى هي أصل القصة في صور زمنية خطية مكونة من عناصرها الأربعة: حدث، شخصية، زمان، مكان، ونبحث

1) المقصود بتحليل بنية الحكاية ما يلي:

البحث عما يدل على وجود نوع من أنواع العلاقات بين عناصر الحكاية (الحدث، الشخصية، الزمان، المكان) داخل النص السردي. هذه العلاقة قد تشكل علامة دالة على نسق وطبيعة الترابطات والعلائق المتحققة داخل النص السردي مع كل مكون من تلك المكونات الأربعة سابقة الذكر. هذا الترابط قد يشمل مجموعة أحداث محددة، أو رؤى حول قضايا خلافية، أو نوع من أنواع الحدث يتكرر بإيقاع محدد، أو بطريقة منتظمة، أو غير ذلك من العلامات الدالة على النسق التركيبي لعناصر. ومخرجات حليل بنية الحكاية ما يلي:

أ) بناء الأحداث وطبيعة تكوينها ونمط انتظامها.

ب) طبيعة العلاقة بين الشخصيات، وطبيعة تكوينها، وانتمائها، ومدى حدود انفصالها واتصالها في تضادها وتعاضدها .

ج) علاقة الفضاء المكاني والزماني بالحدث والشخصيات، ودورهما في تأسيس بنية للحدث والشخصيات، بل والبنية العميقة لتتالي ظهورهما في مستوى الخطاب السردي .

2) تحليل جماليات بناء الحكاية

يقصد به متابعة كيف قام الراوي بتشكيل الأحداث وتصوير الشخصيات وبناءها أمام المروي له كذلك كيف قام بتصوير أو إنجاز حضور البعدين المكاني والزماني وجماليات ذلك الفعل. ومخرجات هذا التحليل ينجم عنها فهم كيف قام الراوي ببناء العناصر الأربعة سابقة الذكر في خطابه السردي. أي تحليل جماليات بناء العناصر الأربعة وحضورها في مستوى الخطاب.

ثانيا. المستوى النصي وبناءه:

يمثل النص المادة النصية المعروضة في نمط من أنماط التداول المكتوب وغير المكتوب، ذلك أن النص حديثا (خاصة مع السيميائيات) صار تعريفا لكل أنواع المادة المتداولة في شكل رسالة نصية، سواء في مادة مكتوبة أو مرئية أو غيره، ويعني النص المادة النصية الموجودة ضمن كتاب مطبوع أو إلكتروني في إطار العلاقة الخارجية بين الكاتب والقارئ.

وينظر لبناء النص من خلال الطبقات النصية المكونة له (كما يرى ذلك سعيد يقطين) أو المتون النصية المكونة له، كما يمكن النظر إلى المكونات الإجناسية والنوعية الداخلة في تركيب النص باعتبارها مكونا بنائيا له، هذا ويشتغل العنوان وباقي الإهداءات وغيرها مدخلا لفهم بنية هذا النص والعلاقات القائمة بين بعض عناصره.

2.1 حكاية رواية المولد.

يحكي الراوي في رواية المولد للأستاذ أمين مازن ما يشبه السيرة الذاتية التي تخص مرحلة محددة، وبشكل أكثر دقة يحكي عن أحداث سجن مجموعة من النخب الليبية المختلفة بعد بيان زوارة سنة 1973.م المعروف آنذاك بالنقاط الخمس. يتناول هذا الراوي الحدث، باعتباره أحد الشخصيات أو من عين أحد الذين عاشوا ذلك الحدث ضمن تلك المرحلة. وينقل لنا في صدق وحسن تعبير تلك الظروف التي صاحبت القبض عليهم كما يعرف (بدون الإخلال بالشرط الفني) بعدد كبير من الشخصيات التي عاشت أحداث السجن تلك.

تناول الراوي في سرده قصة سجن تلك الشخصيات، كما وضح (في مرات كثيرة) خلفياتها العائلية والقبلية أو بعدها المكاني القادمة منه، والحقيقة أننا نجد في الرواية التي نحن بصددها تعبيرا مميزا وصادقا عن البنية الثقافية وعن الجدل السياسي والفكري السائد زمن الكتابة، كما كانت مدونة لرصد البعد الاجتماعي بل والإناسي للشخصيات الحاضرة زمن الحكاية.

الرواية نشرت سنة 2006.م، وبغض النظر عن زمن كتابتها (الذي هو بدون شك بين الزمنين (1973، 2006)، فإنها من وجهة نظر معينة تمثل شكلا من الخروج الكبير عن رغبات السلطة الحاكمة زمن الكتابة التي طالما لمعت ذلك الزمن واعتبرته من أزمنتها المجيدة، كما لا يخفى علينا قدر المخاطر والحساسية التي تتعرض لها هذه الكتابات في أزمنة السلطة الأحادية، وهو ما حتم فيما يبدو على الكاتب (وسأسميه باستمرار هنا الراوي) أن يتخذ (في بداية الرواية) إستراتيجية إخفاء للحدث المركزي وهو بيان (زوارة)، والتركيز على حدث المولد النبوي الشريف حدثا بديلا ينطلق منه في سرد أحداث السجن تلك.استمرت فترة سجن المجموعة تسعة أشهر منذ شهر مارس 1973إلى ديسمبر في نفس العام عند خروج أغلبهم من السجن.

3.1 مدخل حول تقنيات السرد في الرواية

اشتملت الرواية على عديد التقنيات السردية التي ساهمت في جعلها غنية منفتحة بالإضافة لسرد الراوي حيث تابعنا قصة عشرات الشخصيات المختلفة التي كانت حاضرة بقوة أو بخفوت هنا وهناك ضمن نسيج الحكاية. تابع حكايتها ذلك الراوي المهووس بالماضي وبمناقشة الموقف والوضع القائم لحظة سرده.

أولا. مدخل حول بعض التقنيات السردية الموجودة في الرواية

لعله يمكن الحديث عن بعض التقنيات السردية التالية التي وظفها الراوي وكانت أداته لبناء حكايته وإنجاز نص متداخل نوعيا وخطابيا.هذا جعل خطاب الرواية يخرج من الحكائية التقليدية لأبعاد تأملية وشعرية مميزة.

1) تناوب حالتي الراوي العليم وغير العليم على الراوي.

2) سرد تحديد الموقف أو السعي لتصور الوضع القائم، وهو سرد يعبر باستمرار طيلة الرواية عن الترقب الذي تعيشه الشخصيات.

3) حسن التصوير للمشاهد وكذلك السرد التلخيصي المميز.

4) حضور فواعل مهمة مع الشخصيات كانت أداة للعبير عن الخلل وتحريك السرد بل صارت لدى الراوي خصوصا ورفاقه من السجناء عموما معيارا لموقف السلطة والسجانين منها ومن هذه الفواعل: السجائر، والأطعمة المقدمة في إفطار رمضان.

5) القدرة المميزة على التصوير ورسم الشخصيات بما يعكس رؤية الراوي لها.

ثانيا. السرد المداور بخطاب غير مباشر:

هناك ملاحظة مهمة بخصوص طبيعة الخطاب السردي الذي كان الراوي ينجزه، متمثلة في إستراتيجية التلغيز أو السرد المداور (غير واضح المعنى مباشرة)، وهي في تصوري ليست إستراتيجية إخفاء فقط، وإنما إستراتيجية ذات بعد فني، بحيث تقدم كل الأشياء بشكل غير مباشر. يُحدِث ذلك النوع من السرد حالة تأزيم للوضع يتناسب مع تلك المشاعر التي تعيشها الذوات داخل السجن. هذه التقنية السردية لم تكن وحدها وإنما كانت مندمجة مع عديد التقنيات السردية الأخرى التي كانت تنحو نحو إبراز مشاعر الألم والتوجس من المستقبل التي تعيشها الشخصيات.لنتابع المقطع التالي الذي يرصد فيه الراوي وضع البلد الجديد وسيطرة القبضة الأمنية بشكل مداور وأسلوب غير مباشر في خطابه،والراوي هنا يتحدث بشكل يبدو غير منحاز لجهة ظاهريا، لكنه في واقع الأمر يفضح تلك التحولات نحو التحشيد في الأجهزة الأمنية وإعادة العاملين القدامى فيها وفق قواعد جديدة:

“يبدو ذلك طبيعياً ومبرراً لكل من يتناول الأمور بواقعية، وينظر إليها بمنظار العقل، فقوام السلطة العصبية القوية، وهذه لا تتحقق إلا بوجود عدد كاف من العسس وتركهم يجوسون خلال الديار ليتسنى لأولي الأمر الوقوف على الخفايا، وإدراك ما عساه يبيت، ومن ثم ضرب كل من يحاول التحرك من الصباح إما بمباغتته ليلاً أو عند طلوع الفجر، إنها حالات الارتياب التي تحاصر المرء في مثل هذه الظروف عبر حركة المعارف والمقربين، قبل غيرهم من الناس، حالات يولدها الوضع العام ويرسخها الاحتكاك اليومي، فتبدو بمثابة الواقع الملموس، ويغدو الإجراء المنتظر من الأمور التي لا فكاك منها ولا مجال لتأجيلها أبداً.”

ثالثا. البعد الحجاجي للسرد

قام الراوي عبر استخدام عديد التقنيات السردية التي تجعل حجته قوية غالبا بطرح رؤى ومواقف من موضوعات مختلفة، ومكنه هذا البعد الحجاجي من الخروج من المباشرة التي تصاحب عادة هذا النوع من السرد وقد تسقطه فنيا،ومن هذه التقنيات التي ساهم في ذلك:

أ‌. استخدام المصطلحات والأسلوب الحجاجي في إنجاز الخطاب من خلال سرد النفي، والحديث باسم الجماعة أحيانا بدل الحديث الفردي وذلك لتزكية فكرة ما.

ب‌. عدم تبني الراوي لكل الأفكار التي يعرضها أو ينقلها والاكتفاء في بعض الأحيان بوضع جملة توضح عدم تبني الفكرة أو الموقف المعروض.

ت‌. حسن بناء الشخصيات وذلك بالانتقال عند وصفها بين عديد المستويات حيث يتم البدء بالحديث حولها (غالبا) عند مستوى التاريخ و/أو الخلفية الاجتماعية والأصل ثم المظهر الخارجي والشكل العام، ثم مستوى الطباع ، ثم سرد بعض المواقف التي تعكس كل ما سبق.

ث‌. مناقشة عديد القضايا فكريا بشكل منطقي والحرص (في بعض الحالات) على عدم تقديم رأي نهائي بشأنها.

لنتابع هنا نموذجا من النماذج التي تعبر عن البعد الحجاجي من خلال السرد باسم الجماعة أو الحديث باسم الجماعة وذلك عند مناقشة دخول رفيقين جدد للسجن:

“فقد انعقد الإجماع على أن هذا الحضور من الأمور الاستثنائية ولا يتصل أبداً بالمسار العام. وذلك بعد أن شرح كلاهما خلفية الإجراء المتصل به، فقد جاء العابد نتيجة تمكن أحد منافسيه من الإيقاع به لدى الدوائر المسئولة، في حين أوقع ” بأبي قرين ” صراع القبائل. إذ لم يحن الوقت كي يتمكن العربان من أخذ حقوقهم وإن ارتفع الحديث عن الجانب العربي الذي كثيراً ما واجه بعض الإجحاف.”

1.2 بناء حكاية الرواية:

يقصد بالحكاية تلك الأحداث المتتالية التي تبدأ منذ أقدم حدث من أحداث للرواية حتى أخر حدث، وينظر لها من خلال عناصرها الأربعة: الأحداث، الشخصيات،الأزمنة، الأمكنة.

تنوعت أحداث الرواية كما كانت الموضوعات التي رصدتها عين الراوي وفكره الموضوعات مختلفة متباينة وذلكعلى الرغم من كون الرواية تتحدث عن أحداث سياسية وترصد مواقف ربما تكون معروفة للجيل الذي عاش تلك المرحلة، إلا أن اهتمام الراوي بالتفاصيل والخلفيات والأبعاد الفكرية والثقافية للشخصيات كذلك رصده المميز لذلك الجدل القائم زمن الحكاية جعل من هذه الرواية وثيقة تعبر عن تلك الأحداث بشكل دقيق. لنتابع بعض الموضوعات التي رصدتها الرواية مع ملاحظة أن بعضها كانت مركزية وبعضها كان تناولها سريعا:

2.2. الأحداث من حيث هي حالة سجن :

أولا. الأحداث قبل المولد

قبل حدث الخطاب/ المولد كانت القصة تركز عل أمور ليست لها علاقة مركزية بالسياسة، ففي البداية يتم التعريف بالفضاء المكاني وتاريخه كما في المقطع التالي:

“لقد ظل ذلك المبنى مهجور أو غير مستغل حتى لقد بادر شباب الفرقة القومية عند تأسيس هذه الفرقة عقب الحرب العالمية بالإطلاق من ذلك المكان أثناء خوضهم لتجربتهم الرائدة في مجال التمثيل بعد أن توقف المبنى عن أداء مهمته التي أنشئ من أجلها في سنوات الاحتلال ومجيء الإدارة البريطانية التي لم تر ضرورة للإبقاء على الكثير من الأنشطة وفي مقدمة هذه الأنشطة معرض طرابلس أو الفيبرا كما كان يعرف بالإيطالية، وكذلك فعل الحكم الوطني الذي لم يجعل من أولوياته تحريك مثل هذا المرفق.”

ثم نجد المزيد من الحديث المستقر بشكل يشبه خطاب التقرير الرسمي حيث الراوي يتحدث عن معرض طرابلس الدولي، وعن طبيعة عمله وعدد زواره والمشاركين في دورة المعرض تلك السنة.

ثانيا. الحدث المركزي المولد أو خطاب (زوارة) وما صاحبه من أحداث.

كان هذا الحدث هو الحاضر الغائب فهو مادة عنوان الرواية ومتخللا للحكاية في كل أبعادها. يتخللها بحيث يصبح أحيانا بارزا من خلال تفكير الشخصية.سنركز أكثر على هذا الحدث عند الحديث عن العنونة ضمن مستوى النص.

ثالثا. أحداث ما بعد المولد وقبل السجن:

تميزت أحداث ما قبل دخول الشخصية المركزية للسجن بالتوتر وباتهام البعض للأخر عن سبب عدم سجنه، وكانت بذلك مادة لإبرازتلك الخصائص الاجتماعية للبعض منا في زمن الأزمات الشديدة، ومن مثل هذه الممارساتالتطير من الزوجة الجديدة عند حدوث مكروه لزوجها.

لنتابع هذا المقطع حيث الراوي يرصد هواجسه وما يدور في نفسه من أفكار وقد تم سجن أصحابه، ونلحظ استخدام الكاتب لأسلوب عدم المباشرة وذلك لتمرير هذا الخطاب:

“(أ) تكررت الالتفاتة يمنة وشمالاً، (ب) ودون الجهر بأي صوت كان السؤال الذي يلح: هل هناك الآن شيء جديد؟ هل هناك ما يمكن أن يبرر للقوم أي أجراء غير طيب. وماذا يمكن أن يضاف إلى ما علمنا منذ فترة بصدد من أطلق عليهم مجتمع الطاولات المفتوحة وما قدم بصدهم من معلومات تكررت حتى لم يعد أحد من الذين اعتادوا قراءة أمثالها يهتمون بها، فصارت بالتالي موضوع سخرية”

المقطع السابق يتم فيه رسم صورتين مهمتين في هذه الرواية: الأولى في المقطع (أ) السابق وهي تؤشر للخوف من خلال شخصية الملتفت يمنة ويسرة انتظارا للسجن والسجانين، بينما الصورة الثانية في (ب) ترسم الحوار الداخلي الذي يتم دون الجهر ويسخر من كل ما يطرح من أفكار عن الشفافية أو الطاولات المفتوحة.

رابعا. حدث دخول الشخصية السجن وما بعده

استمرت الشخصيات في السجن لمدة تسعة أشهر تقريبا، وكانت هذه الفترة التي تعيش فيها الشخصيات ضيق المكان والخاطر أداة لانطلاق فكر الراوي، محللا للموقف، ومتأملا في عديد القضايا، الأمر الذي جعل من هذه الرواية مكونة من البعدين السيري والسجني بالإضافة إلى البعد التأملي.

هذا التأمل كان أحيانا في اللحظة الراهنة بحيث يبدو أشبه ما يكون تحليلا استراتيجيا للموقف، وفي أحيان أخرى يتحول التأمل ليصير مادة لمناقشة السياسة الداخلية أو الخارجية أو الأبعاد الدينية أو الثقافية وقد يكون مادة لتصورات في طبائع البشر واختلافات المناطق في طبائعها وعاداتها، ولعله من الملاحظ أن الراوي وهو يرسم الشخصيات ويصيغ الأحداث كان يرسم باستمرار تفكير الشخصية ي العلاقات المختلفة مع الرفاق و السجانين.

لكن عندما ننتقل إلى السجن مع الشخصية عن الماضي يصير كلها أداة لرفد الحاضر سواء في بناء الشخصيات فكريا أو قبليا أو رصد حركة المجتمع الليبي كله.

3.2 الأحداث من خلال فعل التأمل

فعل التأمل كان يقوم به الراوي جنبا إلى جنب مع إنجازه للخطاب السردي النمطي، وكان هذا التأمل أداة الراوي للتعبير عن عميق هواجس الشخصية وفي الآن ذات أداة لرسم خلفيات الشخصيات والتكوينات القبلية والطبائع المجتمعية والأحداث التاريخية والسياسية الهامة، وغيرها من خلفيات مكونات الرواية. يمكن كما أسلفنا أن نقسم الأمور المتأمل فيها لما يلي:

أولا. تأمل في أمور لها علاقة بالعميق في ثقافتنا ومنها

1) الأيمان الجاهلي بالأولياء.

2) اختلاف التعامل مع حدث المولد النبوي بين المدن والقرى أو الضواحي.

3) طبيعة القرية والتعويل عن النسب (أصل الشخصية) عند الزواج.

4) طبيعة تعامل أحدنا مع أسرته عموما وزوجته خصوصا عند حدوث لقاء قد لا يتكرر عقب غياب طويل.

5) التصنيف ضمن المدن ومنها طرابلس (لأبن البلد وأبن الضواحي) وتعريفها بشكل واضح.

6) جدل القرية والمدينة وتصورات أهل القرى والضواحي لطبيعة أهل المدن.

7) الصراع الثقافي والفكري بين الأجيال في مصر وآثره على الطلبة الليبيين الدارسين هناك.

8) ندرة السكان في ليبيا وأثرها على سلبيا على التفكير في العمل السياسي المعتمد على الجماهير.

ثانيا. التأمل في أحداث سياسية ليبية وعربية وعالمية

1) عبد الناصر وقتل سيد قطب.

2) خطف فرج الله في لبنان.

3) حرب أكتوبر ورؤية فيها باعتبارها مناورة تكتيكية.

4) الشطحات الوحدوية للضباط حكام ليبيا آنذاك.

5) ثقافة الحكام ذلك الزمن (دوس على الرجعي والخائن).

ثالثا. التأمل في تحولات الوعي بالأشياء داخل السجن:

1) كتاب الله وجمال القرآن داخل السجن، وتحولات الوعي بكتاب الله داخل السجن.

2) برامج التلفزيون : أغاني احمد سامي و برامج البسباسي. وأغاني التحريض.

رابعا. التأمل في مواقف بنى سياسية عربية

1) التجربة الناصرية وموقف اليسار العربي منها.

2) استعراض كم كبير من المثقفين الليبيين وما حدث لهم آنذاك.

3) مناقشة مواقف سياسية تاريخية قريبة مثل المؤتمر الوطني والسعداوي وأحمد زارم وغيرهم.

4) مفاهيم سائدة لدى القوميين آنذاك ومنها تشجيع كرة القدم للفرق القُطرية وآثر ذلك على البعد القومي، كذلك موقفهم من الدين والصلاة.

4.2بناء الشخصيات في الرواية:

كانت هذه الرواية سجلا حافلا بأسماء شخصيات ليبية وغيرها التقت في السجن أو كانت خارجه، وكان الراوي وهو يسرد الأحداث أو يتأمل في الشخصيات يصورها بطريقة منتظمة منتقلا في رصدها من جزء لأخر بحيث تركب الصورة من مجموع الأجزاء.

حفلت الرواية بعديد الشخصيات التي تمثل جزءا من النخب الليبية في ذلك الزمن، وكان حضورها غالبا بالاسم الأول، كما كان هناك حضور لشخصيات السجانين والشرطة والأهل، وكانت عدسة السرد تنتقل من جذور الراوي/ الكاتب في الجفرة إلى عديد المدن الليبية التي كانت محطات له أو لحد الشخصيات القادمة منها.

أستخدم الراوي أساليب خاصة في التعريف بشخصياته فهو يروي جزءا من تاريخها أو موقف ينير شيئا يخصها وأحيانا يقدم تصرفاتها.

سنقوم هنا بتحليل أسلوب بناء الراوي للشخصيات من خلال شخصيتين ثم سنظهر كيف بالإضافة لرسم صورته الشخصية من عين افراد اسرته آن اللقاء في السجن بعد حرمان طويل من الرؤية. الراوي أستخدم في لحظات درامية خاصة تقنية تصوير الشخصية من عين شخصيات أخرى.

أولا. شخصية الأشهب:

لبناء شخصية الأشهب امام المروي له نجد الراوي في المقطع (أ) التالي يرسم طبيعة العلاقة بينه وبين الحاج فضل (والد) الصديق السجين، كما يستخدم الحجاج أحيانا للإقناع بحقيقة ما قيل حول تلك الشخصية كما يمكن أن نلاحظ ذلك في (ب) و (ج) من المقطع التالي، كما يستخدم أحيانا صيغة الخطاب المنقول ليخلي مسئوليته من الخطاب كما نرى في المقطع التالي (ب) وغالبا تكون كما يلي :

“(أ) جاء لاعتبارات القرابة، رغم أن هذه القرابة لم تؤهله ذات يوم لمصاهرة الحاج فضل عندما قدم عليه غيره من أبناء القبيلة …(ب) والأشهب على كل حال على ثقة بنفسه ولهذا جاء الآن ليواسي ويعرض عليه خدماته…(ج) فلولا أنه كان من الكفاءات النادرة في الجهاز لما استطاع أن يحقق … كان من الذين دخلوا سلك الشرطة في بداية الاحتلال البريطاني أو الإدارة المؤقتة كما يقول الأشهب ومجايلوه…”

ثانيا. شخصية العريف سالم لبز:

لنتابع هنا كيف قدم الراوي العريف سالم لبز وهو شخصية إيجابية، حيث قدم في البداية جانبا إيجابيا من تصرفاته، ثم أنتقل في (ب) لبعده الداخلي متصورا أفكاره ومستنطقا لها (وهي في الحقيقة هواجس السجين أكثر منها أفكار الشخصية التي يتم تصويرها) ثم قام في (ج) يرسم صورته الخارجية، ثم في (د) أستخدم حديث الشخصيات الأخرى ليرسم بعده الداخلي لنتابع هنا البداية:

“(أ) على العكس من ذلك كان مرافقه العريف سالم لبز، الذي كان ينتهج سبيلا آخر، قوامه التعاطف غير المتكلف مع الموجودين جميعاً، من عرف ومن لم يعرف،(ب) وقد علمته التجربة أن كل حضور فراق، وإن الشدة يتتبعها بالضرورة الفرج وتنتج عنها متغيرات أكثر مسرة وهناء لكل من ابتلوا بالمجيء إلى المكان.

(ج) لم تكن ملامحه لافتة، فقد ملأت وجهه التجاعيد، وبدت تعيونه غائرة، وإن كانت تشير إلى بقايا نفوذ قديم. بيد أن الحيوية كانت ظاهرة وباعثة على الطمأنينة(…)

(د) لم يترك رجب حالة الانشداه التي كادت أن تسيطر، فبادر بالحديث عن نائب العريف …”

ثالثا. رسم صورة الشخصية المركزية من خلال حدث الزيارة العائلية في السجن:

نتابع هنا مقطعين مهمين يعبران عن صورة الشخصي المركزية/ الراوي. المقطع الأولي رسم صورته الخارجية من ين أفراد أسرته، المقطع الثاني (ضمن اللقاء ذاته) يوضح فيه تكوينه الشخصي الداخلي والطبيعة الخاصة بمجتمعنا وكينونتنا من خلال رصد الهواجس والقلق:

1) رسم الصورة الخارجية من أعين أفراد الأسرة:

أستخدم الراوي أسلوب النفي كما سنلحظ في (أ) ليؤكد أن أعينهم ترصد صورة جديدة له مختلفة عن صورته الأولى، ثم في (ب) يضيف المزيد حول شكله الشخصي، لنتابع المقطع المقصود

“(أ) لم يكن نحول الجسد هو اللافت لهم فحسب، وهم يقلبون النظر في كل الأطراف، ويمسحون الجسد من كل الجوانب، فالأجواء كلها توحي بشيء ما كما أن حركة الحرس وسلاحهم المدجج يثير شيئا من الذعر، (ب) كما أن الرأس المحلوق جعل من الهيئة شكل لم يألفوه أبدأ، خاصة و أن الذقن ما زال طويل”

2) مقطع يوضح من خلال الهواجس الداخلية تكوينه الشخصي وبنية المجتمع:

هنا يرسم الراوي ذاته أمامنا من خلال حديثه عن موقفه من أمور مختلفة، لنتابع هنا في (أ) يلوم العادات التي جعلت من عدم إبراز المشاعر أمرا ضروريا في لحظات زيارة الأسرة له في السجن، ثم في (ب) يرسم المشاعر الخاصة والألم بشكل شديد التميز وبنفس اسلوب التأمل المذكور سابقا

“(أ) ألعن من الأعماق ذلك الأسلوب التربوي الذي زرع الوقار أسس الحشمة، وجعل التحية الليبية في الغالب تتم بالأيدي اللهم إلا الذين غزتهم ثقافة الأفلام، كما يؤلمني الآن الا أجد سبيلا لذلك، وما أسوأ أن تحسب الأشياء متساوية، وما أسوأ أن توضع مشاعر الصدق إلى جانب مشاعر التصنع.

(ب) كان وابل الأسئلة لا يتوقف، والنظرات تكاد تلتهم الأجساد، كل بطريقته، ومن الزاوية التي ينظر لها بها، للأطفال عالمهم الخاص، وللام عالمها ولي عالم يسع الكل”

ليس هذا كل ما يمكن أن يقال عن الشخصيات في الرواية، ولكن هذا في إطار محاولتنا رصد طريقة بنائها أكثر من مسألة حصرها وتقسيم أنواعها المختلفة، حيث حضرت في هذه الرواية عديد الشخصيات المتباينة كالشيخ والطفل والسيدة وغيرها والسجين والسجان والسياسي والمفكر والأديب وغيرهم من الشخصيات التي كانت ترسم بأناة ودقة من خلال حوارها أو تأمل الشخصية فيها أو رسمها بشكل ظاهر مباشر كما رأينا مع الأشهب والعريف لبز.

5.2 بناء المكان والزمان في الرواية:

يعد الحدث الأساسي الذي عنونت به الرواية حدثا مرتبطا بزمن معين، فالمولد هو تلك الطقوس الاجتماعية التي تتم في زمن مولد المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم في يوم محدد من السنة الهجرية.

أولا. المكان والزمان في بداية الرواية

لقد بدأ الراوي منذ سطر الرواية الأولى وهو يرسم علاقة الزمان بالمكان بالشخصيات لنتابع هذه الصورة الأولى:

“(أ) ما أن ينفرط عقد شهر الربيع ويطل الربع الثاني من السنة – وهو شهر يعتريه في الغالب شيء من الارتفاع في درجة الحرارة – حتى يكون شبح الكساد وخمول الحركة، وندرة القادمين والذاهبين، أهم ملامح الواقع المنتظر للموجودين (ب) داخل ذلك المبنى الفريد في بنائه وطلائه وطول واجهته أيضا…(ج) المبنى الذي ظل لسنين طويلة محتفظا بالتسمية التي أطلقت عليه عند تأسيسه من قبل سلطات الاستعمار الإيطالي،(د) بما في ذلك دار العرض التي تعرف باسم (سينما كاتانيا).”

ثانيا. المكان في زمن الخوف قبل دخول السجن

بعد أن بدأت أحداث السجن تطال بعض الرفاق وبعد تلك المعلومات عما يحدث داخل ذلك الحجز صار المكان الذي يفكر فيه هو السجن. السجن هو الهاجس قبل دخوله وعند دخوله أيضا، لنتابع المقطع التالي وحركة الشخصية ضمن المكان المفتوح متوجها للمقهى وأين تأخذه هواجسه حيث في (أ) نحن مع تحديد مكاني للحدث والمقصود هو مقهى الجنان، ثم في (ب) علاقة الشخصية بالمكان في ظل شعوره بقرب المغادرة، ثم في (ج) يعبر الراوي عن المزيد من الهواجس عبر ما نسميه (بسرد عدم العلم) ثم تستكمل الصورة في (د) من خلال رسم هاجس الأسلاك الشائكة ومكان وجودها، ثم في (ه) يضعنا الراوي أمام شعوره بديمومة وجود ذلك المكان الكئيب وديمومة كونه وحشا قد يفترسه في أي مكان أينحن نتابع امتزاج الزمان بالمكان في وطأة فعلهما على الذات:

” (أ) هناك فضل عدم الجلوس والاكتفاء بالتحية من بعيد، (ب) فالحرص على رؤية المكان هو المسيطر الآن على النفس، (ج) لم يدرك بالضبط ما إذا كان الدافع إلى المجيء الآن يعود إلى هذه الرغبة أو الخروج من حالة الضيق الناتجة عما سرب من أخبار عن نوعية المعاملة لمن طالهم الحجز، أو أن الأمر أعمق من هذه الأمور مجتمعة، فقد تعذر القطع بأي شيء في الخصوص، بل لقد أصبح مستحيلاً. كل مافي الأمر أن بحار القلق تحاصر التفكير وعيون الجميع صارت مغذية لذات الأحاسيس،(د) وشبح الأسلاك الشائكة التي تعلو المبنى الكئيب القابع جنوب المدينة (ه) منذ الأزل تبدو وحشاً يهم بافتراسه أينما حل.”

الراوي بدل الحديث السابق عن البلد وتبدلات أحوالها وتوتر أوضاعها نجده يركز صورته على عمق ذاته ويصور حالته ثم ينتقل من صورة تعبر عن انفعاله الشخصي إلى رسم حالة التوجس العامة في للبلد أو رفاقه عل الأقل.

ثالثا. رصد طبيعة الفضاء المكاني عبر التأمل

أحيانا يتم رصد المكان والبنية السكانية داخلها عبر فعل التأمل لنابع هذا المقطع حيث الراوي ينظر لطبيعة المساحات الشاسعة في ليبيا مع ندرة السكان من وجهة نظر خاصة:

“كم هي قاتلة ومدمرة وباعثة بكل القوة على اليأس الشديد هذه الندرة السكانية التي كانت من البداية ومنذ السنوات الأولى للوعي الطلائعي في مقدمة ما ثبط العزائم بصدد كل تفكير يقوم على مبدأ استثمار القاعدة الجماهيرية التي تستطيع بحركتها أن تزعزع الأركان فهذه الندرة السكانية وهذه المساحات الشاسعة يستحيل معها أي تحرك مدني، أما عندما تفجر النفط ووقع تسويقه ودخل مردوده الجيوب فلا شك أن الأمور قد ازدادت سوءاً إذ صفى البعض من تلقاء أنفسهم.”

خامسا. صورة السجن في الداخل

يرسم الراوي صورة الزنزانة بطريقتين: الأولى عن طريق الوصف كما في (أ) بينما في الطريقة الثانية عن طريق صورة مجازية تحيل لفكرة حول الارتفاع كما يحدد من خلال المقطع (ب)

“(أ) أربعة جدران شديدة الارتفاع ، كوة في أعلى الحائط تعطي قسطا محدودا من التهويةومثله من الإضاءة.ومع ذلك فإنها تبدو من ذلك الارتفاع مسيجة بشباك حديدي، يستحيل لو قدر للأيدي أن تلامسه إيلاج عود ثقاب منه، (ب) ما بالك والأيدي لا تطاله ولو قدر لهذه الأجساد أن ترتقي على أكتاف بعضها البعض بما يصل إلى الثلاثة.”

ثم بعد مسافة نصية نجد الحديث عما أعتيد فعله من أشياء داخل تتلك المساحة الضيقة.

يتميز الفعل المتواتر بإحالته عل الزمن الطويل، نتابع المقطع التالي جزء (أ) حيث الراوي يرسم الفعل المتواتر الذي فُهِم نتيجة لتواتره:

“(أ) لقد اتضح من اليوم الثاني أن الأكل سيكون بواقع ثلاث وجبات في اليوم الواحد يبتدئ البرنامج بالصباح حيث المربى والشاي أو القهوة إلى جانب الخبز، يتكون الغذاء المتكون من بعض المعجنات أو الأرز إلى جانب اللحم، ليصل الأمر إلى العشاء الذي لا يختلف عن ذلك كثيراً، (ب) فبدا أن أخطر ما يهدد من يوجد في المكان هو السمنة كمحصلة طبيعية للأكل الدسم مع عدم الحركة، مما جعل التفكير في هذه الوضعية والحذر منه يستحوذ على الاهتمام، وفي هذا الإطار كان الحد من الأكل الخطوة الأولى فتعين الحد من العجائن إلى حد كبير وتجنب الشحم، (ج) والحرص على المشي داخل الساحة المحدودة لساعات متوالية،(د) بمعنى استثمار المكان في الرجيم المنظم، بدل الاستسلام للخمول وعدم الحركة، (ه) ومع المشي كان السفر بعيداً عن المكان وترك العنان للخيال المجنح يذهب بالنفس إلى ماشاء الله إنها اليوغا في أتم معانيها إن صح التعبير.”

المقطع السابق المهم يرسم فيه الراوي عبر تضافر الزمان والمكان حركة تلك الشخصيات، فأمام المعرفة بالأمور المتواترة من طعام وغيره، صار التفكير في الحركة داخل المكان حلا لمشكلة السمنة، لكن هذه الحركة ضمن المكان الضيق أو المكان الحاضر باستمرار كما في (ب، ج، د) تصبح أداة للخروج عبر الفكر لآفاق بعيدة كما في (ه). فالمكان كما رأينا يصبح لصيقا بالشخصية حاضرا مستمرا في تعبيره ورؤيته وأداة لرسم هواجسه فهو داخله وفيه وهو أي المكان/السجن مؤطرا لجسده وروحه، وتصبح الحركة داخله -كما في (ه) – فرصة للخروج منه.

1.3 البناء النصي للرواية

بنيت الرواية من خلال ثلاثة مكونات نصية نوعية متداخلة هي كما يلي:

1) السرد النمطي العادي الذي طالما كان حاضرا مع كل أنواع السرد.

2) السرد السيري الذي يحكي بشكل مباشر عن السيرة الذاتية للكاتب وقد تحولت أحيانا إلى سيرة غيرية وهي تتناول مرحلة تاريخية محددة بأكملها.

3) سرد أدب السجن. حيث تابعنا من خلال الحكاية أن جزءًا كبيرا من الرواية كان ضمن السجن وأن مكونات السجن النمطية وهي حجز الحرية والسجان ورفاق الحجرة والزيارات و سوء المعاملة كانت حاضرة.

لقد وضع الراوي لبنات روايته الأولى ليحقق للنص منطقيته، ثم أنتقل وهو يتابع وضع الشخصيات في السجن مستخدما كل الطاقات النصية الممكنة، حيث وظف الخطاب التأملي، وأستخدم تقنيات الحجاج المختلفة، كما وظف الخطاب المداور الذي تهرب بواسطته من التورط في المباشرة التي قد تضره في زمن كتابته ذلك.ضمن هذا التداخل النوعي لخطاب الرواية حضر البعدين: التأملي والحجاجي من الخطاب، كما حضر في بعض المواضع خطاب التقرير الذي يحكي بشكل علمي عن موضوع محدد.

سنبدأ في متابعة البناء النصي من خلال العنوان ثم ننتقل لنطلع على بعض الخطابات النوعية التي اندرجت ضمن خطاب هذه الرواية وساهمت في بناءه نصا متداخل الأنواع متعدد الخطابات.

2.3 عنوان الرواية:

عنون الروائي روايته بالمولد وهذا العنوان كان مناورة من مناورته الكثيرة للتمكين لروايته من أن تكون منجزا موجودا في زمن صعب. الحدث الرئيسي هو بيان زوارة سنة 1973 لكن الروائي تحدث عن زمن ذلك الحدث وهو بالتاريخ الهجري حيث كان ذلك الخطاب في حفلة المولد النبوي الشريف:

“وفجأة أعلن عن الاحتفال بالمولد النبوي، بطريقة غير مسبوقة، وعلى نحو أشار من البداية عن ملامح مرحلة جديدة أو نقلة من النقلات غير العادية. وبات واضحا عقب ذلك المساء الذي جرى فيه ذلك الاحتفال الذي نودي له في جميع الأوساط أن ما سيحدث يتصل بالبنى مجتمعة، سياسة اقتصاد إدارة وعلى نحو حاسم وجرئ ومخالف للمألوف بالكامل”

نلاحظ من المقطع السابق كيف كان الكاتب يتحدث عن كل ما تضمنه ذلك الخطاب من تغييرات بشكل غير مباشر، هذه التقنية في الإخفاء كانت احد التقنيات إلي أستعملها الكاتب ليكتب نصا خاصا كهذا في الزمن الصعب، كما يرتبط هذا المقطع بعنوان النص وهو المولد.كما نجده بعد مسافة نصية يعود ليستخدم حدث المولد أداة لتعيين الزمن ضمن جانب بعيد بعض الشيء عن المولد لنلاحظ كيف قام الراوي بربط الموضوعات:

“كيفما كان الحال فقد كان الشعر طويلا على شكل لافت، وقد جرى تركه عبر الفودين إلى ما تحت الشحمة الأذنية. وقد يكون هذا المظهر دون غيره الذي يتفق مع السيرة النبوية كما يروي الشيخ البرزنجي في مولده الجميل الذي طالما حرص الأهل على تلاوته و الإنصات إليه كلما حان موعد المولد”

المولد نجده من جديد مرتبطا بالبيان في شكل أكثر وضوحا في المقطع التالي قرب منتصف الرواية:

“… بعكس هؤلاء الذين جاءوا في خضم المولد، وإعلان شديد الصراحة والوضوح بشأن تعطيل القوانين، مما يعني أن إقامة الذين هنا غير محددة وها قد صاروا الآن يناقشون هذا الوجود ويتساءلون عما يمكن أن تأتي به الأيام، ومتى وكيف سيسألون عمما فعلوا ومتى وكيف سيعرفون نوع وحجم ماعليه يمكن أن يجازوا، متى وجد ما يستدعي الجزاء.” .

المقطع السابق وعديد المقاطع الأخرى تضعنا في صلب عنوان هذه الرواية وهذه المرة بشكل أكثر وضوحا ومباشرة من خلال حديث الراوي عن هواجس الشخصيات بخصوص المدة والتهم والعقوبة وغيره مما لا بد من التفكير فيه.

3.3 البناء النصي والمكونات النوعية:

كانت السيرة الذاتية نوعا أساسيا محيطا بالبعد النوعي للعمل كله خاصة وهي تأتي كما نعرف كلنا بعد ثلاثة أجزاء من سيرة الكاتب (مسارب)، نجد أن الفضاء المكاني (السجن) والأحداث والشخصيات قد جعلت من الرواية نوعا من أنواع أدب السجن. كما حضرت ضمنها سرود أخرى: منها السرد ذي البعد التأملي، وأيضا سرد التقرير الرسمي، خاصة عند الحديث عن معرض طرابلس الدولي، أيضا كان هناك سرد متضمن لرؤية الناقد الأدبي ، خاصة عند الحديث عن التشطير، وهو ما جعل من الرواية مادة مكونة من خليط نصي تعددي ورؤى متباينة ولحظات درامية مميزة

اولا. الخطاب التأملي

لنتابع هنا كيف يوظف الراوي التأمل في حالة الخوف التي يعيشها في لحظات ما قبل القبض عليه، حيث يتأمل في الخوف وعدم القدرة على اللقاء والجلوس في المقهى وهو مقطع سبق إيراده عند حديثنا عن المكان. هذا المقطع كما يمكن أن نلحظ استخدم فيه الراوي سرد عدم اليقين ليضعنا في إطار هواجسه الشخصية وحالته المأزومة

” لم يدرك بالضبط ما إذا كان الدافع إلى المجيء الآن يعود إلى هذه الرغبة أو الخروج من حالة الضيق الناتجة عما سرب من أخبار عن نوعية المعاملة لمن طالهم الحجز، أو أن الأمر أعمق من هذه الأمور مجتمعة، فقد تعذر القطع بأي شيء في الخصوص، بل لقد أصبح مستحيلاً. كل مافي الأمر أن بحار القلق تحاصر التفكير وعيون الجميع صارت مغذية لذات الأحاسيس”

ثانيا. التأمل في التاريخ النضالي وسجله الليبي:

كما نجده هنا يناقش قضية مهمة وهي ندرة الحركة النضالية بعد نقاشه لندرة السكان أوالبعد الديموغرافي لسكان ليبيا وأثره على توظيف الجماهير للفعل السياسي حيث في (أ) يتابع بحسرة عدم وجود تقاليد نضالية، ثم في (ب) يستخدم نمط الأسئلة ليحقق فعل تأمله، ثم في (ج) ينتقل من الحالة العامة إل الشأن الشخصي:

“(أ) كم هو سيء وباعث على الحسرة هذا الخلو المخجل من أي تجربة نضالية يمكن استثمارها للإبقاء على جذوة الحماس وبقية الأمل في هذه النفوس شبه الميتة والمستعدة للقبول بكل خيار غير جيد وقول غير صادق.(ب) ترى هل يسوغ القول بأن هذا الصراع المفتعل الآن من الأمور التي تبعث على السخرية أكثر من أي شيء آخر؟ (ج) لكن الخيارات الآن ليست متاحة فالانتظار إذن هو الاصوب وهو الذي لا بديل له.”

ثالثا. التأمل في تباين أوضاع السجناء وتوقعاتهم

يشخص هنا الراوي من خلال سؤال المدة الذي طالما كان هاجس أي سجين في سجنه حالة رفاقه في السجن وتوقعاتهم بخصوص مدة السجن، هذه التوقعات تتباين باختلاف طبيعة منطلقاتهم؛ فالحركي المنتمي لنشاط ما من الأنشطة السياسية يتوقع أن الزمن أطول:

“إن السؤال الأساسي بطبيعة الحال هو ذلك المتصل بالمدة التي يمكن أن تستغرقها القضية، وكم من الوقت ستأخذ، طولاً أو قصراً؟ وقد اختلفت التقديرات وتضاربت كل له رأيه وتصوره إزاء المدة، لكن ذلك في الحقيقة إن كان انعكاساً لواقع الحال، فمن تحرك ذات يوم في اتجاه العمل التنظيمي وقامت علاقاته مع الآخرين على نحو تراتبي، بنى على الأسرة أو الخلية أو ما إلى ذلك من التسميات فإن تخوفه أكثر من غيره، وتقديره للمدة ينصرف نحو المدى الزمني غير القصير، ومن كان بعيداً عن مثل هذه الممارسات ولم يعرف طيلة حياته سوى النشاط الفكري والهواية الأدبية وعلى الأكثر العمل النقابي أو النشاط الاجتماعي فقد كان توقعه يميل إلى المدة القصيرة، فالأشخاص حسب هذه القراءة يمثلون الرمز وليس الهدف أو الغاية.”

السرد بأسلوب الأسئلة هو أحد الطرق الأثيرة لممارسة الفعل التأملي. سنجد المزيد من السرد التأملي في الواقع وفيما ينبغي عمله، ويبدو أن هذا حصيلة تصور منطقي للواقع زمن السجن. التأمل هنا أيضا في الفارق الممكن بين السجين العادي والسجين السياسي الذي جاءت به أحداث ما بعد البيان المذكور، كما يتناول التأمل بشكل كامل الوضع السياسي للجماعات، ومناقشة المواقف المختلفة من التحولات الاقليمية والدولية، كذلك التأمل في الموقف العربي الكلي والتاريخ وغيره حول الوحدة بين ليبيا وتونس والتأمل من داخل السجن في أحداث كبرى مثل حدث عبور الجيش المصري لخط بارليف

ثانيا. سرد الحكمة أو خلاصة التأمل:

تتضمن السيرة الذاتية بطبعها سرد خلاصة تجربة شخصية ما، وهنا نجد من خلال السرد بعض المقاطع التي يمارس عبرها الراوي هذا الفعل، لنتابعه هنا وهو يرسم سوء الواقع السياسي من خلال رصد حقيقي لطبيعة الواقع السياسي وتشخيص عيوبه وهذا يمثل نهاية تأمل أو نتيجة تجربة ما:

” إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة هذا صحيح. ولكنها كذلك لا تمطر المواقف التي نحب، ولا تقدم التجارب الجاهزة، حتى ليمكن أخذها بيسر، فالممارسة اليومية والمحاولات الجسورة وحدها التي تضع البداية الأولى التي يمكن أن تتطور مع الزمن. وما دام السابقون لم يفعلوا شيئاً فالأولى باللاحقين الآن أن يفعلوا ذلك الشيء، فإن لم يفعلوا فلا أمل في الثبات ورباطة الجأش.”

ثالثا. خطاب التقرير الرسمي

استخدم الراوي في بعض المواضع خطاب التقرير الرسمي وحضوره كان محدودا ويمثل تنويعا للخطابات المشكلة لبنية النص لنتابع هنا صورة هذا المعرض:

” تأكد أن السيد بلانشو الأمين العام لاتحاد المعارض الدولية (السيد بلانشو) سيقدم تقريرا ايجابيا عن هذه الدورة التي أوشكت على الانتهاء ولم يعد لها من ذيول باقية يمكن أن تكدر صفوها، فقد خلصت منذ أسابيع في أجواء احتفالية مرضية. “

رابعا. سرد متضمن للنقد الأدبي

مارس الراوي في بعض المواضع اشتغال الناقد الأدبي وهو يتحدث عن بعض قضايا تحليل الشعر لنتابع المقطع التالي حيث يتحدث عن التشطير باعتباره إضافة شاعر لأشطر أبيات جديدة على قصيدة قديمة، فنحن هنا مع شاعر يكتب على غراره قصيدة سابقة. الراوي في (أ) تحدث عن التجربة نقديا وعن جمال النص الجديد، وحدد في (ب) أسبابا موضوعية لما يمكن أن يكون سببا للإعجاب بالتجربة باعتبار أن نصوص الحمداني التي تم الاشتغال عليها تدور في مدار تجربة السجن، لكنه في (ج) قدم رأيا حازما بخصوص الاعتقاد بأن النص الجديد أفضل من النص الأصلي:

“(أ) على أن التشطير الذي حواه العدد كان على قدر كبير من الاتقان، وكان كذلك شديد المطابقة للحالة الموجودة، فقد كانت تجربة الحمداني تتفق في عمومها مع تجربة المجموعة، كل حسب ظروفه، (ب) ذلك أن الخطوط العامة للتجربة إنما تنحصر في استشعار المرارة إزاء غائلات الزمن، ومحاولة الوقوف إزاءها في شيء من العبر والاحتمال، ولا شك أن المكابرة والترفع عن الشكوى وإظهار الجلادة من الأمور التي تطرب لها النفس، حتى وإن لم تكن قادرة على التمسك بها بالفعل، إذ يكفي المرء أن ينحاز دوماً إلى الموقف الجميل حتى وإن لم يستطيع اتخاذ هذا الموقف في دنيا الواقع.

(ج) لكن التشطير من ناحية أخرى يطرح الأمر من حيث المبدأ، فينفي ما تبادر إلى البعض من حيث الفارق بين الأصل والتشطير، ومبالغة الموجودين القائلة بأن التشطير يفوق الأصل، إذ إن باعث الذين قالوا بذلك هو أن التشطير كتب بقلم أحد الليبيين ولا بد للنزعة الوطنية من أن تفعل فعلتها، والتشطير مهما أتقن وتحقق له من الإجادة فإنه لا يعدو أن يكون ضرباً من ضروب التأثر بالنص الأصلي” .

وهذا النوع من الاشتغال يدخل فيما تعرفه سرديات النص بالميتانصية أو النصية الواصفة.

خلاصة:

تميزت الرواية كما رأينا ببعض التقنيات السردية، كما لاحظنا- من خلال دراسة أبعاد بناء حكايتها وكذلك بناء بعدها النصي أساليب بناءها – وجود عديد الجماليات التي جعلت منها نصا متماسكا ينحت من السيرة الذاتية نوعا مركزيا، ومن أدب السجن أداة لبناء الحكاية، كما كان البعد التأملي وسرد تحديد الموقف حاضرا بقوة في عديد المواضع. الرواية كانت سجلا حافلا بالأحداث يصور بدقة وعدم مغالاة أحداثا مهمة في تاريخ ليبيا الحديث، وكانت أيضا سجلا لعديد الشخصيات التي كانت حاضرة داخل السجن أو خارجه، وتنوعت بين الشخصيات العامة إلى الخاصة إلى أهل وأسرة الكاتب. الراوي هنا هو الكاتب نفسه ونلحظ قدرته المميزة على العودة لتلك اللحظة سنة (1973)،وتصور أحداثها، بل والتقاط ما يضع أمامنا من الهواجس المصاحبة لحالة السجن تلك. ولعل ما دعم هذا الفعل تقنيات السرد والتلاعب بالقول التي مكنته من وضعنا في تلك اللحظات شديدة الخصوصية . المكان كان لصيقا بالشخصية حاضرا في ذهنه والفواعل التي تؤشر على موقف النظام من السجناء كانت متميزة، والتقاطها ذاته كان دقيقا كمنع التدخين ومنع الصحف وإفطار رمضان، والسماح بهما فيما بعد، بحيث صارت بعض الفواعل وبعض الممارسات أيضا من السجانين، أداة الراوي ليناقش الموقف الراهن للسلطة من النخب المسجونة.

التداخل بين الأنواع في الرواية كان مميزا، كما كان للبعد الدرامي للسجناء وآلامهم وتوقعات الانفراج وأمل الخروج دور بارز في دمج مثل هذه الأنواع المختلفة. الخطاب التأملي كان مصدرا لقوة الرواية وساهم في جعله متميزا البعد الحجاجي للسرد وقدرة الراوي/ الكاتب على الخروج بالمختلف من الآراء. العنوان كان مركزيا في فعله وأحكم به الراوي حكايته، وحقق له إنجاز نص مميز في زمن صعب.

انتهى

_________________

ألقيت هذه الورقة في ندوة (قراءات في رواية المولد للكاتب أمين مازن) التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء 3 أبريل 2018م، بدار حسن الفقيه حسن للفنون – المدينة القديمة، طرابلس.

مقالات ذات علاقة

“السقوط” لا أحد يجبر الألمان على أن يقولوا الحقيقة

خالد درويش

رجـفـة الاشـعـاع

المشرف العام

ريما معتوق – بين الرواية الرقمية والرواية الورقية (قتيلة السابعة مساء)

أحلام عمار العيدودي

اترك تعليق