المقالة

وطن الغزلان

نهض العالم واستعاد انتظامه وصارت الحرب ذكرى أليمة من الماضي. مات الرجال واضطرت النساء للعمل وترك أولادهن في حضانات جماعية. لم يترك الأمر لأولئك الأمهات كن يعلمن أولادهن معنى الوطنية وبناء الوطن المتهدم وإن كن بجهدهن الظاهر أفضل قدوة لأولادهن. بل تولى علماء التربية والتعليم هذه المهمة.

من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد
من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد

في بلادنا ننشأ في أحضان أمهاتنا. اللاتي يشملننا برعايتهن ومحبتهن. محبة فائضة لامحدودة تسترعي الانتباه. محبة يتذرع البعض في تفسير سخاءها بالغريزة ولكن سهولة الحصول عليها والإفراط في منحها يجعلك تشك أنها ضمن السياق الثقافي مجرد حيلة من حيل الدفاع عن النفس. ووسيلة تلجأ إليها المانحات اللاتي تجعلهن تجربة الولادة والخلق يرين أيضاً في مواليدهن تجسيداً للمعجزة الإلهية القادرة على إخراجهن من بؤس الوجود. هذا ليس عقوقا ولكنه تساؤل بريء عن تحول القرد في عين أمه إلى غزال.

في بلادهم ينشا الأطفال في دور حضانة يسيرها مختصون وعلماء، يحظى الطفل بالحب أيضا. لكنه حب له طعم مخبري. حبا دون عواقب روحانية ومآزق وجودية ودون الصراع المبطن من اجل البقاء في صورته البيولوجية.

في بلادنا نكبر لنعتاد على تلقي الحب والتقدير. وهذا جيد فكما يقولون هناك أسئلة كثيرة في هذا العالم وعلينا الاعتناء تماماً بكل طفل كما لو انه سيحمل الإجابة عن بعض هذه الأسئلة. ولكنه ليس حباً وعناية ما يكرس أننا أفذاذ يندر أن يأتي أمثالنا إلى هذا العالم مهما أجرمنا أو أخطئنا   انه ليس حبا بل إسقاط وتعلقّ مرضي إنه اضطراب نفسي وليس أمومة. فليس كلنا جديرون بذلك الحب. بعضنا مع الأسف قرود صيرتهم عيون أمهاتهم غزلانا. ولأن تلك العيون المحبة لا توجد إلا في وجوه صاحباتها يتعثر كثير منا حين تتغير العين التي تنظر إليه لتجد قردا قبيحا أنانيا نتنا، وليس غزالا جميلا كما اعتاد اعتبار نفسه والنظر إليها. وينشأ الصراع فبدلا من تقييم نفسه واستعادتها من الوهم الذي ولد وترعرع فيه. يشرع قردنا الحزين في تفسير مجانب للواقع ويعد هذه النظرة الدونية نوعاً من التهديد وجزء من الصراع التنافسي من اجل البقاء الذي عليه مواجهته فيزداد تشبتاً (بغزلانيته) وضراوة في الدفاع عنها. ليتحول إلى حيوانات الغابة جميعها من ضبع وثعلب ونمر وفيل وحمار، كلها ماعدا الغزال. وتتحول حياتنا إلى غابة حقيقية لا ينفع التستر فيها بأي أدمية او قانون او دين.

في بلادهم يتربى الطفل بعيدا عن هذا الوهم فلا حاجة بالأم لأن تنتظر هبة الله هذا لكي يجلب لها التغيير الذي ترغبه في حياتها المستلبة سلفاً باعتبارها أنثى، لقد فعلت الحكومة ذلك، ضمنت لها الطعام والعلاج والسكن وغيره ولا حاجة ليكون ابنها سيدا وفارسا مغوارا من سلالة المغاوير ليستطيع البقاء ويجلب لها التعويض. فحتى الطيور تتمكن من العيش بسلام وتقطع الطريق دون أن يعترضها او يشويها أحد.

في بلادنا لا نعرف كثيرا معنى الوطنية الا كشيء يفترض بك أن تحترمه لان من صفات الإنسان الجيد أن يفعل ذلك. ولكننا لا نعرفه حقا. يشبه الأمر أن تلبس ساعة غالية الثمن وعاطلة عن العمل ليس المهم عملها في معرفة الوقت بل أن تدل على مكانتك وتشير كإكسسوار إلى أناقتك واغتناءك المادي (الذي لا بد انه جوهري أيضا فلولا ذكائك ثم توفيق الله لك لما استطعت أن تكون ثريا.) وهكذا بسرقة كبيرة واحدة تحقق حلم والدتك الوجودي وتتفوق على مقياس الذكاء وتصبح ورعا تقيا على حظوة ما عند الله.

ذكاؤك او مهارتك او شطارتك بالتعبير الأقرب هو اسم واحد يطلق على كل تصرف يضمن او يسهل حصولك على ما تريد دون اعتبار لأي شيء آخر من قوانين الفيزياء إلى النصوص الدينية.

 لماذا نتحدث عن السرقة ونحن نتحدث عن الوطن؟ هذا كسؤال البيضة والدجاجة اليوناني من يأتي أولا عطاؤك للوطن أم عطاؤه لك. بعضهم يحاول الفهم عبر طرح هذا السؤال الذي لا تخفى مهمته التبريرية التسويغية.

 أما كيف يقبلك الله نفسه الذي يحرم السرقة فهذه قصة أخرى. لأنك حالما تشعر بوخز طفيف في الضمير (وهذا طبيعي كما يقول المختصون خصوصا في المراحل الأولى للسرقة) سيسارع رجل دين ما بالقول إن الله يغفر الذنوب جميعا وأنت مجرد لص فاسد ولست مشركا والعياذ بالله.

 لقد قام هؤلاء بجهد بارز في جعل حياتنا على الأرض شيئا ليس ابدا بقيمة تلك الحياة التي سنؤول إليها: لك أن تكون فاسدا مرتشيا وهذا سيء لكنه ليس بسوء أن تكون مشركا او علمانيا، والعلماني عندهم هو كل من يتطرق إلى شؤون الناس الدنيوية دون الاخروية أيمانا منهم انه يفعل ذلك إنكارا للشق الثاني وكفرا به، ولكنه قد لا يكون كذلك انه مجرد مهتم بالجزء الدنيوي المتعلق بإدارة حياة الناس هنا والان. الا انهم يسارعون بتكفيره وإضاعة فرصته في الحياة الأخرة، لان الصواب كما يرونه هو أن يتولوا هم إدارة هذه الشؤون. وفي واقع الأمر هم من حول الدنيا إلى طريق باتجاه واحد نحو الآخرة، ليس مهما فيها او مقاسا وجديرا بالاعتبار الا الأعمال الصالحة وهي العبادات دون غيرها من الأعمال. يعني ذلك أنك أثناء حياتك الدنيا لن تتجاوز هيئة العابد او الناسك إلى هيئة أخرى والا فأنك تؤذي التوازن الذي يصون حياتك الاخروية. بصياغة أخرى جعل رجال الدين الحياة جلسة دينية مجهولة المدة بانتظار الموت وتقاضي الثواب الجزيل.

لكن الله لا يريد ذلك وفكرة الثواب والعقاب الإلهي مؤسسة على مفهوم التجربة التي يعتبر مجرد خوضها محل ثواب وعقاب وليس الامتناع عن التعرض لاحتمالية الخطأ الممكن تداركه والتوبة عنه. فهم المؤمنون الأوائل ذلك وأنتجوا حضارة ساهمت مع غيرها في تطور حياة الإنسان على الأرض.

في بلادنا الوطنية هي أن أكون وأبقى غزالا رغم أنيابي البارزة ومخالبي الحادة المضرجة بالدماء وجلدي البرمائي السميك، ودموعي الاصطناعية. غزالا لم يصنفه علماء الأحياء او يكتشفوا له اسماً، اسرح وامرح دون قيد او شرط.

الوطن في بلادنا هو ما املكه او ما أتمكن من نيله أياً كانت الطرق. انه فهم معاكس تماما وعلى النقيض من حقيقة الأمر. إن تصور أحدنا وهو يتصرف بوطنية يكاد يشبه أن نرى سمكا يمشي على البر. مجرد فهم الوطنية كما هي كفيل بإنهاء بقاء قردنا الحزين. الوطنية التي تعني العطاء دون اشتراط أو انتظار أو تدبير بل وحتى افتراض المقابل.

في الواقع أن تفتح عينيك على حب مجاني لم تفعل شيئا لتستحقه وتعيش عليه. هو درس مبكر يجعلك تدرك أن عليك منح الحب أيضاً ودون شروط كما استلمته.

وإذا كانت الأم وطنك الأول جاهزة (مكتملة الأركان) فالوطن المتخلف ليس كذلك انه بحاجة للبناء كي يتمكن من (الإدرار).

تجاوز الآخرون هذا بخطوتين لقد أزالوا هذا الحب الموهوم. فاذا كان أبناء الوطن هم سواعده حين يكبرون فليكونوا تحت رعايته منذ طفولتهم وليس حين يحتاج لتجنيدهم.

إذا كانت الأسرة جاهلة والمجتمع متخلفا فليس علينا تحمل وزر ذلك إلى الأبد.

في أسرة مجتمعية مصطنعة يترعرع الغزال الحقيقي

ويزرع في حقله مبكرا مفهوم الوطن والبذل والعطاء.

مقالات ذات علاقة

هل مازالت هذه البحيرة قائمة لم يردموها؟

عبدالحكيم الطويل

حاتم

عبدالرحمن جماعة

“المسرحية” في (شط الحرية)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق