نجاح إبراهيم – سورية
يُعدُّ الرّوائي إبراهيم الكوني، فيما تابعنا له من أعمال روائية، كاتب الصحراء، أو صانع سيرة الصحراء، فهو يستسيغ الكتابة عنها، بل إنها الأثيرة لديه، إذ يتلذذ حين يصفها، بل إنه يصاب بغيبوبة الانتشاء حين يأخذه السّرد رواحاً في أعماق شروشها، فتخال للحظة أنها معشوقته الوحيدة، ينظر إليها في كلّ أطوارها، بعين المحبّ، أو العاشق الذي لا يرى فيها إلا كلّ ما هو جميل وأصيل. فتراه يدخلك كساحر يتقن فنه، في عالمها، يفتح عينيك على معارف لم تكن لتعرفها، يعتبر صحراءه الجامعة التي ينهل منها العلم والمعرفة “الصحراء في مسيرة تعليمي كانت أولى الجامعات…” ص100
إنك تتعرّف إلى رموز الأبجدية الصحراوية، وهي تعدّ بنظره أقدم عهداً من كلّ الأبجديات المعروفة، يقنعك، وهو الذي يملك حجة الإقناع ” أنّ ذلك مكتوب على ألواح حجرية، وجدت مراراً مطمورة في أقبية البنيان..” ص93
ويتحفك ببعض قوانينها كأنْ تدرك أنّك “في الصحراء تستطيع أن تصنع لنفسك اسمك، أو فلنقل تستطيع أن تستعيد اسمك الضائع..”ص224 فبالمدينة، الكفة الأخرى الخاسرة أمام الكفة الراجحة (الصحراء) أنت تخسر اسمك، يضيع كما تضيع الإبرة في كومة القش، لأنّ المدينة هي موئل للضياع، فتشمّ رائحة دعوة سرية لتكوين دولة في الصحراء (دعوة خفية) لأبناء تمّت هجرتهم قسراً أو عمداً، بيد أنها –أعني الصحراء- تربط بين أبنائها بخيط لا يمكنهم الابتعاد عنها مهما امتدت خطواتهم شرقاً أم غرباً، شمالاً أم جنوباً” فإذا اضطرتهم إلى الهجرة، فإنهم يستجيرون بتلك المدن التي لم تكن يوماً سوى الامتداد الطبيعي لحميمتهم الصحراء، كأنّ الارتواء من ينابيع الحرية، هو الذي سنّ الناموس الذي حرّم على قبائل الصحراء اجتياز الحدود الصحراوية، وعبور المياه سواء أكانت نهراً، أم بحراً لما في هذا العبور من إثم..” ص211
يستشف القارئ أنّ إبراهيم الكوني في روايته “من أنت أيها الملاك؟ ” يحلم بتلك الدولة الأمازيغية، أن يكون لها وجود، فثمّة موروث صحراوي يتناقله الأفراد، محفور على الأحجار المقدسة، باقٍ أبداً “تستطيع الصحراء أن تعطي هوية، كما أعطت الهوية الصحراوية لكلّ نبوة، كما لم يحدث أن أفلح نبيٌّ في ترويج رسالة ما لم يطهرها بنار الهجرة..”صــــ159-160
في هذه الأحبولة الذكية، السحرية، يدعوك إبراهيم الكوني إلى قراءة صحرائه، لتولد من جديد، ولادة بالروح ولهذا “فإنّ ميلاد الوليد في الصحراء ليس هو اليوم الذي يولد فيه، بالجسد لتصرخ العجائز في أذنه بالعطية المخجلة المسماة اسماً، ولكن ميلاد الوليد هو يوم يولد بالروح..” ص 162
رواية إبراهيم الكوني “من أنت أيها الملاك؟ ” التي تبدأ باستماتة بطله الشخصية المحورية في النصّ “مسّي” الذي يعني اسمه (مولاي) في لغة الأمازيغ، بتسجيل ابنه الذي اختار له اسم يوجرتن ويعني “البطل الأكبر” في لغة الأسلاف وعُرفهم، أراد أن يسجله في الدوائر الحكومية في المدينة، بيد أنّ هذه الأخيرة، لم تعترف بهذا الاسم، لأنه ليس من الأسماء المنزلة لديها ” والغاية من ذلك حماية الأجيال من التمجّس أو التهوّد أو التنصّر..” ص 48
ولأنّ ” أسماء الأسلاف وصايا في عنق الأخلاف، والوصية في عرف الأجيال دائماً رسالة منزلة..”ص68.
ظل مسّي يطارد شبح أن يكون ابنه مكتوماً، أو في عداد المفقودين، إذ يحسّ بالاغتراب، فيحرم وليده، خليفته كما أطلق عليه اللقب، أن يكون له وجود، ليمارس حقوقه كاملة من التعليم والعيش بأريحية بين شوارع المدينة التي هاجر إليها الأب مسّي، وكتب على وليده الولادة فيها، بيد أنّ لوائح المدينة لم تشرّع له هذا الحق، ولا يمكنه أن يستبدل الاسم بآخر إذ يصبح بمثابة الردة التي يحاسب عليها المرتد ” ص70″ ومن تهمة الردة لا خلاص..”ص70
فسلك مسّي كلّ الطرق دون فائدة لدرجة أنه سلب منه اسمه أيضاً، فصار عليه أن يستعيد الاسمين معاً، في محاولة حثيثة للإعلان عن وجودهما، فيدوخ ويتنقل من دائرة رسمية إلى أخرى، ومن مسؤول إلى آخر، منتظراً أعواماً تمرّ أمام عينيه وصبره، وأمام أبواب تلك الدوائر الجائرة بحقه وحق وريثه، ليقع فيما بعد في مكيدة أحد المسؤولين يدله عليه صديقه موسى، الذي انتفع كثيراً من وراء ذلك العمل والذي بدا ظاهره خير، وباطنه بلاء على مسّي.
عرّفه موسى إلى ” الباي” ليعقد معه صفقة، مقابل أن يحرّر له ابنه يوجرتن من المعتقل الذي آل إليه نتيجة مشاجرة بينه وبين أحد الصبية، ووعده باسترداد اسميهما معاً، وذلك مقابل أن يكون دليلاً له في شركة استكشاف النفط في الصحراء.
يوافق مسّي، ويقرّر اصطحاب ابنه معه، الذي ملّ اسمه وحياته وعيشة الشقاء التي كتبت عليه، وفي الصحراء حيث يتدرج مسّي وابنه، يطلعه على وصية الأسلاف ويدله على الحجر المقدس الراقد في قلب الصحراء، وحين تنتهي عملية الكشف عن النفط، يتبين لمسّي أنّ (الباي) قد سرق الحجر المقدس، والأغرب من ذلك يكتشف أنّ ابنه هو الذي دله عليه، متغاضياً عن تهديد الأب حين قال :” ذلك سرٌّ توارثته قبائل الصحراء جيلاً عن جيل، والموت قصاص لكلّ من قاد الأغراب إلى ساحته..” ص170
ولكن الولد ضرب عرض الحائط بتهديد الأب ونصيحته، إذ البلاء سيعم، إذا وقع الحجر المقدس في يد الدخلاء، كما يتضح فيما بعد أنّ المسؤول لم يفِ بوعده ويرجع له ولابنه اسميهما، فخسر مسّي الكثير، واستشعر في دخيلة نفسه بلاءً قادماً ولا شك.
وتكتمل دائرة الخراب نتيجة لعنة الأسلاف حين يهرب يوجرتن من مسّي، وينتسب إلى عصابة مسلحة تقرّر نسف مكتب السجل المدني انتقاماً من مسؤولي الحكومة لعدم اعترافهم بالأفراد المهاجرين من الصحراء إليها، والذين يمتلكون أسماء أسلافهم، بيد أنّ الأب مسّي يستطيع معرفة مكانه، يستدرجه، وإذ به يلمح شجرة منبتها الصحراء، وحيدة، باقية في المدينة، تدعى شجرة الرتم، فاستغرب أن تنجو من أنياب جرارات القوم الوحشية، وتفكر ملياً إذ إن هذه الشجرة إنما تعني له رسالة ” رسالة موجهة إليه كسليل صحراء، وحيد يعرف حقيقة الرتم المقدّس، الذي تقول وصايا الأسلاف:” إنه ملجأ روح الصحراء الوحيد الذي اختاره هذا الوطن الشقي لكي يستجير به كلما حاقت به بلية..” ص253
فيستحيل بحث مسّي عن هوية أو اسم لابنه إلى رسالة كرسالات الأنبياء، لا يجوز أن يحيد عنها، فها هوذا جزء من الصحراء المقدّسة لا تستطيع المدينة مهما حاولت أن تمحوه، ولا أن تقتلعه، وما وجود شجرة الرتم إلا رسالة، فكّ حروفها وطلاسمها وما عليه سوى التنفيذ.
“روح الصحراء لا تخرج من مخبئها في شجرة الرتم إلا بقربان جسيم.”ص254 فلم يجد سوى ابنه ليقدّمه قرباناً. يذكرنا بسيدنا إبراهيم الخليل الذي أراد أن يقدّم ابنه إسماعيل قرباناً لكن يتمّ الفداء.
ألا من فداء يقدّمه مسّي للناموس الصحراوي آنهي؟
استقر النصل المغسول بروح الإله الأبدي في نحر السليل، فخرّ الابن أرضاً ليروي الدّم شجرة الرتم.
القضية التي يتناولها الروائي هي قضية الأمازيغ في تلك البلاد، وعدم الاعتراف بحقوقهم كاملة، قضية الأقلية التي تبحث عن مكان بين الأكثرية.
فالرّواية تلامس واقعاً ملموساً، فأحداثها وشخصياته وأمكنتها واقعية، بيد أن طريقة الكاتب تأخذك إلى عالم آخر شبيه بعالم الأسطورة لتخلص إلى أن رواية( من أنت أيها الملاك؟ ) ليست واقعية بالمعنى الحرفي، ولا أسطورية، إنما هي بين بين، يمتزج الواقعي بالأسطوري، والواقعي بالميتافيزيقي، والممكن حدوثه باللا ممكن، لأن الجزء السادس في الكاتب ينقلك بين تلك العوالم، لتشعر أن قدميك في الأرض تنغرزان في الرمل الحار، بينما الروح تهيم فوق، في الأعالي.
تقوم الحكاية في النصّ السّردي على ثلاث أثافٍ:
الإثفية الأولى: نضال مسّي في إيجاد اسم لابنه وإثبات هويته.
الإثفية الثانية: حين يصبح دليلاً لشركة التنقيب عن النفط في الصحراء التي يكتشف فيما بعد أنها شركة وهمية، وما هي إلا غطاء لسرقة كنوز الأسلاف.
الإثفية الثالثة: إدراكه حجم الإثم الذي ارتكبه الابن، فناله العقاب حين قرأ رسالة شجرة الرتم لتتم عملية التطهير بالدم، وذلك بذبح وريثه قرباناً لتهدأ لعنة الأسلاف.
في “من أنت أيها الملاك؟ ” اعتمد الكاتب أسلوب التقطيع في روايته، كما هي عادته في العديد من الروايات، ليرقم كل مقطع دون عنونته بعناوين فرعية، إذ يبدأ من الرقم واحد وحتى الرقم ست وثلاثين، والمقاطع بحدّ ذاتها متقاربة، يتكامل فيها السرد، إذ تكون متممة لما قبلها لتشكل المقاطع كلها وحدة سردية كاملة، لا غنى عن أحدها.
حيث تترابط زمنياً، فلا قفزات زمانية إلا ما ندر، وذلك حين يسترجع مسي بعض الذكريات حينما يكون طفلاً يرعى الغنم فيباغته حيوان متوحش.
وهذا الالتزام بزمن أفقي إنما هو من خصائص الرواية العربية التقليدية، بيد أن المقاطع التي حاول الروائي وضعها أو تقطيعها لجسد النص هي سمة من سمات الحداثة التي اعتدنا في روايات الكوني أن نلمسها.
ويمكننا القول: إنّ الزمن الحكائي في رواية من أنت أيها الملاك، يمتد منذ أن ولد ابنه يوجرتن، فرغب في تسجيله في أمانة السجل المدني إلى ان شب يافعاً ولم يحصل على الاسم في دوائر الحكومة، يعني ثمة سبعة عشر عاماً، حيث يشكل هذا الزمن سير الأحداث في المدينة، ثم في الصحراء، باستثناء عودة قصيرة إلى الوراء حيث يسترجع مسي طفولة مفقودة حينما كان راعياً للغنم ويباغته ضبعٌ، ينتصر عليه بالحيلة وهو ابن سبع سنين، ليكافأ بمدية من والده هي ذاتها تلك التي يذبح بها ولده قرباناً.
أما اللغة في الرّواية، فهي لغة خاصة بالكاتب إبراهيم الكوني، خاصة بموضوعه الذي لا ينفك يكتب عنه، موضوع أمه الصحراء وأولادها البائسين، وبيئته، فقد صنع لغة متميزة، غنية بالدّلالات والمعاني العميقة، عابقة بالرّموز والإشارات:
“ظل مسي يتطلع إلى اللوحة ببلاهة، فلم يجب، قال الرجل بذات النبرة الغريبة في الصوت، البرزخ، هو اسم هذه اللوحة، مسي المشبع بروح دراويش الطرق الصوفية الذين لقنوه طويلاً بدلالات حميمة عن البرزخ إلى حدّ لا يتجاسر أهل الغفلة لينطقوا في حضوره هذه الكلمة إلا لتنتابه القشعريرة، ويستيقظ فيه نداء مجهول..”ص78
أما الحوار في سرده، فهو خلاصة ثقافة عميقة لكاتب يعرف كيف يصوغه، وكيف يأتي موجزاً، مكثفاً، يؤدي الغرض دون ترهل أو تشتت، كأنما هو حكمة أو قولاً مأثوراً!
” في عرفنا، لسان الأبناء دائماً ترجمان لنوايا الآباء:”ص131
…. العثور على الكنز عادة لا يشبع صاحب اللقية، ولكنه يشعل شهوته أكثر من أي وقت مضى.”ص136
“- الأشباح وحدها تتولى أم الناس من وراء حجاب.”ص142
” هل يستطيع من لا يحسن السباحة أن ينقذ غريقاً بالارتماء في أحضان الغريق؟ “ص142
” الوصية تقول: الإنسان يستطيع ما ظل طليقاً.”
إنّ هذا الحوار يشبه تماماً الكمأ المقدس، الذي لا ينبت إلا في موطنه الصحراء، حيث يتلاقح الرّعد المباغت مع ضوء القمر في لحظة نادرة، لا يقبض على هذه الالتماعة سوى كاتب متميز كأمثال الكوني الذي يعد ابن بيئته، وإن ابتعد عنها وعاش في الريف الأوروبي، بيد أنها تبقى في داخله ما بقيت الرّغبة في السّرد، وما بقيت الروح في الجسد.
فهو العارف بقوانينها والخبير بناموسها، ولشدة ولعه بها يبيح لنفسه أن يسنّ قوانين لها ومنها، يشبه إلى حدّ المشرع حمورابي، الذي ما تزال قوانينه متداولة حتى عصرنا هذا.
فها هوذا “مسّي” في انتقاله إلى الصحراء كدليل فيها يسطر خطواته من جديد على أرضها، إذ يبحث عن انتماء جديد، لأنه فقد كلّ شيء، ففي الصحراء يستعيد كلّ شيء، فيقول لابنه:
“قرّرت أن نترافق في رحلة الصحراء حرصاً عليك، لأنك في الصحراء تستطيع أن تصنع لنفسك اسمك، أو فلنقل تستطيع أن تستعيد اسمك الضائع.”ص224
“وصية الأسلاف تقول: إياك أن تفعل شيئاً على سبيل الانتقام.”225
ولكن ثمّة ملاحظات كان لا بدّ لنا أن نضعها من وجهة نظر ليس إلا..
– لنبدأ من العنوان، يتضح للقارئ، أن العنوان من أنت أيها الملاك؟ ليس مناسباً لمحتوى السرد. فمن هو الملاك؟
هل هو الاسم الذي استمات مسّي بطل الرّواية في الحصول عليه؟ لأنه في هذا المسعى الحثيث إنما يحصل على هوية؟ أتراه الملاك يكون الرجل الذي ينتمي إلى الأمازيغ، فيكون مسلوب الحرية؟
أم يكون من أهدى إليها الكاتب روايته؟
كنت أرى في أن يكون العنوان- لو قدر لي أن أضع عنواناً جديداً لها- محاولة اقتباسه من مفردات وجمل الرواية، كأن يكون: (شجرة الرتم) أو (الكمأ المقدس )أو (الحجر المقدس)أو (الناموس الصحراوي)…الخ.
– في خضم الأحداث لم نلمح ردة فعل لمسي عندما أخبره نزيه الفياض أن توكيل شركة النفط كان وثيقة مزورة. إذ لجأ الكاتب إلى القطع هنا، وبدء فصل جديد، وهذه المعلومة بالذات كانت كافية لتزلزل مسي وتجعله منهاراً.
– لماذا لم يلاحق مسي (الباي)الذي خدعه، أينما تراحل والانتقام منه؟ ألأن الصحراء أمه، تنهاه عن الانتقام؟ ! بل لماذا أطلق ا لكاتب اسم أو لقب الباي على المسؤول الذي عقد الصفقة مع مسي، ليعود بنا إلى عصر العثمانيين دون داع؟ !
– الملاحظة التالية، لماذا لم ينسف ابنه مع العصابة التي شكلت من أجل نسف أمانة السجل المدني كعملية تطهير والبدء بحياة جديدة؟
– لقد استحوذ السرد في بحث مسي لتسجيل ابنه على مساحة كبيرة من النص وكان من الممكن اختصار ذلك، بينما اختصر الكاتب مقاطع سردية يمكن الاسترسال فيها مثل عودته إلى الصحراء في أثناء تنقيب البعثة عن الذهب الأسود. كان من الممكن أن يسرد عن الألواح الحجرية المقدسة فيها أكثر، وعن حياته، وعن قبيلته، وعن ذكريات عديدة له فيها قبل أن يأتي المدينة.
– لماذا قتل ابنه، ملبياً نداءات الروح في شجرة الرتم؟ لمَ لمْ يتمّ فداؤه كما هي قصة إبراهيم الخليل وابنه اسماعيل؟ لِمَ لمْ يلجأ إلى الصحراء ويبحث عن فداء له؟ ألا يكون ذلك جذاباً وشائقاً؟ ! ولا يبعدنا ذلك عن الأسطورة التي كان الكوني يدخلنا في روحها، إذ عوّدنا قراءة إبداعه، فكنا قريباً من تلك الروح ما يجعل امتدادها الكبير مكاناً بل حاضناً للأسطورة.
– ولعل الملاحظة الأخيرة هي نهاية الرواية، وتساؤلنا عن تكرار مفرداتها، فلنقتطع جزءاً منها وليعد القارئ إليها:
” انتصب أمامه صامتاً، لم تدم المواجهة طويلاً، انطلقا في الدرب المؤدي إلى الحقول العارية، كأنهما كانا على اتفاق مسبق، كأنهما كانا على موعد، بل كان زيارته له في ذلك اليوم كانت تلبية لموعد، كأنها كانت استجابة لنداء..”ص252
سارا عبر الحقول الميتة صامتين، سارا متجاورين صامتين كأنهما في حلم، كأنهما يؤديان طقساً مرسوماً بعهد قديم، كأن صمتهما إدانة لدنس اللسن، كأن صمتهما إكبار لبكارة السكون، كأن صمتهما إعادة اعتبار لقداسة الصمت مقابل خطيئة اللسان.”ص252-253
نشعر وكان معلقاً رياضياً يتابع طقس مباراة أمام أعين المشاهدين المتعلقة بالشاشة الفضية، فمن خلال تكرار تلك المفردات إنما يشدّهم أكثر.
ومهما يكن..
فرواية من أنت أيها الملاك؟ لا تخلو من إدهاش ومفارقة، يجعلان القارئ يقف عندهما إعجاباً وتقديراً لحنكة هذا الروائي العربي.
فالموظف نزيه الفاضل، الذي اختفى نهائياً من أمانة السجل المدني أعواماً، تظهره الرواية ليسوغ اختفاءه بأنه حرر إيصالاً بشكل عفوي لمسي يخول الأخير في منح مسي حقه في دائرة النفوس. ولهذا اختفى كي يفرّ من عقاب الألواح المدنية.”183
مفارقة أخرى، أنّ موسى الصديق الذي أقنعه ليكون دليلاً للباي في الصحراء، حصل على قرار تعديل لاسم ابنته مريم لقاء إقناعه لمسي، وهذه صفقة تمت في الخفاء. ص188
ولعلّ المفاجأة الكبرى أنّ ابنه تواطأ مع الباي حين دله على مكان الحجر المقدّس ضارباً وصية والده عرض الحائط.ص232
وبعد..
إبراهيم الكوني، كاتب بارع ومتميز، إنه الحاوي الذي يستطيع أن يخرج الحيّة من جحرها بسلاسة. أتذكر حواراً دار بيني وبين الروائي الراحل عبد السلام العجيلي قبل عقدين، كنت حينها قد انتهيت من قراءة رواية “الواحة” للكوني، على ما أعتقد.
فسألته ما رأيه بالكوني؟ أجاب مبتسماً: إبراهيم الكوني، أدواته بسيطة، قليلة، لكنه يلعب بها بمهارة الساحر، ليخلق عالمه السردي بتميز، ويكرّر اللعب بالأدوات ذاتها في رواية أخرى.
سألته: وما هي أدواته برأيك؟ أجاب محركاً أصابعه، وناظراً إلى مدى لم أقبض عليه : شخصيات من البيئة، عددها قليل بالطبع: صخور، أحجار، تميمة، أفعى، شجرة صحراوية، نبات شوكي.. الخ، هذه هي لا أكثر.
سألت: هذه الإبداعات الباهرة، كيف لأدوات بسيطة أن تشكلها؟ ما مرجعيتها؟ أجاب رافعاً حاجبيه إلى الأعلى : ثقافته واسعة، ومرجعية كتاباته متنوعة، تكمن في أحضان الكتب القديمة، ينهل منها، ويصوغها بما يتفق مع صحرائه، والذي يعد هو ابنها البار.”
طال الحديث عن الكوني، راح العجيلي يذكر لي بعضاً من مرجعياته، بيد أنني لن أذكرها الآن.