الجمهور الساخط أو الناقم على نظم الحكم، تعرض في مختلف العصور الى إتهامات وأوصاف مختلفة، بعضها يكاد يكون قاسيا، وإن كان في بعضه صحيحا، من حيث السلوك أثناء ظاهرة التجمهر، ولكن لا يمكن التعميم في كل الأحوال والأزمنة والعصور على كل تظاهرة شعبية أو تجمع جماهيري غاضب وناقم على السلطة، على أنه “غوغائي” و”مهرج”، وإن تلك الجموع، تشبه من وجهة نظرهم، ما يمكن وصفه بـ “قطيع الغنم الذي يقوده راع، ويحرسه كلب!”.
لفيلسوف الألماني الشهير، فردريك نيتشه، صاحب فلسفة القوة، الذي من أعماله: “هكذا تكلم زرادشت”، كان يقول عن تظاهرات واحتجاجات شعبية عمّت بعض الدول الأوربية ومنها فرنسا، في عصر الثورة الفرنسية وما تلاها: إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين.. دع المشاغبين وارجع الى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع “نعم وتمرد” لا”!
ويقول نيتشه في موضع آخر: ليس على زرادشت أن يخاطب جماعات، بل عليه ان يخاطب رفاقا، يجب ألا يكون زرادشت راعيا للقطيع وكلبا له!
وعن “ظاهرة الغوغاء” أو “القطيع” الذي يطلقه على أية تجمعات جماهيرية من هذا النوع أفرد عالم نفس الاجتماع والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، مؤسس علم نفس الجماهير، في عام ١٨٩٥، كتابا مستقلا، تناول فيها دراسة الجماهير بشكل مفصل أسماه “سيكولوجية الجماهير”، تحدث فيه عن الجماهير من وجهة نظر نفسية فعرفها على أنها: “الحشود والتكتلات، التي تتصف بصفات طارئة ولها خصائص مشتركة، تختلف عن صفات وخصائص الأفراد الشخصية الواعية التي تشكلها، بحكم ظرف طارئ”!
وتناول غوستاف لوبون الصفات العامة لتك التجمعات الشعبية وقال عنها إنها: تتصف بسرعة الانفعال وخفتها ونزقها، وسرعة تصديق أي من الأحداث وسذاجتها، إن عواطف الجماهير تتضخم “في مشاعر الحب والكره” ويتم تبسيطها!!
ويصف غوستاف لوبون السر وراء انخراط الأفراد في الجمهور فيقول: ففي الجمهور يتحرر الأبله والجاهل والحسود، من الإحساس بدونيتهم، وعدم كفاءتهم وعجزهم، ويصبحون مجيشين بقوة عنيفة!
وهنا يشير غوستاف الى أن الجماهير التي تميل إلى التعصب في آرائها واستبداديتها “تحترم القوة ولا تحترم الطيبة، بل هي بنظرها شكل من أشكال الضعف” هذه القوة التي تقود في كثير من الأحيان إلى التطرّف. وإن “بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها، يحميها من الشكوك وعدم اليقين، فالجماهير كالنساء، تذهب مباشرة نحو التطرّف، فما أن يبدر خاطر ما حتى يتحول، إلى يقين لا يقبل الشك”، وإنه اذ ما نفرت تلك الجماهير من شيء، يتحول مباشرة إلى حقد هائج، “بما أنه لا يمكن تحريك الجماهير والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف المتطرفة”.
ومن وجهة نظر غوستاف لوبون فإن “العقلاء” لا يتحركون بـ “سيكولوجية الجماهير”، لأنهم في أكثر الظروف التباساً يظلون محتفظين بشخصياتهم الواعية، بحيث يصعب تزييف وعيهم أو توجيههم، بينما في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد، وتصبح شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، بحيث تلغى شخصية الفرد المستقل، ويصبح عبارة عن إنسان آلي يتحرك بقوة الهستيريا الجماعية كما يقول لوبون.
ويقول وليم شكسبير إن “حشد العقلاء أمر معقد للغاية، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راعٍ وكلب”، والمعنى من وجهة نظر علماء اجتماع وسياسة نراه ونعيشه بشكل يومي وفي كل مكان، بدءاً بالسياسة وانتهاء بلعبة كرة القدم، القطيع يستنفر ويتجمع في لمح البصر، لأنه يتحرك بمثيرات الشهوة والغريزة، فعلى رائحة الدم تتجمع قطعان الذئاب مثلاً وأسراب النسور والعقبان وكل الحيوانات المتوحشة، وبمنطق ذهنية الجماعة التي تجرح سريعاً حين يخص الأمر وجودها وحقوقها أو نرجسيتها القومية، يندفع الناس للدخول في المظاهرات ومعارك الشوارع، لكن لن يكون هناك شخص عاقل أبداً، فالعقلاء ينفرون من كل ما يلغي الإرادة ويقود للغوغائية.
ومن جانبه يقول الزعيم البوسني عزت بيغوفيتش في كتاب له عن تلك الظاهرة: إن الحالة الجماهيرية تتسم بحالة عقلية أشار اليها يوهان هويز نجا باسم الصبيانية. وتتصف بتسليمات مبتذلة، غياب روح الفكاهة الأصلية، الحاجة إلى أحداث مثيرة ومشاعر قوية، الميل إلى الشعارات الرنانة والاستعراضات الجماهيرية، والتعبير عن الحب والكراهية بأسلوب مبالغ فيه، واللوم والمديح المبالغ فيهما، وغير ذلك من العواطف الجماهيرية القاسية.
هكذا كان ينظر كبار علماء الاجتماع والفلسفة – ومن هم محسوبون على كبار المثقفين – إلى الجماهير الناقمة والساخطة على أنظمة الحكم، وقد تم تعميم تلك المظاهر والسلوكيات على ما يظهر اليوم من احتجاجات شعبية في مختلف دول العالم، بالرغم من أن تلك التجمعات الحاشدة أدت إلى إسقاط أنظمة كانت تتهم بالاستبداد والدكتاتورية، لكنهم كانوا يصفون شكل الحالة النفسية والهيجان الجماهيري أثناء المشاركة في تلك التجمعات والاحتجاجات بـ “الغوغاء” و”القطيع الهائج”، وفيها جانب من الصحة، إلى حد كبير، لأن أغلب تلك الاحتجاجات لا يوجد لها “قادة حكماء” في أغلب الاحيان، وهي تخرج تحت ضغط الشارع والجمهرة غير المنظمة لكي تسير باتجاه الفلتان والفوضى، لكنها تبقى ترهب الكثير من أنظمة الحكم وتشكل لسياسييها قلقا كبيرا لا يمكن تجنب عواقبه، وهي في كل الأحوال تحولت إلى “ظاهرة مجتمعية” ووسيلة أمثل للـ “الضغط”، وأخذ تيارها يتجه كالنار في الهشيم، ليمتد إلى دول كبيرة، وما يجري في العراق ودول في المنطقة وأخيرا في فرنسا ودول أخرى، يدخل في هذا الباب، من أن الجماهير الناقمة ليس بمقدورها، أن تسكت عن الظلم الذي استشرى عليها وعلى بني جلدتها، وما عليها إلا أن ترغم الحاكمين للامتثال لمطالبها العادلة في تحقيق مطالبها المشروعة والعادلة.
وأفضل مثال عبر عن “خيانة المثقفين” الفرنسيين هو المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا، الذي أطلق قبل أكثر من ثمانين عاما، صرخته في وجه المثقفين الذين تستهويهم مغريات السلطة والجماهير فتقودهم للانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية، وجاء كتاب بندا صادما من عنوانه الذي حمل اسم “خيانة المثقفين” الصادر عام 1927، ومنذ ذلك الوقت صار مصطلح “خيانة المثقفين” يرمز للإشارة إلى تخلي المثقفين عن استقامتهم الفكرية.
لم يكن كتاب بندا هو الوحيد، فبعده بأعوام جاء الكاتب الأميركي راسل جاكوبي، ليناقش في كتابه “آخر المثقفين” الصادر عام 1978 تراجع دور المثقف في الحياة العامة، وتخلف تأثيره في المجتمع. كما تحدث الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه “صور المثقف” سنة 1994 عن الصورة الأخلاقية المفترضة للمثقف. وألّف الكاتب البريطاني فرانك فوريدي أستاذ علم الاجتماع في جامعة كينت كتابا آخر باسم “أين ذهب كل المثقفين؟” عام 2004!
كل هؤلاء المفكرين وجهوا التوبيخ تلو الآخر للمثقف، الذي يتخلى عن رسالة أخلاقية افترضوا مسبقا أنه منذور لأجلها، وعن ممارسة أهم مسؤولياته في النقد، وهي الوظيفة الرئيسة للمثقف، والتحلي بالشجاعة والمسؤولية، خاصة في ظل الاحتراب الفكري الذي يجعل الأمور ملتبسة، ويصبح “الرأي فوق شجاعة الشجعان”، كما يقول المتنبي.
وقال آخرون لقد صدق إدوارد سعيد حقا حين تحدث عن خيانة المثقفين، ففي الوقت الذي تتعالى فيه أصوات عقول حية متقدة في الساحة الفرنسية، رافضة موجات اليمين المتطرف وخطاب العنصرية والاستبعاد الاجتماعي، التي تمثلها قامات كبيرة في معادلة الثقافة والفكر في الساحة الفرنسية والأوروبية من طينة إيمانيول تود، ميشيال أونفري، ألان باديو، وروجي غارودي، ممن تصدوا لغوغائية الإعلام وانتهازية رجال السياسة وحشود الجماهير. يتزلف بنو جلدتنا من المثقفين الموائد في النوادي هناك، لعلهم يقدمون الدليل على صفاء السريرة وبراءة الذمة، طمعا في صك اعتراف ولو على حساب الحقائق والمواقف.
ويتهم المثقفون في كل الأحوال على أنهم أما أنهم تحولوا الى جانب الحكام الطغاة والمستبدين وراحوا يحملونهم، أو أنهم اخذوا أسلوب “الإعتكاف” عن المشاركة في الحشود الثائرة الغاضبة، وهو ما نلحظه في كثير من التجمعات الجماهيرية الغاضبة في العراق هذه الأيام، وما موجود منهم لا يعد على عدد أصابع اليد، ولا يشكل رقما ذا قيمة قياسا إلى جهد الجماهير الشعبية التي تشارك بقوة من أجل تحقيق مطالبها المشروعة، وللأسف فإن بعض مثقفينا راح “ينتظر” نتيجة ما تؤول إليه الاوضاع علّ بمقدوره أن يحصل على مبتغاه في خاتمة المطاف.
لكن غوستاف لوبون يظن أن المثقفين هم “صفوة المجتمع” وهم أكثر “عقلانية” من هؤلاء الغوغاء الثائرين وفق نظام القطيع، بالرغم من أن أغلب المثقفين الفرنسيين كانوا قد اتهموا بـالخيانة لبلدهم، لأنهم لم يشاركوا شعبهم ثورته العامرة ضد تسلط الدكتاتوريات والنظم الفاسدة التي مارست استبدادها على الفقراء وعامة الشعب وحولتهم إلى أداة تنفذ إرادة الحكام، ولم يتم تنفيذ أي من مطالبهم بأن يتم توفير قدر من الكرامة واستعادة الحقوق المشروعة، ولهذا فإن عزوف المثقفين اتسع نطاقه حتى إلى الدول العربية، ومنها العراق، وتجد أغلبهم وهو معتكف، ويعد موقف الكثيرين منهم سلبيا ولا أباليا، كونهم لا يشاركون الجمهور الناقم مطالبه المشروعة، ولم يشاركوا ثورة الفقراء وعامة الشعب، في تلك الممارسات الجماهيرية الشعبية، من أجل أن يتم تحقيق أهدافهم المشروعة.