كَمْ أَثَارَ صَدِيقِي المُثَقَّفُ دَهْشَتِي وَاسْتِغْرَابِي حِينَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ قَبْلُ ــ مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ ــ عَـنْ شَاعِرِ الوَطَنِ أَحْمَد رَفِيق المهْدَوِي رَحِمَهُ اللهُ (1898-1961)، حَاوَلْتُ جَاهِداً أَنْ أُقَرِّبَ لَهُ الصُّورَةَ، وَأََنْ أُذَكِّـــرَهُ بِبَعْضِ الجَوَانِبِ وَالأَعْمَالِ وَالمَرَاحِلِ المُهِمَّةِ فِي سِيرَةِ هَذَا العَلَمِ الكَبِيرِ، لَكِنْ دُونَ جَدْوَى، فَصَدِيقِي لَيْسَ نَاسِياً لِشَخْصٍ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ (لأَذَكِّرَهُ بِهِ أَنَا)، بَلْ هُوَ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ أَبَداً. وَالحَقِيقَةُ أَنَّنِي لَمْ أَتَصَوَّرْ أَنَّ فِينَا ــ وَلَوْ مِنْ جِيلِ الشَّبَابِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ ــ مَنْ لاَ يَعْرِفُ هَذَا الشَّاعِـرَ اللِّيبِيَّ الإِحْيَائِيَّ المَرْمُوقَ، وَلَعَـلَّ ذَلِكَ يُشِيرُ فِي نَظَـرِي إِلَى وُجُودِ هُوَّةٍ سَحِيقَةٍ أَوْ فَجْوَةٍ كَبِيرَةٍ بِيْنَ الأَجْيَالِ ــ فِي هَذَا الجَانِبِ ــ مِمَّا يَدْفَعُنَا إِلَى التَّسَاؤُلُ عَنِ الأَسْبَابِ الكَامِنَةِ وَرَاءَ هَذِهِ القَطِيـعَةِ الثَّقَافِيَّةِ غَيْرِ المَقْصُودَةِ إِذَا صَحَّ التَّعْبِيرُ، فَعَلَى الرُّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا كُتِبَ عَنِ الشَّاعِرِ المَهْدَوِي ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ مِـنْ أَبْحَاثٍ وَدِرَاسَاتٍ مُتَخَصِّصَةٍ وَغَيْرِ مُتَخَصِّصَةٍ، تَنَاوَلَتْ تَجْرِبَتَهُ الشِّعْرِيَّةَ، وَحَيَاتَهُ، وَهِجْرَتَهُ إِلَى تُركِيَا عَـامَ 1924، ثُمَّ نَفْيَهُ إِلَيْهاً قَسْـراً عَـامَ 1936 مِنْ قِبَلِ سُلْطَاتِ الاحْتِلاَلِ الإِيطَالِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الأَجْيَالَ المُعَـاصِرَةَ مَا زَالَتْ مُتَعَطِّشَةً لِمَعْـرِفَةِ المَزِيدِ عَـنْ شَاعِرٍ هُـوَ “أَشْهَـرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَـلَمٍ”. وَإِذَا أَرَدْنَا بِالْفِعْـلِ رَدْمَ هَذِهِ الهُـوَّةِ السَّحِيقَةِ، وَمُعَـالَجَةَ هَذَا القُصُـورَ قَبْـلَ أَنْ يَتَحَـوَّلَ إِلَى ظَـاهِـرَةٍ (غَيْـرِ صِحِّيَّةٍ)؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا تَسْلِيطَ مَـزِيدٍ مِنَ الضَّوْءِ عَلَى ذَلِكَ الشَّاعِـرِ فِي المَنَاهِـجِ الدِّرَاسِيَّةِ، وَعَـرْضِ نَمَـاذِجَ مِنْ شِعْـرِهِ فِيهَا، وَدِرَاسَتَهَا بِتَمَعُّـنٍ، وَبِمَا أَنَّ الإِعْـلاَمَ هُوَ لُغَـةُ العَـصْرِ، فَلِمَـاذاَ لاَ نُقَـدِّمُ عَمَلاً دَرَامِيّاً (سِينَمَا أَوِ تَلِفِزْيُونَ) يَتَنَاوَلُ حَيَاةَ شَاعِرِنَا الكَبِيرِ، وَيُعَرِّفُ بِإِبْدَاعَاتِهِ الشِّعْرِيَّةِ، وَكِفَاحِهِ الوَطَنِيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ العَمَلِ يِنْطَلِقُ مِنْ وُجُودِ نَصٍّ مُتَكَامِلٍ “قِصَّة وَسِينَاريُو وَحِوَارٌ”، وَفَرِيقٌ فَنِّيٌّ جَيِّدٌ، وَمُخْرِجٌ مُتْقِنٌ، إِضَافَةً إِلَى الإِمْكَانِيَّاتِ المَادِّيَّةِ اللاَزِمَةِ لإنجاز مِثْلِ هَذَا العَمَلِ، وَهَذِهِ دَعْوَةٌ لِكُلِّ المُخْتَصِّينَ مِنْ إِعْلاَمِيينَ وَمُثَقَّفِينَ لِمُنَاقَشَةِ هَذَا الطَّرْحِ بِجِدِّيَّةٍ، وَتَوْفِيرِ الآلِيَّاتِ الكَفِيلَةِ بِتَحْقِيقِ هَذِهِ الغَايَةِ النَّبِيلَةِ، فَحَيَاةُ أَحْمَد رَفِيق المَهْدَوِي هِيَ سِيرَةُ وَطَنٍ، وَقِصَّةُ مَدِينَةٍ حَمَلَتْ لَهُ حُبّاً كَبِيراً، فَبَادَلَهَا الحُبَّ، فَتَعَلَّقَ بِبَنغَازِي حَتَّى فِي سَنَوَاتِ غُـرْبَتِهِ وَمَنْفَـاهُ، إِلَى أَنْ ضَمَّهُ تُرَابُهَا، وَاحْتَضَنَهُ بِدِفْءٍ، فِي قِصَّةِ حُبٍّ سَرْمَدِيَّةٍ تُرْوَى لِلأَجْيَـالِ.
كَمَا أَقْتَرِحُ عَلَى كُلِّ المُؤَسَّسَاتِ أَوِ الجِهَاتِ الثقَافِيَّةِ المُخْتَصَّةِ فِي بِلاَدِنَا (وَفِي مُقَدِّمَتِهَا وَزَارَةُ الثَّقَافَةِ وَالمُجْتَمَعِ المَـدَنِيِّ) أَنْ تُعِيدَ نَشْرَ أَعْمَالِ شَاعِرِنَا المُبْدِعِ ضِمْنَ المَشَارِيعِ الثَّقَافِيَّةِ الرَّائِدَةِ، الَّتِي تَقُومُ بِهَا مِثْلُ تِلَكَ المُؤَسَّسَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ التَّعْرِيفِ بِإِبْدَاعَاتِنَا وَمُبْدِعِينَا لِمَنْ لاَ يَعْرِفُهَا، فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَلِمَنْ لاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ مَنْ تُظْهِرُهُ لَهُمْ شَاشَاتُ التَّلْفَزِةِ المُبْهِرَةِ، وَلاَ يَجِدُونَ وَقْتاً حَتَّى لِنَفْضِ الغُبَارِ عَنِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ، فَضْلاً عَنْ قِـرَاءَتِهَا وَإِظْهَارِ مَا بِهَا مِنْ كُنُوزٍ، وَأَحْمَد رَفِيق المهْدَوِي هُـوَ بِالفِعْلِ كَنْزٌ شِعْرِيٌّ ثَمِينٌ، يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ المُثَقَّفِينَ العَرَبِ فِي المَاضِي وَالحَاضِرِ، حَيْثُ تَنَاوَلُ العَـدِيدُ مِنَ الكُتَّابِ العَرَبِ وَاللِّيبِيينَ شِعْـرَ المَهْدَوِي وَشَخْصِيَّتَهُ، حَيْثُ كَتَبَ عَنْهُ عَبَّاس محمُود العَقَّاد، وَالصَّادِق عَـفِيفِي، وَطَهَ الحَاجِـرِي، وَخَلِيفَة محمد التِّلِّيسِي، وَتَرَاوَحَتْ كِتَابَاتُهُمْ عَـنْهُ بَيْنَ التَّقْرِيظِ وَالانْتِقَادِ، وَإِنَّمَا حَدِيثُنَا اليَوْمَ عَنِ المَهْدَوِي مُجَـرَّدُ تَذْكِيرٍ بِصَـوْتٍ شِعْرِيٍّ رَصِينٍ، مُرْهَفُ الإِحْسَاسِ عَمِيقُ الوِجْدَانِ، كَـانَ بِحَقٍّ المُعَبَّرَ الأَوَّلَ عَنْ حَـالِ وَطَنِهِ بِآمَالِهِ وَآلاَمِهِ، وَتَجَلِّيَاتِ وَاقِعِهِ المَعِيشِ آنَذَاكَ، فَعَمِلَ عَلَى تَشْجِيـعِ أَبْنَاءِ لِيبْيَا الشُّرَفَـاءِ عَلَى تَحْطِيمِ القِيُـودِ، الَّتِي يَرْزَحُـونَ تَحْتَهَا، وَتَحْرِيرِ الوَطَنِ مِنَ المُسْتَعْمِرِ البَغِيضِ، وَيَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى الانْطِـلاَقِ مِنْ رِبْقَةِ المَظَـالِمِ، لِيَبْعَثَ فِي النُّفُـوسِ رُوحَ الغَيْرَةِ وَالأَمَـلِ وَالتَّحَـدِّي، بِكَلِمَاتِهِ الدَّافِئَةِ، وَقَصَائِدِهِ الرَّائِعَـةِ، المَلِيئَةِ بِذَاكَ الحِسِّ الوَطِنِّي الرَّفِيـعِ.
من روائع الشاعر أحمد رفيق المهـدوي
رحيـلي عنـك عـزَّ علـيَّ جـدّاً وداعــاً أيُّهـا الوطـنُ المُـفـدَّى
وداع مُفـارقٍ بالرغم شــاءت لهُ الأقـدارُ نيــل العيـش كــــدّاً
وخيرٌ من رفــاه العيـش كــدٌّ إذا أنــا عـشـتُ حُـرّاً مُستبــــدّاً
سأرحلُ عنك يا وطني وإنِّـي لأعـلـمُ أنَّنـي قــــــد جـئـتُ إدّاً
ولكنِّي أطعـــتُ إبـــاء نـفـسٍ أبتْ لمُرادها في الكـون حــدّاً
عُـلُوُّ النَّفس إنْ عظُمت شقاءٌ يلـذُّ لِمَــنْ إلى المَجْـــدِ استعـــدّ
إذا رُزق الفتى نفساً عـزُوفـاً تهـاون بالخُطُـوب وزاد جــــدّا