غادة البشاري
لطالما اجتهد الَبْحثُ الأدبيّ عامةً والشعريّ خاصَّةً منذُ زَمنٍ في اسْتِكناهِ خَلْخلةَ العِلاقةِ بين المُلقِي والمُتلقِّي ، و خَبْوِ حرَارتِها ، و اهْترَاءِ مَلامِح الجّسر التَّوافُقيّ الواصِل بيْنهما ،و كذلك الاغْتِراب الضّارِب جُحودِه بين صَوتِ الكلِمَة المُلقاة و خَرسِ صَداها في الذّاتِ المُتلقِّية، وحيثُ إن الكِيميَائيّة الشِّعْريّة لا تتَجَانسُ إلّا بالتّمازجِ الكافِي ،والانْدِماجِ الوافِي لعُنصُريّها الأسَاسيين ألَا وهُما ” المُرسِلُ والمُستقْبِلُ ” ، -وقد أكدّ ذلك ابْن قُتيبة فِي كِتابه ” الشِّعر والشُّعراء ” ،حين بَلَغَ بِدَرجةِ جَاذِبيةِ المُلقىَ للمُتلقِي ، حُدودَ انْصهارِ الأخِير ،وذوبَانَ نفسِه في جَماليات ما رَنا إلى مَسْمعه واسْتقرّ بوجْدانِه ، إِذْ قال ” أشْعَر النَّاسِ من أنت في شِعره حتى تفرغَ منه ” – كان لِزاماً علىَ النُّقاد و المُفكِّرين قَرعَ أجْراسِ التنْبِيه ، و مُحَاولة اسْتنباطِ عِلَّة العُزوفِ مِن بَواطِنها، وتبَيْنِ أصْداعِ الوصْلِ ، ورأبِ مَواطنِها.
و قد يُعزَى هذا النفُورُ القائِمَ و ذاكَ الفتُورُ الدّائمَ إلى حَالاتِ الفصْلِ التّام ، والتي ربما تحدثُ في اللّاشُعور الإبْداعيّ ، أثناء مُعايشةِ التّجربةِ الشِّعريةِ منذ اسْتهلالِها ، وهي ما أطْلقتُ عليها حالاتِ ” الانْفِصَام التّعبيريّ ” وهذا المصطلح إنما يسعى _ في مضمُونه _ إلى تفسِير مَاهية العِلاقة ذات الصِّلة بين ذائقةِ المُتلقي وحُدوث الشِّعرية.
ومِن ثَمَّ مُلاحقةِ أسْبابِ إقصَاء مَنابضِ الإبْداع، وإذْكَاء الذَّات المُتلقية بما يَجْعلها أشْسَعَ اِحتداماً بين المَوجُود والمفْقُود ، والحَاضِر والمُستحضِر ، مما يَركنُ بها إلى رفضِ هذِه التّناقُضات ، و زجْرِ المُضاداتِ التي تُطوقُ أرجَاء البوح المسْتعار ، وهذا على عكس ماكان سائداً في عهدِ الأدبِ القديم ، الذي كان يَعْظُمُ فيه حُضورُ المتلقِي ، باِعْتبارِه جزءًا رئيسيّاً من الحالةِ الشِّعرية ، بل وكانت معَايير تقْيِيم الشّاعر ونصِّه عادةً تُعزى إلى اسْتحسَان السّامع و تذوْقه وِفْق سَلِيقتِه وخِبرَتهِ السَّماعِية.
وفيما نحنُ نتَغورُ مع هذا المُصْطَلح الأدبيّ فِي قَرارِ المُسبِبَات ، و نَجتهدُ فِي تعْلِيل نُزُوحِ المصَبَّات ، كَي يتَسنَّى لنا مُلامسة قَلْبِ قَضِية العُزوف الرّاهِنة ، و تكثِيف المَباحِث لاسْتدْراك مَخارِجِها الآمِنة ، نَجدُ أنفُسَنا فِي مُواجَهة مع تفسِير اسْتيحَائي لهذا المُصْطَلح ..
_كيفَ يَكُونُ الانْفِصام التعبيريّ ؟
_ الإنفِصَام التعبيريّ هو دَاءٌ إبداعيٌّ يُصِيبْ عَصَبَ الحِسِّ لدَى المُبْدِع ، فيَعْملُ علَى الفَصلِ التّام بيْنهُ وبَيْن عَوالمِ الأرْواحِ المُكتظّة مِن حَوْلهِ ، أو بَيْن ذَاتِه المُتشظِّية و مَراكِز الإبْداعِ فِي دِماغِه ، مِمّا يُؤدِّي بِه إلى حالةٍ مِن ” الشِيزُوفْرينيا ” في التَفكِيرِ و التّعْبيِر أثناء تخَلُّق نَصِّه وتنْشِئته الأولَى _
فَعلى سبِيل التنَاولِ نَجِد أنّ الانفِصام في الجَوهَرية الضِّمْنيّة ” المَعنى ” ، هو ذاكَ الانفصام الذي يكُون بين التصَوّرات والرُّؤى التعْبِيريّة ل “المُرسِل ” ،و تلك الحَلقَة الضَّيْقةِ و المُخنَّقةِ التِي يَدُور بها “المُستقبِل” ، بمعْنى اِغْترَاب الشّاعر عن مدارات الحياة اليومية للآخر ، و التّستر على عَوْرات المَعيشَة ، وأوجَاع الشّارع ، و تَوْليف ما قَد تُنْشزه شَراسِة الطبيعةِ الحَياتيةِ ، وذلك بمُسَاندَةِ كثَافة تَعدُّدِية مِن مبْنياتِ النّص الأدبيّ گ ” المجَاز ، التّخييل ، الاسْتعَارة ، الكِناية ، الاقْتبَاس ، والتّناص وغيرها من الصّوائِغ البَديعية ” ، حيث أنّ هذه الهُوّة الفَسِيحة بين مَطْمحِ وجْهَيّ العُملة الشِّعرية _ مُبدعاً ومُتذوقاً _ ، وهذا الاسْتِعْلاء النَّصيّ عن رُوحِ الدَّلالة الحاضِرة ، واسْتدْعاء المُهَجّن مِنها ، بمَقدُوره لَجْم رُوح الإنْصَات والإسْتِمتاع لدَى المُستقبِل ، بَلْ وبثّه أوْزاعاً من الرُّكُود الشَّغفيّ مِمّا يَصِلُ بِه إلَى الخُمُول التَذوقيّ، وهذا ما يُوقِعهُ لا إرَاديّاً أسِير تِلك المُفارقَةِ المنْظُورة بين ما يَسْتَصْرِخُه فِيهِ واقِعُه و ماتُدبِّجُه يَراعاتُ الصَّفْوة فِي مُجتَمعِه.
ونقِِيسُ علَى ذَلك أيْضاً الانفِصام في المَظهَريّة أي ” البُنيَة” ، وهو من أهَم أسْباب العُزوفِ أيضاً ، و الذي يَدْفعُ بالقَصيدِ لِلتموْقعِ تحت طائِلَة أحَد الغَزْوين أولاً : التَّنَاول الإِرْثيّ لهَيمَنة المُعجَم اللّغويّ على تدَاولِية القَصِيد في شَتّى نِداءاتِه و نَبْراتِه ، وتَكليف البُنية اللّفْظية – باعْتِداِدها سِرَّ المَركَزيّة الشِّعرية – إدَارة الكَيانِ الإبْداعيّ ، وتَجاهُل رُوحِ النّص المعنويّة ، فِيمَا يُخلخِل مبَادِئ العَقِيدة الشِّعرية لدَى مُعتَنِقِيها مِن العَامَّةِ ، ويُصيُّرهَا رَهِينة فئَة فِكْريَّة نخْبَوية مُعيّنة ، و ثانياً : الغَزو التَّأثُري الشَّائِك للكلِمات والعِبَارات التي تُحاكِي لغة الشّارع، وتَستَجِيب لأهْوائِه ونَزعَاتِه و رَوافِد بيئَته ، فِي نظْرةٍ اِسْتِحْدَاثيّة مُتدنِّية ، كهَزِيمَةٍ سَاحِقةٍ لِلُغَةِ الهَيكلِ النَّظْمِيّ والتنْظِيمِيّ للنص ، مما يُساهمُ في ضَياع المضمُون الفِعليّ والفِكرة المُستهدفة ،تَبعاً لضَياعِ اللّغة الُمتأدِبة و رَكاكة الأسْلُوب والتّعبير .
ثم إن هُناك أيضاً ” الانفِصام الذاتيّ ” للروحِ المُبدعَة بين فلسَفة الإِذعَان الرُّوحية _ وفقَ أبجديّات مُغايرة لمنْطَقَةِ الحَاضِر ” كالمُغالاة في التّفاؤل أو التّشاؤُم على سَبيل المثَال ” _ وبين التَّنكرِ الحَاد لما يُغالب النفسَ ويقضُّ وجْدانَها، ممّا يجعلها تُسخرِ تفاعُلاتها التَّصوُّرية والإبداعيّة ، وفقَ ضَمِير إبداعيّ مُستَعار ، ومُنافٍ للحَراك الثَّائر في دوَاخلِها ، وهذا بِدوْره مايُغذِّي رَداءةَ المُنتج الأدبِي ،سَواء مِن نَاحِية سُوء التعْبِير و الإسْراف فِي التصوير – تَسَتراً على اللّامنْطِق _أو مِن ناحِية استِشْعار الإِدْلاء * ،والاسْتِدعَاء الجبريّ لمعايشة النص ، ما يُظهر إرتباكية المُبدع ، وتعثر إلقَائه ، مما يقف حَائلا بيْنه وبيْن تذَوقِ واسْتِساغةِ المتلقي له ،
وعلى نحوٍ آخر فهُناك الانفِصام التعْبيريّ في البُعد الزَّمنيّ ،وهو مايمكن التّعبير عنه ب ” التعَصُّب الثقَافيّ ” ،أي انحِسار الطّاقةِ الإبداعِيةِ دَاخِل كَونِيةٍ ابستمُولوجيّة مُنغَلقة وانْعِزالية ، ذات إيدُولوجيّة ثقَافية و فلسَفية حَادة التّمَركُز ، وهذا الانْفصَام يقفُ بِمُنتأى صرِيحٍ إمّا عن نظَريّة المُحاكَاةِ الأدَبية وانْفِعالاتِ التّأَثرِ والتّأْثِير دَاخِلها ، أو عن مُواكَبةِ المعَالِم و الظَّواهِر الحَياتِية المُتغيّرة والمُسْتَحْدثة ، وهذا مَعَ الأَسفِ ما يُصيب أغَالبة الشُّعراء في عَصْرِنا هذا ، حِين ينْزعُون بالشِّعر إلى تَأرِيخ هَويَّته الإبْداعية ، وتَجمِيدِها وفْق زَمنٍ بِعيْنهِ ، من حَيث البِنَاء والتَّركِيب واللّغة ،فإمّا يتجَاوزُون حدَّ التجذِّر في القَوْلبةِ القَـدِيمة ، إلى حيث التَّوحد فيِها واسْتِنْسَاخِها ، دون أيّ إنتَاجٍ خالِصٍ للحَاضِر ، أو علىَ العكسِ تَماماً يقومُون بتفكِيك الحُمُولة البُنيَوية لهَا ، والتَّملّص المُرِيب مِنها ، إلى خَلقِ نظَريَّات شِعرية جَديدة تحتفِي بكُل مُستحدثٍ ومستغربٍ ،غاضِّين البَصر عن أنّ الشِّعرَ هو حَالة أدَبية إنسَانية خَالِصَة ، تتجاوزُ كلّ الأزمِنةِ والأمْكِنةِ.
حيث يقول الأدِيبُ طه حُسين * ( إنّما الأدبُ الخِصبُ حقَّا هو الذِي يلذك حِين تقْرَأه لأنه يُقدم إليّك ما يُرضي عَقلَك وشعورَك، ولأنه يوحَي إليك بما ليْس فيه، ويُلهمك ما لَم تشْتمِلْ عليه النصُوص. ويُعِيرك من خِصْبه خِصْبا، ومن ثروتهِ ثروة، ومن قوتِه قوة، ويُنطقك كما أنْطق القُدماء، أو لا يكاد يسْتقر في قلبِك حتّى يتَصور في صُورة قلبِك، أو يُصوِّر قلبَك في صُورته. وإذا أنتَ تُعيده على النّاس، فتُلقيه إليهم في شَكل جَديدٍ يُلائم حَياتَهم التِي يُحيُونها، وعواطِفَهم التي تثُور في قُلوبهِم، وخَواطِرهم التي تضّطَرب في عُقولِهم.) ، وهذا ما يجعلُنا نَقفُ عند مُميزات وتَأثيِرات الأدبِ الحَيّ ، غير المَوقُوت ،الذي لا يَنتَهي بعصرٍ او بِجِيل ، إنما هو عِوضاً عن اسْتِقرَاره في وجْدان مُتلَقيه المُتذَوقين ، يَسْعى أيّضاً أن يُصْبح مُتّسعاً مِن الإلْهَام للأُدبَاء ، و دَوحاً غَنّاءً لمتَلمِّسيّ البَيان والإحْيَاء.
وفي الحَقيقَة إنّ كُلَّ نوعٍ من هَذِهِ الانْفِصامات حَقِيقٌ بالتنَاولِ المُفصّل والبَحثِ الجِّديّ ، ولا يتوقفُ البَحث هاهُنا ، حيثُ أن الانفصَاماتِ في التعْبِير ولغةِ المخَاطبة كثيرةٌ ومُتعدِّدةُ المآخِذِ ، وهي ماوَراء هشاشة الصِّلة بين الخِطابِ والمُتلقِي ، وعدم تحْقِيق الأثرَ الموْسُوم فيِه ، و بِما أنّ الشّعر على يَدِ أرسطو تَحْول من مَنظُور الإنْشاء البُنيَويّ الصّلد إلىَ مَنظُور فلسَفةِ الإبدَاع والابْتكَار ، ومِن مَدلُول الحَصْريّة إلى مَدلُول الكُليّة ، كانَ حَريّاً بالشّاعر ارتِكابُه لإنْسَانيّة الشّعر، و المُخاطَبة – فنياً وحسياً – للذّاتِ المُتذوْقة له.
____________________