المقالة

كلاوديو بن ميركو

على شاطيء مرباط بمصراته كان ثمة صخرة. الصخرة كانت مدببة ويصعب الجلوس عليها، والسقوط منها في الماء كان خطيرا. تلك الصخرة عرفتها مصراتة في ستينيات القرن الماضي بصخرة ميركو.

ميركو كان إيطاليا. لم يكن من الفلاحين الطليان الذين كان يعج بهم ريف ومزارع مصراته. لم يكن من ملاك المزارع ولا المصانع ولا المحلات أو الشركات التجارية. كان حرفيا ماهرا محله بالإيجار وبيته كذلك. كان كادحا حقيقيا، وتخصص في إصلاح وصيانة الراديوات والمسجلات. كان محبا لصيد السمك، ولذا كان يمضي ساعات طوال متشبتا بسنارته على صخرته المدببة الخطرة بشاطيء سيدي مرباط.

ميركو الكادح الماهر كان له ابن وحيد هو كلاوديو. كان رفيقنا وصديقنا الذي لم نره يوما إلا واحدا منا، ولم نشعر بأنه لم يكن من مصراته وأنه ليس حتى من ليبيا. كان يلعب ألعابنا ويغني أغانينا ويتشاجر بطرقنا وأساليبنا في الشجار ويشتم بشتائمنا. لم يكن أحد بقادر على تمييزه عنا. فحتى وسامته المتوسطية كانت مألوفة في شوارع مصراتة تلك الفترة.

كلاوديو ولد في مصراته وكبر بها ولا يعرف غيرها مدينة له. لذا كان يتحمس لناديها الأهلي ويرى في “كريم الوش ” حارس المرمى و “الحمايمي” و “محمود الضراط ” أبطاله الأثيرين. كان يرقص على المزمار المصراتي الرائق و لانراه مع الطليان إلانادرا. فلقد كان منا ومثلنا تماما. تحمس كلاوديو لسبتمبر وسقوط المملكة وإعلان الجمهورية وقص من شجرة غصنا كبيرا كما فعلنا وسار وسطنا هاتفا للعروبة والإسلام.

كلاوديو الليبي لم يدرك، ولا نحن أدركنا، أنه ليس منا وأن الثورة والنظام الجديد لايخصانه، بل جاءا لطرده من البلاد كمستعمر لنا وللبلاد. كلاوديو لم ينتبْه حتى إحساس بسيط ولم تساوره أي مخاوف على مستقبله الليبي إلا لحظة إعلان العقيد القذافي عن طرد الطليان من البلاد. قبل تلك اللحظة كان كلاوديو بمصراته وأمام مدرستها الثانوية وسط الليبين الهاتفين بالثورة والحرية، وكان يهتف معهم بحماس شديد ليتوقف في تلك اللحظة مصدوما ومنذهلا، لحظة إعلان العقيد القذافي عن طرد بقايا الفاشست الطليان كما أسماهم. في تلك اللحظة تلقى كلاوديو رصاصة بقلبه الليبي وانسحب من وسط تلك الحشود الهائجة جريحا نازفا كل حياته الليبية.

كلاوديو وغيره بالتأكيد الكثير من مواليد ليبيا الأجانب يطرح ماحدث لهم العقدة الليبية والموقف من الآخر ومن الشريك في الوطن وحق المواطنة. فالليبيون ظلوا يصرون على عقيدة “توراتية” متخلفة تمنح المواطنة بالجينات وعبر الوراثة البيولوجية ولا ترى في الوطن إلا مرابع قبيلة وكل ذلك مناقض تماما لمفهوم الوطن والمواطنة بمعناها الحديث.

الليبيون لم يكتفوا بطرد ذوي الأصول الأجنبية فقط، بل توسع مفهومهم للأجنبي والمستعمر والدخيل ليشمل ليبين مثلهم، فبدأت عقيدة تطهير المدن والقرى وحتى البراري وتحريرها من الذين لاترجع أصولهم إلى قبائل تلك المدن والقرى والبراري، ليكرسوا أن الوطن ليس إلا وطنا للقبيلة.

كانت القبلية الليبية قد ربت أبناءها على هذه العقيدة رغم كل مظاهر التحديث الزائفة التي لبستها، فخرجت مهندسيها وأطباءها وشعراءها وراقصيها وسياسيها وضباطها وجنودها، وأخرجت مطابعها جرائدها وكتبها وأطلقت تلفزيوناتها وراديوهاتها من أجل تحرير مدينة القبيلة وقراها وبراريها من دخلاء القبائل الأخرى، لتشرد آلاف الليبين من أجل وطن قبلي لاتشوبه شائبة بيولوجية، ومن أجل عرق قبلي نقي.

على هذا النحو يضرب الليبيون مفهوم المواطنة الحديث بمجرد طرحه للنقاش، ويرسخوا عمليا مفهوم مواطنتهم المتخلف.

_______________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (13)

المشرف العام

عصر الكهف الرقمي .. الحرية في زمن كورونا

فريدة المصري

رياحين تعبق برحيق الفنّ وذاكرة اللّون وتبشّر بقيم الوطن والحريّة

المشرف العام

اترك تعليق