العربي الجديد (حوار: ميسون شقير)
يتحدث كما تتحدث قصائده، بصوت هادئ ولغة شفافة، يقف في المسافة بين الروح وظلها، تطل من بين كلماته ذات شاعرة نقية، وتجربة ثقافية حقيقية، وسجن لعشر سنين في سجون القذافي. إنه الشاعر الليبي محمد الفقيه صالح الذي له تجربة شعرية طويلة، وبعيدة عن الأضواء، وغير مهتم بالكثرة على حساب النوع و”الضرورة الشعرية”، لذلك لم ينشر، منذ بداياته الشعرية في سبعينيات القرن الماضي، سوى ثلاث مجموعات شعرية، آخرها مجموعة “قصائد الظل”. هنا حوار معه عن مجموعته الشعرية الأخيرة، السياسة، الوضع العربي العام الطاعن في الخراب:
– مفهومك للعمر متمثل بالظل في مجموعتك الأخيرة “قصائد الظل”، هل هو تلك الحكمة التي نصلها حين نقترب من أنفسنا أكثر؟
• نعم، ربما هذا الكلام فيه الكثير من الصحة والدقة، هي الحياة الطويلة التي تحولنا كالحصى على الشواطئ، وتصيرنا بفعل كل هذا الموج الذي لا يتعب، إلى حجارة أنعم وأصلب، فكلما ابتعدت بنا الحياة استطعنا الاقتراب من أنفسنا أكثر، ولعل وجودي في بلد جديد جميل وأليف مثل إسبانيا، جعلني أجيد قليلاً هذا الاقتراب، وجعلني أمضي إلى شيبي بكل حب وقبول، وربما أيضا سمح لي أن أواجه أجمل هزائمي، وهي أني تحولت إلى جد لحفيد وليد، إن هذا التحول ليس مجرد لقب، هو تحول حقيقي في شخصياتنا، تحول في نظرتنا إلى أنفسنا، في مسؤوليتنا أيضا اتجاه كل ماضينا، واتجاه الحاضر، واتجاه ما بقي من المستقبل، إن هذا التحول بحد ذاته، يدخل في علاقتنا مع الظل، فهو يدخل في كيفية إنتاجنا لظلنا، وفي كيفية إنتاجه لنا، الظل الذي هو عمق فلسفي صوفي لعلاقة شخصيتنا بنفسها، ولعلاقتنا بالضوء الذي يشكل ظلال شخصياتنا، وكيف يكون الضوء هو سيد ظلنا الوحيد، وكيف تخسر هذا الظل في الظلام.
– برأيك ما الذي فعله السجن الطويل، بكل عتمته، بهذا الظل؟
• قد لا تصدقين أنه في السجن، وأتكلم بشكل خاص عن سجن الرأي الذي عشته لمدة عشر سنوات في سجون القذافي، وبرغم كل الخوف واليأس والقهر، وبرغم انعدام الأمل، وخاصة أن التصفية الجسدية كانت تنتظرنا في كل مطلع فجر، وبالرغم من إحساس الحنين القاتل، وإحساس الفقد الذي يتحول إلى وحش يبدأ بأكل أعصابك، بالرغم من كل هذا، تتولد في داخل سجين الرأي رغبة هائلة بالكتابة، والتي أعتبرها المعادل الوحيد الذي يمتلكه ويجعله قادرا من خلاله على فعل الحياة، تتحول الكتابة إلى فعل وجود، إلى نوافذ، وإلى سماء، وتصير هاجسك الوحيد، وبالرغم من عدم توفر أية مواد لحفظها، فلا ورق ولا أقلام، فقد كنت أحاول أن أكتبها في ذاكرتي، وأن أرددها في كل ساعة مع نفسي، وحين اكتشفنا إمكانية الكتابة بقصدير ورق السجائر على ورق السجائر الوحيد الذي كان يصلنا، فقد بدأنا بمحاولة حفظ بعض الكتابات التي عادوا واكتشفوها وسرقوا معظمها، ولكننا مع هذا عدنا لنكتب كدفاع يومي عن الظل الذي نمتلكه، نكتب لنخترع ضوءا يرانا، ضوءا يحمي ظلنا من كل هذه العتمة، نعم السجن هو معركة مع بقاء هذا الظل، معركة طويلة لإحيائه، وهو ينازع في ذواتنا، وأعتقد أنني نجحت تقريبا حين خرجت من السجن، بالصدفة طبعا، ومعي مجموعتان شعريتان، وخاصة المجموعة الثانية “حنو الضمة سمو الكسرة”، والتي كانت مليئة بقصائد أخذت طابع قصيدة التفعيلة وذلك لكي يكون من السهل علي حفظها، وقد تحولت القصائد إلى أجنحة وهمية نخترعها كي نطير بها إلى الأماكن والقلوب التي تنتظرنا، وننتظرها، وهناك قصيدة أحب دائما أن أذكرها والتي اسمها “كان يمكن أن لا أكون” وفيها تحدثت عن حقيقة ورود اسمي مع الذين كانوا محكومين بالإعدام لدى القذافي، ومن ثم تأتي هزيمة الجيش الليبي في تشاد لتغير المزاج العام في البلد، ولتجعلهم يعفون عنا، وبالتالي لتنقذني من موت كان شبه مؤكد، لذا فأنا أقول فيها كان يمكن ألا أكون، وألا أكمل كل تفاصيل حياتي بعدها، لذا فقد كان يمكن فعلا ألا يبقى مني سوى ذاك الظل الصغير، الظل الذي حملني وحملته في بدايات الطفولة والشباب.
– هل يمكن لمن عاش كل تفاصيل هذه التجربة، أن يعيد إنتاج أدب خال من السواد؟
• لا أدري إن كنت أنا المخول بالإجابة على هذا السؤال، أم أن القارئ هو الذي عليه أن يقدم الإجابة، بعد تعاطيه النقدي الحيادي مع ما نكتب؟ ومع هذا فأنا أعتقد أن هذا السجن لا بد أن يترك سجنا ما في نصوصنا، وأنه مهما حاولنا الهروب منه، فإنه سيعود ويعيد إنتاج نفسه في كتاباتنا، ولكني مع هذا أومن بالحياة وبانتصارها الدائم، وأومن بقوة الضوء وبانتصاره على العتمة، وبقدرته على التسلل من أضبق الثقوب، لذا فقد حاولت فعلا أن أقدم ما يحب أن يقرأه الآخر، لأن المتعة هي شرط أساسي من العملية الإبداعية، ومن العلاقة بين المبدع والمتلقي، ولهذا فقد كنت مقلا بما نشرت من شعر، ودائما يسكنني الخوف من أن يكون السجن الذي عشته قد سجن بعضا مني بشكل دائم، وأنا أبدا لا أتمنى أن أسجن قارئي معي، بل على العكس أريد لقارئي أن يجد دائما سماء جديدة يحلق بها حين يقرأني.
– حين نقرأك نجد حضورا كبيرا للزمان والمكان، برأيك هل يستطيع الشاعر أن ينجو يوما منهما؟
• إن المكان والزمان حالتان متداخلتان جدا، وكلاهما أب ووليد للآخر، ومع هذا فإن المكان بالنسبة لي هو بداية علاقتنا الوجدانية بكل ما حولنا وعلاقتنا الحميمة بالناس، وعلاقتنا بطريقة حياة هؤلاء الناس، إن المكان هو وعاء كامل، وهو حضن أساسي فيه تتشكل ملامح شخصياتنا الأولى، وزمن الطفولة وبدايات الشباب هو أيضا الزمن المؤسس لكل شخصياتنا، وهو الزمن الذي كنا فيه نمتلك براءة سنعيش كل حياتنا ونحن نفتقدها، وكنا أيضا نمتلك أحلاما وثقة سقط معظمها من بين أصابعنا على طول طريق الحياة. طرابلس هي بالنسبة لي كل ذلك، هي الزمان والمكان الذي تعملق في روحي حين اقتلعت منها، ووضعت في ذاك السجن، لأعيش أول حالة فطام قاسية جدا على الروح، ولأعيد إنتاجها في كل ما كتبت، وأعتقد في كل ما سوف أكتب، لقد ولدت وكبرت في طرابلس المدينة القديمة، والتي هي أشبه ما تكون لمتحف حضاري تاريخي، لأنها المدينة التي عرفت كل الحضارات بدءا من الفينيقيين، ثم الرومان، ثم الحضارة العربية، وبعدها حتى العثمانية، وكلها تركت آثارا فيها، وفي روحي أيضا. بدون طرابلس أنا اليتيم دائما. وقصيدتي يتيمة أيضا. ولا أعتقد أنه يمكننا، كمبدعين، أن ننجو من سطوة المكان والزمان على منتجنا الأدبي.
– لمن تدين بتكوين وعيك الثقافي والإبداعي؟
• نحن جيل السبعينيات العربي ، نحن جيل كامل بدأ وعيه يتشكل على أيدي عمالقة النهضة الفكرية والأدبية القادمة من الشرق العربي، فقد بدأنا وعينا على قراءة بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبعدها تكفل كل من محمد الماغوط ورياض الصالح الحسين بالباقي، ولعل قصائد محمود درويش هي التي كانت تشكل تلافيف أدمغتنا، وقد أثر فينا كثيرا الأدب الفلسطيني بشكل عام إذ إن الجرح الفلسطيني شكل لنا أهم أعمدتنا الروحية العميقة، وكنا نحس أن حياتنا تستمر باستمرار دفاعنا عنه، لقد قرأنا كل ما كتب غسان كنفاني وحفظنا كل رسوم ناجي العلي، كما أن الكتاب السوريين المميزين جدا كانوا قد استطاعوا الوصول إلى كل العقول العربية من خلال تقديمهم لتجارب رائدة من الناحية الفكرية ومن ناحية الحداثة الشكلية، فزكريا تامر في القصة وحنا مينا في الرواية، وسعد الله ونوس في المسرح، كلهم كانوا من المؤثرين في نمونا الفكري والحسي، ولكن الاسم الذي لا أنسى أبدا تأثيره هو الكاتب السوري المهم جدا، والجريء جدا، والذي لم يأخذ حقه من الحياة، ومن الشهرة التي يستحقها، هو ممدوح عدوان الذي قرأته بشغف كبير، والذي رأيت فيه مثالا لكاتب قادر على الكتابة، وبعمق ومعرفة تامة بما يريد أن يقول، وذلك في الشعر، والمسرح، وفي المقالة، وفي الترجمة، وقد كان قادرا على المواجهة، وقادرا على تقديم ذاته المثقفة ضمن شحنات عاطفية صادمة بحقيقتها وبتأثيرها، في الحقيقة نحن في المغرب العربي بشكل عام ندين للمشرق العربي بالريادة في موضوع دخول الحداثة في المعرفة، مثلما ندين له وبشكل كامل في طرح المشروع النهضوي العربي، لقد وعينا التحولات الحقيقية للفكر العربي، ولطريقة الكتابة من خلال ما كان يصلنا من لبنان وسورية، على يد مجلة شعر فأنسي الحاج وأدونيس وعباس بيضون كانوا منابع لهذه التحولات، وذلك من خلال وجود دور الترجمة للآداب العالمية، وبالنسبة لكتاباتي، فأنا أعتقد أن كل الأسماء هذه قد تركت تأثيرها في تجربتي الإبداعية، وفي تغير شكلها، فأنا أنتمي لقصيدة التفعيلة، ولكني أيضا منفتح على تجربة قصيدة النثر، في السجن كتبت التفعيلة والكلاسيك وذلك لكي أستطيع حفظها داخل السجن إذ لا يوجد أي طريقة أخرى للحفظ، ولكني فجأة كتبت قصيدة نثرية بالكامل وحفظتها ولا أدري لماذا؟ وهذا دليل على انفتاح داخلي على أي جديد، وقد رافق هذا التغيرات تحولات أعمق في كل الوعي والثقافة.
– ما أكثر ما يخيف الشاعر والمثقف الذي يعيش فيك الآن؟
• نحن أبدا لسنا بجيل محظوظ، ولا أولادنا من بعدنا، لقد كنا شاهدين وشهودا لكل التحولات، وأنا أرى أن أسوأ ما يحصل الآن، وبسبب رغبة كل العالم بإفشال الثورات السياسية التي قامت بها الشعوب العربية في ربيعها المظلوم، هو تراجع في الفكر النهضوي وعمقه الثوري الحقيقي، وهذا ليس فقط بسبب هذه الزلازل التي تصيب الآن المكان الذي كان حاملا لكل الفكر التقدمي العربي الذي كنا دائما نراهن عليه، إن وجود هذه الدكتاتوريات حرمنا من التطور الطبيعي، وخاصة لمنطقة بلاد الشام التي كانت مهيأة لقيادة حقيقية للفكر العربي، لكن الخطر الذي أخاف منه ناتج أيضا عن تحول أقدم من هذه الثورات، تحول في الفكر العربي وفي الجهة الداعمة له، هو تحول خطير جدا من “الثورة” إلى “الثروة”، هو انكسار “مركزية المثنى والأطراف”، وهذا الانكسار مرعب، فقد تحولت الحالة الثقافية منذ بدايات اكتشاف النفط لحالة مرهونة بدول النفط التي لا تمتلك إلا المال، وابتعدت عن الدول التي كانت تملك الإرث الثقافي الحقيقي، والتي كانت تمتلك روح الثورة في الأدب، مثل سورية والعراق ولبنان ومصر، لقد انتبهت فعلا ومبكرا إلى خطورة انكسار هذه المثنوية، وحاولت أن أكتب عنها، وعن المجتمع العربي الذي كان قد بدأ منذ فترة يدخل تحت قوانين جديدة وخطيرة، ولكن الأمر أصعب وأخطر بكثير من مجرد كتابات لأشخاص، والآن إن الدور الذي لعبته هذه المركزية الجديدة، وبوجود العنف الدكتاتوري، ووجود الكيان الصهوني، جعل القادم هو حالة من الرعب الحقيقي لا ندري متى فعلا يمكن أن يعود مرجعنا المعرفي والثقافي بإنقاذنا من جديد.