مدت بثينة بيدها نحو الخادمة الجاثية على ركبتيها وأفرجت عن كفها الأيمن.. أمسكت الخادمة بيدها الخشنة كفها البض الأبيض، وتمعنت فيه، أتسعت عيناها حتى كادت أن تلتهم الكف الصغير وقالت بصوت عميق «ايه يا ستي… حا تروحي بعيد وما ترجعيش».
وفي كل مرة التقي بطنط «بُسينة» – هكذا نطقت اسمها وردّده الجميع من ورائها – أطلب منها أن تحكي لي عن تلك الواقعة، بعد أن تكون قد احتضنتني بين أعطافها النقية، وقرأت على رأسي آية الكرسي ونفخت في وجهي.
قاهرية من أصول تركية… تيتمت باكراً وعاشت في كنف عمها الضابط في البحرية، تضع صورته الضبابية بالأبيض والأسود على «الشيفونيرا» كما تنطقها، مستندة على مرآة واسعة، «دا عمي.. كان زابط كبير في البحرية»، أرتفع بأصابعي نحو المرآة وأحاول أن أُدقق في ملامحه، فلا أرى إلا شاربين كثين وقبعة تغطي منتصف وجهه.
أجلس في جحرة نومها إلى جانبها وأسألها «كيف تعلمتي البيانو يا طنط بُسينة»، تحكي لي عن البيانو الأسود ذي السطح اللامع الواسع في حجرة الصالون، والمدرّسة اليونانية التي كانت تنقر أصابعه، تمسك بيدها وتضعها على ارتفاع معين وتطلب منها إرخائها والتعامل برفق مع الأصابع البيضاء والسوداء الممدة نحوها.
لم أستوعب آنذاك كيف لهذه السيدة التي تتهادى نحو منتصف العمر، بشعيراتها الصفراء المصففة بكريم «الفازلين» والمعقوصة إلى الخلف في دائرة محكمة تسيطر على كل شعيراتها الناعمة وتمنعها من الانزلاق، بإيشارب ملون ملتف حول رأسها بشكل شريط، كيف لها أن ترخي بأصابعها على آلة البيانو وتعزف ألحاناً لا أعرفها.
احتفظت «طنط بُسينة» بلكنتها ولم تستسلم للضغوط المحيطة بإحلال لهجة طرابلس بدلا من لهجة أهلها، لم تعترض ولم تبين صدا أو مقاومة، لكنها فقط لم تستسلم… سيطرت على لسانها وجمدت مخارج حروفها، و أحكمت شفتيها وطوعت كلماتها أن لا تكون إلا كما كانت يوم نطقت وتكلمت.
لم تختر بثينة الرحيل، ولم تكن تسمع حتى بمدينة غربية تمتص قطرات الملح، وكان أقصى ما وصلت إليه ميناء الإسكندرية و منتزه سيدي بشر صحبة عمها… «كان عندنا شاليه… »، «شنو شاليه؟» تسألها النسوة المحيطات بها وهن يمطن شفاههن «شن هو؟» تصمت بثينة وتدور بعينها كأنها تنبش ذاكرة وتستحضر صورا «بيت صُغير على البحر».. «آه بُراكة!» تقول إحداهن.. تضحك بثينة بصوت عال وهي ترتد نحو الخلف «لا لا لا.. مش بَراكة دا شاليه» وتتوقف عن متابعة الحديث.
كثيراً ما أراقبها وسط النسوة، اشعر بأنها لا تنتمي إليهن، تغرق في داخلها حتى تبهت شيئا فشيئا وينسين وجودها.. تنسحب بهدوء، وتبتعد.
تسليتها الدائمة راديو يجالسها على «كومودينو» إلى جانبها، تستمع إلى محطة البي بي سي، وصوت أمريكا، هو صلتها الدائمة بالعالم الخارجي، و كلما جاءت إشارة أو خبر أو أغنية من بلادها، انفجرت أساريرها دون أن تعقب عليها.
حين طرق الأزهري الطرابلسي بيت عمها، لم تُستشر، لكنها فقط أُعلمت ثم رحلت. ولما وصلت للمدينة سلموها قطعة سوداء من قماش شفاف وقيل لها «هذه بيشة باش تغطي بها وجهك».
منذ ذلك اليوم استرجعت تلك الصورة.. الخادمة الجاثية على ركبتيها، يدها البضة الممدة نحوها، يد الخادمة الخشنة، عيناها المفتوحتان تلتهمان خطوط كفها، والأوضح كلماتها «حاتروحي بعيد وما ترجعيش».
ولم تعد…
ولأنها لم تختر، فقد اختارت أن لا تكون إلا ما كانت عليه، أن لا تكون حبة ملح تذوب في بحر طرابلس. اختارت أن تكون حجر من أهرامات الجيزة، القطعة المفقودة من أنف أبي الهول، مشربية في شارع المعز، غرفة ماء عذب من النيل، عقلة قصب السكر أو قلب حبة مانجا منشاوي.. شيء صلب لا يتغير ولا يندمج بطبيعته.
تصر على طبخ أكلاتها، تتسلل إليّ رائحة طبيخها من شق نافذة المطبخ، أرتدي حذائي دون أن أعقد رباطه، أصعد سلالم السطح أقفز السور لأجد نفسي في مطبخها «شن مطيبة طنط بُسينة»، «فتة»، تذوقتها لأول مرة والتهمت الخبز المنقع في الصالصة البيضاء. قلما تستخدم الطماطم المعجون. غالبا ما تخبئ لي الفطائر المحشوة بخليط السبانخ والجبن الأبيض. لا تحب الأكل الجماعي في «المعاجن» وتتنصل بلباقة من الجلسات التي تتشارك فيها النسوة الأكل، لها مواعينها، كوبها الزجاجي و قنينة مياه بيضاء غريبة الشكل بين قنينات المياه المرصوصة في دولاب الثلاجة. تصنع كوب «الشاي بالحليب» وتعتكف في حجرتها.
مررت عليها ذات صيف، كان الليل قد أرخى سدوله في يوم قائظ دون نسمات تجفف حبيبات عرق تكاثفت أعلى شفتيّ، قرعت الجرس، انتظرت كنت أعرفها وحيدة تلك الليلة، تخيلتها تتحرك على مهل نحو الباب بقبقابها الخشبي… «مين.. مين؟».. «أني يا طنط بُسينة».. «أهلا وسهلا».. دخلت دارتها الرحبة وكالعادة احتضنتني وقبلتني وأدخلت رأسي بين أعطافها في إشارة لأن تقرأ عليّ آية الكرسي.
«بروحك يا طنط.. مش خايفة؟».
بإبتسامتها الواسعة، و انفراجة حركة يديها البيضاء البضة، «أخاف إزاي وأنا ربي معايا».
بهت خجلاً، ولم أنس في حياتي هذه العبارة.. وكيف لسيدة يعمر قلبها الإيمان، تتهجد ليلها وتعانق الله في فجرها أن لا تكون إلا مطمئنة بذكره. أتذكر جليا حجرها الأبيض المستطيل تمارس به التيمم، تفرد سجادتها تستقبل القبلة وترحل في صلاتها الطويلة إلى رحاب الله.
أنجبت لطرابلس أولاداً.. ترعرعوا في مياهها وذابوا في بحرها بيسر، لا ينطقون كلمة من لهجتها ولا يحملون من طباعها، تفرح لفرحهم وتحرص على دراستهم وتقرأ على رؤوسهم أية الكرسي كلما خرجوا أو دخلوا. لم تطلب منهم أن يكونوا إلا ما أرادوا ولم تسعى لأن تنقل لهم من بلادها إلا بعض الحكايات التي خفت تفاصيلها في ذاكرتها. هي كنبات المدادة جذورها البعيدة تمدها بالحياة.
ولم تختر المغادرة مرة أخرى، وكانت المغادرة الأبدية.. يجلس ابنها البكر عند قدميها.. يقبلهما ويتوسل إليها بقاء، لم تعد تسمع فقد طالت غربتها، لكن نظراتها التي غادرتها نظارتها السميكة تتجهان نحو من دعت إليه واسنتجدت به في غربتها فكان إلى جوارها فما احتاجت بشراً.
لم أبكِ حين وصلني نبأ رحيلها.. لكنني استسلمت لنوبة بكاء وأنا أرى نعشها يلفه رداء بنفسجي مخطط لم يلمس جسدها ولا تعرف له عقدة. تذكرت «البيشة» التي غطوا بها وجهها حين حلت بيننا، لم تنتمِ «طنط بُسينة» لنا وإن عاشت بيننا برضى ومحبة.
8 أبريل 2017