بداية لابد من التطرق للثنائية المطروحة في محور الندوة (الحداثة إبداع أم محاكاة) فإذا ما اتفقنا مبدئيا علي مفهوم الإبداع فإن ثمة خلطا واضحا في مفهوم المحاكاة التي تأتي هنا وكأنها تشي بتضاد مع الإبداع … المحاكاة مفهوم نقدي لاحَقَ الشعر خلال قرون طويلة، وهو ابتكار أرسطي كان محور معالجة أرسطو للشعر المسرحي اليوناني في كتابه فن الشعر …. حيث ذهب إلي أن المحاكاة هي القانون الذي يدير حركة الشعر بل ويذهب إلي أنه يدير أيضا فنونا كصناعة العزف والرسم ، مشيرا إلي أن المحاكاة سواء وردت في قالب شعري أو موسيقي أو رسم فإن موضوعها المركزي هو الإنسان باعتباره ذاتا فاعلة،أي محاكاة الفعل لا محاكاة الناس ،وعندما استخدمه النقاد العرب الأوائل عملوا علي تطويعه لطبيعة القصيدة العربية ، فتحول لديهم من دلالته المفهومية إلي دلالته اللغوية مستعينين بفعل حاكي لفهم كنههه ، كان المفهوم لدي أرسطو يتعامل مع الشعر الدرامي ومع تجليه علي الركح ، وروّضه العرب بشكل لا يخلو من التعسف للقصيدة الغنائية العربية ..
فتحول مفهومه المتعلق لدي أرسطو بالحكاية المستعان بها في تقديم الأعمال الملحمية والمسرحية، إلي البحث عن ظلاله لدي النقاد العرب في التشبيه والمجاز والاستعارة وغيرها من التقنيات الجمالية التي تحيل الكلام العادي إلي قول شعري. وفي المحصلة فإن المحاكاة مفهوم نقدي راسخ كان يعتبره أرسطو جوهر الإبداع، ورغم انحراف القصد عند العرب إلا أنه استمر في أذهانهم كمرجعية لمدي إبداع الشاعر في حقل التخييل الشعري.
وبالتالي سأفهم من هذا الالتباس المفهومي أن القصد من المحور هو ما إذا كانت (الحداثة… إبداعا أم تقليدا) وسأفترض أن الحداثة المعنية هي الحداثة الشعرية، وكل ما صاحبها من قلق يرجع إلي كونها مجرد تقليد أعمي لتجارب وافدة. وهذا القلق كان مأتاه الأساسي من طبيعة القصيدة النثرية التي تشبه ظاهرياً بنية القصيدة المترجمة. من هنا جاءت الشبهة، ومن هنا كان التوجس من هذه القصيدة ومن ثم الحنين إلي شكل القصيدة العربية القديمة وإيقاعها الذي تربي عليه الوجدان والأذن.
لن أذهب بعيداً في الدفاع ضد هذه التهمة أو التنظير بشأن هذا القلق. ولكن باعتباري أكتب القصيدة النثرية فإنني أفترض نفسي معنياً بهذا القلق ومقصودا بهذه التهمة، لذلك رأيت أن أقدم تجربتي الخاصة، وأعود لاستجواب ذاكرة ذلك التكوين الشعري الذي أوصلني حتي الآن للتبجح بهذا الشكل الشعري الذي اخترته للتعبير عن وجداني وتجربتي … وإذا ما أخفقت في المرافعة سأكون علي الأقل قد خرجت أو خرجتم بالاطلاع علي تجربة شاعر عاش هذا القلق من داخل العملية الشعرية نفسها، وتوجس من القصيدة وهو يكتبها.
> > >
بدأت علاقتي بالشعر وكأغلب الشعراء والغاوين مع تلك القصائد التي كنا ندرسها في مادة النصوص، والتي كان حفظها الإجباري يهبني من العنت والمقت أكثر مما يهبني من المتعة … ريما يرجع ذلك لسوء اختيار النصوص المقررة، وربما لسوء طريقة تدريسها. كنت أتساءل: لماذا الكلام مرصوف بهذا الشكل الذي يشبه طوابير التلاميذ الصباحية؟ لماذا هندسة القصيدة؟ لماذا المسطرة؟ … إني أكره الهندسة والزوايا الحادة والمنفرجة حتي في الحدائق، التي تبدو فيها الأشجار المزروعة في طوابير متناسقة كجند في ساحة. أحب عفوية الأشجار التي تختار أمكنتها في الغابة، وأحب تلك المفاجآت في الدروب المتعرجة. كيف من الممكن أن نضع نهايات متشابهة للأبيات كالمحارم علي رؤوس البنات ونقود الكلام عنوة إليها؟ كنت أتساءل فقط. غير أنه في الوقت نفسه كان يتولد لدي شغف بالشعر الشعبي، وإن كنت في تلك الفترة وبحكم سني لا أفهم أغلبه. حسنا يقول تي إس إليوت: الشعر الحقيقي هو الذي يصل إلي القلب قبل أن يفهمه السامع.حسنا مرة أخري، قال الجاحظ قبله بقرون: يستحب أن لا يكون اللفظ أسبق إلي السمع من المعني إلي القلب.
كنت أتابع برنامج الأدب الشعبي في الراديو وكان وجداني يمتلئ بذلك الإيقاع الغنائي، وتلك الجزالة العامية والقدرة علي اكتشاف جماليات الخلاء، وصراع الإنسان الأعزل مع الأمكنة الوعرة. ورغم أن الشعر الشعبي متراصف مثل قصائد مادة النصوص، إلا أنه يبدو أن تعاملي السمعي معه لم يجعلني أري هذا التراصف، حيث كان رقص الكلام أمامي ساحرا ومثيراً، وعندما قرأت الشعر العربي القديم، اكتشفت ذلك التشابه الكبير بينه وبين الشعر الشعبي، في الجزالة، في العلاقة بالمكان، في الأوزان، وفي الأغراض أيضا، رغم الاختلاف في اللغة. شدني شاعران مازلت احتفظ بديوانيهما منذ تلك الفترة؛ المعري وأبونواس. وأعود الآن لتفحص سبب هذا الانشداد، وأفكر أن الخطاب لديهما كان مختلفاً عن الشعراء الآخرين. الإخلاص للتجربة التأملية في الوجود والعدم والغربة، ونهب القصيدة من التحديق في العتمة عند المعري. والإخلاص للتجربة الحياتية الحسية، والتهكم علي الترسيمات السائدة، ومناطحة التابو، وروح التمرد الشعري، عند أبي نواس.
وبدأ يصيبني وسواس بأن الشعر الأصيل هو الذي ينتهك المسكوت عنه، ويحفر عميقا في ثيمات الوجود، ويُطوّح بأسئلة الذات في كل اتجاه. أقول هذا الكلام الآن الذي بالتأكيد لم أكن أعيه في تلك الفترة، لكن سر الشغف مازال غامضاً، وهو الشغف نفسه الذي جعلني أحب شاعراً شعبيا مارقاً، وإن كان قليل الموهبة، مثل بوالتقازة. وشاعراً حسياً مثل بوحليقة. شاعران لم يكنا في قوة سبك عبد السلام الحر، أوجمعة بوخبينة، أو أرميلة، لكن ما كان يسحرني هو استعاضتهم عن بلاغة اللغة ببلاغة الواقع، وعن جزالة المعجم بجزالة المغامرة الحسية. وجميعهم قريبون من نفسي ولسبب لم يعد غامضاً.
ربما اكتشف الآن أن نزوعهم الفطري لتحديث القصيدة كان ينبع من أصالة التعبير عن ذواتهم، كما هي، لا كما تمليه الأنا العليا،
وأدرك في الوقت نفسه أن الحداثة والأصالة شيء واحد.
> > >
النقلة الأخري كانت مع تعرفي المبكر علي كتب الشاعر نزار قباني، الذي لم يخرج عن قالب وإيقاع القصيدة الكلاسيكية، لكنه خرج بجرأة عن قاموسها، وزحزح مفهوم المحاكاة السائد قبله، واستطاع بموهبته ترويض مفردات الحياة الحديثة للحدث الشعري، كما أستطاع أن يؤجج مراهقة القصيدة بشكل يجعلها في كل زاوية من الشوارع، تتربص بالجمال الدارج، وبالعطر، وبإيقاع الكعوب النحيلة علي الرخام.
حاصرني نزار داخل شبكته السحرية، وكان يشبع نهم مراهقتي الشعرية، ويمنحني كل شيء جاهزاً … وكانت قصائده تختصر لي مسافات الخجل بيني وبين تلك العشيقة القروية. حاولت أن أقلد شعره واستعير مغامراته الفارهة، وأن أكتب عن السرير الوثير في زمن لم أكن أعرف فيه السرير إطلاقاً، وأن أزرع في قصائدي المبكرة حديقة من زهور الأوركيدا والجاردينيا والزنبق والقيقب، تلك الزهور التي لم أرها أو أشم عطرها. مع أني أعيش في قرية اسمها القيقب.
وجدت نفسي أسير هذه الشبكة الحريرية، ولم يعجبني شعر السياب ولا البياتي ولا أدونيس ولا حجازي؛ فرسان ساحة الحداثة الشعرية في ذلك الوقت، رغم أن السياب كان يذكرني بالمعري، وكأنه فينيق نهض من رماد عتمته، إلا أن سحر المعري اكتفي بالمعري.
سمعت صدفة قصائد مسجلة علي شريط كاسيت لمحمد الشلطامي، فامتلأت بخدر غريب يشبه ذاك الخدر الذي كانت تصيبني به مهاجاة أمي للرحي: (شعير في خشوم المزن… منام الرحي جايبلها) وكنت طيلة أماسي الخريف ألاحق المزن باحثاً عن سنابل الشعير في نواصيه. يا للروعة مجاز مرسل ينفي كل العلاقات السببية، لو قيل في عصر الجاحظ أو قدامة أو ابن طباطبا لاستنكروه لأنه يمثل غلوا يفسد الشعر.
كان الشجن والإيقاع ما أثارني في قصائد الشلطامي، وكان اكتشافي لشاعر ليبي يقارع رموز الشعر العربي أول تمارين عودة الثقة بنفسي. يقولون إن الشلطامي كان متأثرا بالبياتي، الذي حقيقة لم أميل إلي شعره حتي هذه اللحظة، لكن في قصيدة الشلطامي كنت أسمع رنين القصيدة الشعبية الساكنة وجداني، فكان بالنسبة لي شاعرا شعبيا كبيرا يكتب بالفصحي. أي بمعني يكتب الشعر المرسل، وهو في ذروة إصغائه لذلك الصوت البدوي الطان في داخله كمزمار في خلاء أو كزنين جندب في قيظ الظهيرة. وعندما سمعت فيما بعد قصائده العامية ما عدت استغرب الأمر.
ومن جديد بدأت بدأب علي التخلص من سحر نزار مع ولعي بقصيدة الشلطامي ومن ثم محمود درويش، الغنائي الكبير القادر علي اللعب بسهولة في بطن ثور. أقصد بطن تفعيلة الشعر العربي الذي ما برح ينفخ فيها من قريحته المتفجرة. ورغم عدم ميلي لحفظ الشعر عموماً إلا أني حفظت قصائد لنزار ودرويش والشلطامي، ولا تطلبوا مني تسميعها لأنني نسيت كل ذلك. ذلك النسيان النبيل الذي أعانني علي أن أحث قدمي الشعرية قدماً.
علي الشاعر أن ينسي ما يقرأه … يبدو أنها حكمة القصيدة التي تؤسس لملامحها وهويتها الخاصة.
> > >
عشت في ظل هذه الخلطة من محاليل الشعر المختلفة، أتمرن علي النسيان وخفق الذاكرة بشدة، حتي وقع بين يدي ديوان أحمر مجلد للشاعر محمد الماغوط، وقرأته دون توقف: يا الله … لا وزن، لا قافية، لا إيقاع محدد، ولا استعراض معجمي، لكنه يسحرني، إنه ليس نثراً مثل الذي نقرأه في الخاطرة أو الرسائل أو القصة، وأدرك في قرارة نفسي إن ما أقرأه شعراً، ولكن أين تلك المقومات المعهودة التي أنبني عليها الحدث الشعري لفترة طويلة؟ إنه شاعر بالفطرة، وهو كما يقول ليس مثقفاً ولا مطلعاً جيداً، لكنه يغامر بحساب لا يدين لشيء سوي للذوق وللتجربة، ويفتح أبواباً جديدة تركها نزار مواربة للقصيدة التي تقتفي الحياة اليومية والصور المستلهمة بعناية، وبخبرة التلصص علي مكامن الجمال في الهامش كان كأنه يسحب الشعر من جيوبه. والأهم من ذلك استخدامه الذي لا يخلو من روح سخرية لكاف التشبيه، التشبيه الذي اعتبره النقاد العرب جوهر مفهوم المحاكاة، والذي كان يعتبر الغلو فيه خروجا عن جوهر الشعر. لكن الماغوط كان مغالياً ولديه القدرة علي شحن الكاف بكل ما هو كاف لغضب أجداد الشعر. وعن طريق الماغوط كنت أتملص من أخر خيوط شبكة نزار، التي قضم خيوطها الأولي شعر محمد الشلطامي، ثم محمود درويش، الذي يقول هو نفسه: إنه خرج من معطف نزار.
ميزة الماغوط أنه لم يعطني خيالا جاهزاً ولا قاموساً ولا مغامرات أحاكيها، لكنه منحني وهو يدير ظهره لي مفاتيح الشعرية وأسرار القصيدة. قال لي: انظر حولك فإن الشعر منتشر في كل التفاصيل. فقط أطل المكوث عند كل ما يمر عليه الآخرون دون اكتراث. لا تجعل الألفة مع الأشياء تحرمك من متعة التأمل فيها. دع قصيدتك تنهال كحلم يقظة أو كاعتراف في صومعة .. أو بالأحري ككثيب رمل كل يوم يغير شكله دون أن يفقد هويته، سيف رمل يحث خطاه ببطء مثابر دون إقدام ودون غاية.
أيقظ حس الفكاهة في أكثر الثيمات حزنا، وغادر السؤال قبل أن تغريك إجابته، وصرت أمارس تمارين هذه الحساسية الجديدة، وأكتب وعيني الثالثة مسلطة علي كل ما يحيط بي، مستجيباً من جديد لإلحاح أسئلة الطفولة التي لم يجبني عليها أحد، وإعادة تلك الأسئلة شعرياً كانت باكورة ثأري من الخرس الذي أحاط بها، وعالمي القروي كان متاع القصيدة وزوادتها التي لا تنضب. أعدت اكتشاف وراد القرية ذلك الرجل الكهل الذي مرر مجونه عن طريق الشعر .. أعدت اكتشاف مرايا الصخر المبلل في الصباحات المشرقة، واستدعيت قوس قزح لفراشي، وسمعت من جديد موسيقي نقر المطر علي الصفيح، أعدت اكتشاف رائحة البطوم والشيح، ورائحة التراب الخريفي عند المطر الأولي .. وتتبعت بشغف خطي تلك البدوية الجامحة كذئبة في طريق الحطب والماء. وذلك الحدس المدسوس كبوصلة في رأس نملة عمياء.
> > >
عندما انتقلت للمدينة بقصائدي النثرية، وجدت العالم المحيط بي يتغير، فكانت الأرصفة النحيلة والأزقة اللاطمة ونار الأراجيل والشرفات الخالية وصخب المقاهي، كانت تحل مكان ذلك الأثاث، لكن القصيدة التي تفتح عينها علي هذا الأكسسوار الجديد، مازال الحنين يراودها إلي ذلك المكان الغارب، حيث مخدعي الذي أري منه النجوم. وما بين الانتباه للحظة والحنين كان نصا آخر يتشكل .. نصا يسير قدما ينشد أساطير المستقبل، لكنه مازال يتلفت بقلق إلي الخلف حيث فردوس الذاكرة المفقود. يبدو أن قدر الشاعر والشعر هو ذلك التلفت الذي يجعل من مفهوم ” القطيعة” الذي تم ترويجه أكبر أكذوبة اقترفها النقد.
لا إمكانية للقطيعة طالما أن الشعر ينبع من الروح، وطالما أن الشعر نبي الوجدان. هذه حكمة الـ….
اللعنة فلتذهب الحكم إلي الجحيم، فكل ما هو صلب يذوب ويتبخر في الهواء.
اعترف أني حتي وصولي إلي المدينة لم أقرأ شعراً مترجما .. وفيما بعد قرأت بعضاً من رامبو وبودلير وولتمان ولوركا وناظم حكمت ونيرودا وريتسوس وجاك بريفيرا وأكتافيو باث وربما غيرهم .. أطلعت علي شعرهم المترجم بيقظة ووعي وبعين ناقد، وكنت في كل ذلك أحاول أن استبطن طرق معالجتهم لثيماتهم، لأني كنت أدرك أن الترجمة خائنة أزلية للنص، وأن للغة روح حرون لا يمكنها أن تنتقل إلي اللغة الأخري .. هذه الروح مثل زهرة البوقرعون التي بمجرد أن تنقلها إلي تربة أخري تذوي وتموت. لذلك بدأت أركز علي قراءة كتب النقد المترجمة أكثر من الشعر، ومن خلالها تولد عندي قلق آخر يتعلق هذه المرة بحداثة الخطاب. حسنا فلندع مسألة الشكل والمحاكاة وكل ما يتعلق بتقنيات النص الشعري الجديد، فهذا أمر مرتبط بالدربة والمران، وبالتودد لإيقاع اللغة نفسها وكثافة النثر، وغير ذلك من الكلام الذي بالتأكيد يسمن من جوع ويروي من عطش. لكن السؤال اللحوح: ماذا أريد أن أقول؟ وما هو مرسل هذه الحساسية الجديدة؟ يبدو أني أخلط هنا بين الخطاب والمضمون، لابأس إنه خلط عربي أصيل، ولكن ما أريد قوله: ما جدوي شعر يتبجح بملابسه الأنيقة الجديدة، وهو مازال يبكي علي الأطلال ويمدح الطغاة .. يزدري الأنوثة ويلعق الأحذية، وفي خاصرته يلمع مسدس، وفي أفضل الأحوال يطرح أنا سوبرمانية متورمة تلغي ما قبلها وما بعدها، مثل أي طاغية في هذا العصر أو العصور السابقة أو اللاحقة. حداثة الخطاب كانت شاغلي ومشغلي الجديد … عندما قرأت دراسة لكمال أبوديب يقول فيها ما معناه إن الشعر من الممكن أن يتخلي عن كل محسناته عدا الاستعارة، فهي جوهر الشعر وشرطه الأساسي، حاولت أن أكتب قصيدة من باب الشطط أو التحدي دون أن استخدم فيها الاستعارة (من أول السطر) كانت كتابة قصدية ومخططا لها وخبيثة، تعتمد علي الخبرة أكثر من الإلهام. وحين قرأت هذه القصيدة بين أصدقاء، قال نور الدين الماقني: هذه قصيدة تستعيض عن كل شيء بحداثة الخطاب. ولم أؤمن حتي اللحظة أني نجحت رغم هذه الإشارة الحاذقة التي تدغدغ غرور القصيدة. ألقيتها مرة أخري في قسم اللغة العربية بجامعة عياض بمراكش بعد أن شرحت أسباب نزولها، فداخل أحد المحاضرين الذي عرف بنفسه كأستاذ بالقسم أعد رسالته حول الاستعارة في الشعر العربي، قائلاً: إني عثرت علي استعارتين في هذه القصيدة، لكن اعتبرهما جديدتين، ولم يتطرق أبدا إلي حداثة الخطاب لأنه كان يواجه التحدي بالتحدي، ويصطاد هفوات القصيدة التي تبرأت من الاستعارة، وطبعاً هذا الترصد يعتبر أحد مناهج النقد العربي الأصيلة أيضاً. هذا ليس مديحاً لهذه القصيدة لأني أعتبرها صناعة رغم كل التظاهر بعفويتها المزيفة .. وصرت فيما بعد أتوجس منها كلقيطة مسجلة في كتيب عائلتي الشعري. لكن تظل حسنتها أن جعلت فيما بعد حداثة الخطاب هاجسي الملح، دون أن أتخلي عن تلك الأصوات النابحة في ليل ذاكرتي دون هوادة، والتي ما فتئت تقض مضجع القصيدة وتمسك بطرف ردائها كطفل يخاف من الضياع وسط الزحام، إلي أن كتبت مقدمة لديواني الأخير (الوهابة .. سارقة الموسيقي) أو ما يشبه بياني الشعري حتي الآن علي الأقل، سألوذ به الآن من أجل إطالة هذه الورقة: قلت فيه تقريباً:
> > >
ما الطريق الذي يأخذني إلي البداهة الأولي وطراوة التجربة؟ لطالما لا حقني هذا السؤال وأنا ابتكر ألعابي الشعرية، كنت مأخوذا بالسياق الذي لابد أن أدون ضمنه أوتاري، عاكفاً علي أن أكون ضمن ظاهرة نصية تعطيني هوية الانتماء إلي اقتراحات عصري الجمالية، منتشياً بهذا الزيغ القهري عن كينونتي المزدراة، مقحماً عناصر التأليف النوعي في خلق قصيدة تستعير أثاثها من ورشة الشعر المنجز ضمن خرائطه المقترحة، وفي قلب وتيرة هذا التلبس الجائر روضت الكثير مما يتحامق في داخلي ، وعبرته متوجساً، مثلما أعبر قوس التفتيش الشعاعي في المطارات، كان الأفق شاسعاً لأشع بما قرأته وبما ينبغي أن أكون ، وفي خضم هذا الرونق المستعار كانت مناحل الوجدان تطن في أذني، أصوت تشكل معها لحمي ودمي ووجداني ، أزجرها كلما اقتربتْ من تخوم الحبكة، أو الصيغة الجاهزة.
الآن، من دون أي حرص مصطنع علي إرضاء هذه الخبرة، أنصت من جديد لهذا الصوات المطعون في روحي، وأعيد اكتشاف ذاتي التي أضعتها في منفي الانخراط في جوقة الذكاء المتبجح، أراجع تجربتي فلا أجدني، مثلما أحدق في مرآة ولا أري وجهي، ثمة الكثير من التوق الداخلي الذي انطرح خارج المكابدة، وثمة إيقاعات ملأت مغارة الروح أزيحها من طريقي لأصل سريعاً إلي المتحف الشمعي للشعر، أحاول، متملصاً من الوصاية، القبضَ علي هذا الإيقاع الكامن الذي زخرف روحي وأينع جسدي، فأنصت لنغم المزمار في أعماقي، لأغاني العلم. نثر الخلاء الذي قاوم به الإنسان المفرد عزلته، أنصت لما مكث في نفسي من نئيج الريح، وتراتيل القرآن، وأغاني الرحي، ونحيب النساء، وسرد الجدة، وعواء الذئاب، وطنين الحشرات، ونقر الماء علي سقف الصفيح.
أطلق العنان لما تعاليت عليه في هوس التودد إلي حنكة الأسئلة الثقيلة، أحاول أن أكتب مثل الذي يسير في نومه، يري بعينيه المفتوحتين دون أن يصحو مخه، وامزج الرؤية المخدرة بخزين الذاكرة، العينان مشرعتان بلا يقظة، يسيران في عتمة الطريق بالضوء القاطن فيهما. إيقاظ الذاكرة وظيفة أخلاقية للشعر كما يستدرك الشاعر أونجاريتي في ضباب عمره، أبحث عن براءة البدايات التي حرمنا منها حين قذفنا إلي التاريخ، وعن ألعاب الطفل التي غادرناها إلي رشد المخيلة وحكمتها، الذاكرة غناء لا يكف عن ضخ التجارب في حدس اللحظة، إنها ـ بانسلاخ آخر عن جور الحرفنة والتكرار الطقسي ـ قصائد الحنين، ولا يمكن أن يكون الحنين إلا غناءً… قصائد النوستالجيا، تلك المسبة التي طالما راوغتها بذريعة النظر المنهجي إلي الأمام، وكأن الحياة قطار لا يلتفت، الحنين المنحاز إلي الدائرة ، الدائرة التي هي كنه الحياة التي تطارد ذيلها ،القاطنة في زمنها الدوار مثل النجوم والفصول، الحنين الذي ولد معنا، وظل أحد ملاذات الإنسان ـ الموجود في زمنه كله ـ كلما تقلصت المسافة بينه وبين الموت ، وأكثر من ذلك هي قصائد الانجراف الطفولي وراء كل ما يبهج، دون توجس أو مراقبة ، وليذهب إلي الجحيم كل ما قرأته إذا لم يلهم كل هذا الهديل في روحي .