الوطن اصطلاحا هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، ويرتبط به وينتمي إليه، وبعيداً عن العلاقة التي تربط المواطن بوطنه، التي تنظمها التشريعات والدساتير، ثمة علاقة أقوى وأعمق تعرف بتلك الحالة الوجدانية والمعنوية من الارتباط النفسي التي تتطور تدريجيا، فتبدأ بتعلم واكتساب الشعور بالمواطنة، والانتماء والحب والولاء لهذا الوطن، حتى تصل لدرجة الاستعداد ليضحي بحياته من أجله، وقد اختصر الشاعر جورج بايرون وهو شاعر بريطاني من رواد الشعر الرومانسي هذه العلاقة بقوله: «إنَّ من لا يُحِبُّ وطنَهُ لا يُمكنُ أنْ يُحِبَّ شَيْئًا».
وقلما يعبر الإنسان العادي عن علاقة الحب التي تربطه بوطنه، فيما يبذل الشاعر جهداً مميزاً ليعبر من خلال قصائده عن عواطفه وأحاسيسه تجاه وطنه.
وتسعى هذه المتابعة الموجزة، للبحث عن مفهوم الوطن ومكانته عند بعض شعراء ليبيا المعاصرين، وكيفية تناولهم له في قصائدهم، سواء بشكل صريح أو عن طريق الرمز. وقد تغنى كثير من الشعراء الليبيين بالوطن وخصصوا له مكانة مهمة في دواوينهم، ومنهم الشاعر حسن السوسي الذي قال في قصيدته «وطن»
لكلِّ إنسَانٍ وطنْ فيهِ المقامُ والسَّكَنْ
من قبله جدودُهُ عاشوا به عبرَ الزَّمنْ
تم يبين في القصيدة نفسها ، أسباب تعلق الإنسان بوطنه وحبه له فيقول:
يحبُّه لأنَّهُ هوَ الملاذُ المؤتمنْ
يصونُهُ من العدا يحوْطُهُ منَ المحنْ
فعزُّهُ من عِزِّهِ وهو يهونُ إِنْ يَهُنْ
وَرُوْحُهُ وَقَلْبُهُ وَجِسْمُهُ لَهُ ثَمَنْ
أما الشاعر محمد الشلطامي فقد خاطب وطنه بشكل مباشر قائلاً:
وطني يا وطني
يا صليبي قبل أن أخلق حرفاً في قصيدة
بيننا ظلت قوافيك العنيدة
والشعارات البعيدة
وأنا أركض خلف الفجر من سجن لسجن
لأرى عينيك في كل شفق
مرة أهرب من وجهي، وألفاً أحترق
وعند استعراض ما ذكره الشعراء الليبيين في قصائدهم حبا لوطنهم، لابد من الإشارة إلى قصيدة «وقف عليها الحب» للشاعر خليفة التليسي، التي تعد من أروع ما قيل في حب الوطن والتي يقول في مطلعها:
وقف عليها الحب شدت قيدنا
أم أطلقت للكون فينا مشاعرا
وقف عليها الحب ساقط نخلها
رطب جنيا أم حشيفا ضامرا
وقف عليها الحب أمطر غيمها
أم شح أو نسيت حبيبا ذاكرا
بينما تخاطب الشاعرة حليمة الصادق العائب وطنها وتعتبره جزءا منها فتقول:
ياوطن أنت مني
هذه الأفراح تسعى للشجون
ذي حروفي أشرقت رغم المحن
أشعلت في الحنين
ذوبت حزن الوطن
وكما أسلفنا سابقا قد يتناول شاعر وطنه ليبيا رمزاً، من دون أن يكتب اسمها، ولكن محور القصيدة كله يكون عنها، فقد تحدث الشاعر عبد الباسط أبوبكر محمد عن ليبيا، وأسهب في مناجاتها والاحتفاء بها في قصيدة من عشرين سطرا من دون أن يذكر اسمها فيقول في بدايتها:
أكرر كل ليلةٍ
على وسادتي اسمها
الحلم فيها يربكني
والفرح طار بعيداً
وتعكس هذه البداية مدى وله الشاعر بليبيا، فيداوم على تكرار اسمها كلما وضع رأسه على وسادته ليلاً، فرمزية الوسادة جميلة ومعبرة، واختيار موفق من الشاعر توحي بشكل كاف عن الوصل والرغبة في الاقتراب من وطنه. بينما اختارا الشاعر مفتاح العماري، والشاعر محيي الدين محجوب، شجرة الرمان ليرمزا بها للوطن، وربما يرجع اختيار العماري ومحجوب لشجرة الرمان بشكل خاص، بسبب ما ترمز اليه هذه الشجرة في الموروث الجمعي الليبي من دلالة ومرجعية محببة، بوصفها شجرة مباركة من أشجار الجنة، كما ترمز إلى الأصالة والتشبث بالأرض، وبهذا التوظيف الرمزي، تمكنا كليهما من التعبير بوضوح شديد وحساسية وعاطفة قوية عن بنية ليبية واقعية جديدة تكونت بسبب الحرب التي لا تزال أزماتها وتداعياتها ونتائجها لم تنته بعد فيقول العماري:
كان شجرة رمّان.
أهداني غصنا، وقال: تَعَلّمْ
فسهرتُ حدّ النسغ حتى تَرَبّى،
وصار في طورِ الشفقِ نهدا لأجملِ أُنثى
بينما يقول الشاعر محيي الدين محجوب:
رمّانة أعضائها
تصيح بك..
خلّص أغصان رائحتها
من حقيبتك المدرسية.
وبشكل صريح ومباشر، يرسم الشاعر علي الفزاني في نهاية قصيدته «مدينة الخلايا الميتة» صورة حزينة مؤثرة تصف بأسى الحالة التي آل اليها الوطن، والتي قد تعكس وتشير لبعض الأبعاد النفسية لتجربة الشاعر كإحساسه بالغربة والحنين والمواساة لوطنه حين يقول:
في مدينة منهارة من الداخل
يتجول العقم – والمجانية
والبشاعة
آه على وطني
وتتعمق دلالة اللوعة والتحسر التي يعانيها الشاعر الفزاني، للحالة التي آل إليها وطنه من خلال استدعائه وتوظيفه لمفردات ترمز لذلك، مثل (بشاعة) أو (منهارة). وكذا فإنَّ استعمال الشاعر لأسلوب التحسر والوجع بمد صوتي (آه)، الذي يستعمل في حالات الألم الشديد، خيرُ دليل على أنَّه في ضيق ومعاناة شديدة وحزن دائم على وطنه.
وفي مقطع مؤثر آخر يخاطب الشاعر رامز النويصري وطنه، ليكشف عن مدى توتره وقلقه إزاء ما يتعرض له، فيبدو وكأن الشاعر صدم من التغير المفاجئ الذي ألم به، حيث ليس ثمة شيء سوى الرصاصُ والدُخان والدم والفاجعة فيقول:
هذا فجرُكَ
ليس لي منهُ إلا الرصاصُ والدُخان
لونهُ الأحمرُ الرخيص
وسلطانُ الفاجعة.
أما الشاعر فرج العربي في قصيدته «اتهـام» فيبحث متحسراً عن وطنه الذي يراه ضاع بعد أن تحول إلى كتل من الجير المحترق فيقول:
أي الذنوب ارتكبت؟
إن تحَّول الوطنُ ُ إلى غابةِ كلسِ
ما ذنِبي!
إن كنا نكتشفُ في كَّلَ خطوةٍ،
بئرَ نفطٍ جديد.
هَبني وطناً أيها الكَلس ُ
وفي المقاطع السابقة، يتعرض الشاعر فرج العربي لتجربة مختلفة في تناوله للوطن، وعلاقته به، فيفلح في تصوير واقع سبق أن تعرضت له ليبيا، بسبب ما يمكن تسميته بلعنة النفط، فينقل بإتقان صوراً وإن تبدو غير مـألوفة لدى المتلقي لكنها صادقة.
ومن خلال هذه المتابعة يتضح أن ليبيا حضرت كثيراً في الشعر الليبي المعاصر، تصريحاً أو تلميحا كموطن جغرافي، أو كدولة، ولم يخل من ذكرها شعر شاعر، لتكون بذلك المكان الجميل، الذي يلتقي عنده كل شعرائها، باختلاف رؤاهم ومشاربهم الفكرية والفنية، ولتكون قضايا ليبيا هي همومهم الكبرى مما يعكس بشكل ما، الإيمان الشديد لكل شاعر بوطنه وصدق التزامه بقضاياه المصيرية. ومن جانب آخر تبين من خلال هذه المتابعة أن العلاقة النفسية بين الشاعر الليبي المعاصر ووطنه، فرضت كثير من التساؤلات والتفاصيل التي تنطلق من اعتبار أن الوطن يشكل جانباً مهما من أحداث متشابهة.
وختاما فقد حظي الوطن بحدوده الجغرافية المعروفة بمكانة خاصة لدى الشاعر الليبي الإنسان الذي غالبا ما نجد تعبيره عن هذا الحب لهذا الوطن حباً نقيا ومتجرداً من المصلحة، وبعيداً عن تحقيق المنافع الشخصية والمطامع الزائفة الزائلة، ولأن الشاعر كان صادقاً مع نفسه، فقد كان في الغالب موفقاً في نقل مشاعره وأحاسيسه حبا وارتباطا بالوطـن للمتلقي، هذا المتلقي الذي يحب وطنه أيضا وبالقدر نفسه، فكان من السهل عليه تذوق قصائد الشاعر، فاستمتع واحتفى بها وتفاعل معها، لأنها تمس وجدانه، ولأنها تتناول في مفردة تعني له الكثير فتغنى بفرح وشجن لوطن يحبه، وطن اسمه ليبيا.
________________
نشر بصحيفة القدس العربي