(1)
يُعْتبَرُ مَفْهُـومُ “المُـواطنة” Citizenship مِنْ أهَـمِّ مَفَـاهِيمِ الحَـدَاثَةِ فِي النُّظُـمِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي العَـالَمِ المُعَاصِرِ. وقد احتلَّ هَذَا المفهُـومُ مَـوْقِـعاً مَرْكَـزِيّاً فِي مَسِيـرَةِ بِنَـاءِ الدِّيمُقراطيَّاتِ المُعَاصِـرَةِ بِصِـفَةٍ عَـامَّةٍ، وَفِي إِطَـارِ الدَّوْلَةِ القَـوْمِيَّةِ الحَـدِيثَةِ ذَاتَ السِّيَادَةِ بِصِفَةٍ خَـاصَّةٍ. وَتُعَرَّفُ المُـوَاطَـنَةُ بِأَنَّهَا عِـلاَقَةٌ عُضْوِيَّةٌ بَيْنَ الفَـرْدِ وَالوَطَنِ، تَنْهَـضُ عَلَى أَسَاسِ مَجْمُـوعَةٍ مِنَ القِيَـمِ، وَتَسْتَنِدُ إِلَى مَجْمُـوعَةٍ مِنَ الشُّرُوطِ وَالضَّمَانَاتِ، وَتُرَتِّبُ مَجْمُـوعَةً مِنَ الحُقُـوقِ وَالوَاجِبَاتِ المُتَبَادَلَةِ عَلَى طَرَفَيْهَا؛ وَمِنْ ثَمَّ فَهِيَ تَأْخُذُ العَـدِيدَ مِنَ التَّطْبِيقَاتِ التِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ المُجْتَمَعَاتِ وَالمَرَاحِلِ التَّارِيخِيَّةِ. وتتضمَّنُ المُـواطـنةُ ثَلاَثَةَ عَنَاصِرَ: مدنية، وسياسية، واجتماعية. وتُعَدُّ الحُقُوقُ المَدَنِيَّةُ أَمْراً ضرُورِيّاً للحُريَاتِ الفَرْدِيَّةِ، وَتَتِمُّ صِيَاغَةُ هَذِهِ الحُقُوقِ وَالنَّصِّ عَلَيْهَا فِي مَوَادِ القَانُونِ الرَّسْمِيِّ. أَمَّا المُوَاطَنَةُ السِّيَاسِيَّةُ فَتَتَضَمَّنُ حَقَّ المُشَارَكَةِ فِي مُمَـارَسَةِ القُـوَّةِ السِّيَاسِيَّةِ فِي المُجْتَمَـعِ، سَـوَاءٌ أَكَـانَ ذَلِكَ مِنْ خِـلاَلِ التَّصْوِيتِ فِي الانتِخَابَاتِ، أَمْ مِنْ خِـلاَلِ شَغْـلِ المَنَاصِبِ السِّيَـاسِيَّـةِ. وَتُشِيرُ المُـوَاطَنَـةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ إِلَى حَـقِّ الاسْتِمْتَاعِ بِمُسْتَـوَىً مُـلاَئِمٍ مِنَ الحَيَـاةِ الكَـرِيمَةِ، وَهِيَ تَتَجَسَّدُ فِي نِظَـامِ الرَّفَاهِيَةِ، وَالنُّظُـمِ التَّعْلِيمِيَّةِ المُتَطَوِّرَةِ فِي المُجْتَمَعَاتِ الحَدِيثَةِ، وَتَوْفِيرِ مُنَاخٍ اجْتِمَاعِيٍّ يُعِينُ عَلَى تَقْلِيلِ الفَوَارِقِ الاجْتِمَاعِيَّةِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي بِدَوْرِهِ إِلَى قَدْرٍ مِنَ الانْدِمَاجِ عَنْ طَرِيقِ نُظُمِ التَّعْلِيمِ.
(2)
وَتُشِيرُ تَجَارِبُ بِنَاءِ مَفهُومِ المُـواطَنَةِ وَتَطَوُّرِهِ فِي ظِلِّ النُّظُمِ الدِّيمُقراطِيَّةِ الحَدِيثَةِ إِلَى أَنَّ القِيمَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِهَذَا المَفْهُومِ تَتَجَلَّى فِي إِتَاحَةِ الفُرْصَةِ لِلمُوَاطِنِينَ كَافَّةً عَلَى قَـدَمِ المُسَاوَاةِ، لِلمُشَارَكَةِ فِي صُنْعِ القَرَارِ، وَفِي تَحْدِيدِ الاخْتِيَارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمَجَالِ العَامِّ، وَكَذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ المَسْئُولِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الاخْتِيَارَاتِ. كَمَا تُشِيرُ تِلْكَ التَّجَارِبِ إِلَى ارْتِبَاطِ مَنْظُومَةٍ مِنَ المَفَاهِيمِ وَالمُمَارَسَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالقَانُونِيَّةِ بِمَفْهُومِ المُـواطَنَةِ مِثل: الهَـوِيَّة، وَالانتِمَاءِ، وَالمُشَارَكَةِ، وَالوَطَنِيَّةِ، وَالجِنْسِيَّـةِ، وَالحُرِّيَّـةِ، وَالتَّمْثِيـلِ النِّيَـابِيِّ.
(3)
وَعِنْدَمَا تَغِيبُ الدِّيمُقراطيَّةُ عَنْ أَيِّ بَلَدٍ تَغِيبُ عَنْهَا أَيْضاً “المُوَاطَنَةُ الفَعَّالَةُ”، التِي تُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ مُؤَشِّرَاتِ دِيمُقرَاطِيَّةِ الحُكْمِ، وَقُوَّةِ شَرْعِيَّتِهِ السِّيَاسِيَّةِ، لِذَلِكَ يَرَى بَعْضُ البَاحِثِينَ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ المُوَاطَنَةِ فِي سِيَاقٍ غَيْرِ دِيمُقرَاطِيٍّ؛ لأَنَّهَا غَدَتِ اليَوْمَ مُكَوِّناً أَصِيلاً مِنْ مُكَوِّنَاتِ الدَّوْلَةِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ المُعَاصِرَةِ، بَلْ بَاتَتِ الدِّيمُقرَاطِيَّةُ نِظَاماً سِيَاسِيّاً لِمُمَارَسَةِ المُوَاطَنَةِ، وَتَوَثَّقَتِ العِلاَقَةُ بَيْنَهُمَا، إِلَى دَرَجَةِ أَنَّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ أَيَّ أَزْمَةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدُ هَذَيْنِ المَفْهُومَيْنِ تَكُونُ أَزْمَةً لِلآخَرِ. وَفِي دُوَلِ الرَّبِيعِ العَرَبِيِّ اليَوْمَ، التِي تَرْنُو شُعُوبُهَا إِلَى تَحْقِيقِ حُلُمِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ وَبِنَاءِ دَوْلَةِ القَانُونِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، أَضْحَى لِزَاماً عَلَى نُخَبِهَا السِّيَاسِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ كَافَّةً (فِي دَائِرَةِ الحُكْمِ أَوْ خَارِجَهَا) أَنْ تُأَصِّلَ لِمَفْهُومِ المُوَاطَنَةِ، وَتَعِيهِ هِيَ أَوَّلاً؛ لِكَيْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تُسَاهِمَ فِي تَعْمِيقِهِ لَدَى المُوَاطِنِ العَادِيِّ، بَلْ وَلَدَى رَجُلِ الدَّوْلَةِ، الذِي يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ حُقُوقَ المُوَاطَنَةِ فِي الاعْتِبَارِ أَثْنَاءَ أَدَائِهِ لِعَمَلِهِ، وَإِذَا كَانَ مِعْيَارُ المُوَاطَنَةِ مِنْ مَنْظُورٍ حُقُوقِيٍّ هُوَ “الكَفَاءَةُ”، التِي تَسْتَلْزِمُ تَوَافُرَ صِفَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ فِي المُوَاطِنِ تَجْعَلُ مِنْهُ شَخْصِيَّةً مُؤَثِّرَةً فِي الحَيَاةِ العَامَّةِ، فَإِنَّ المُوَاطَنَةَ تُعَدُّ أَسَاساً لِلانْدِمَاجِ الوَطَنِيِّ، وَحَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي بِنَاءِ الدَّوْلَةِ الحَدِيثَةِ، وَتَحْقِيقِ هَدَفِ “المُصَالَحَةِ الوَطَنِيَّةِ”، وَاحْتِرَامِ المُوَاطِنِ لِلقَانُونِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الصَّالِحِ العَامِّ، وَالتَّعَامُلِ مَعَ الدَّوْلَةِ وَنُظُمِهَا بِشَكْلٍ إِيجَابِيٍّ وَفَعَّـالٍ، يَضْمَنُ لَهُ (أَي لِلمُوَاطِنِ) العَيْشَ الكَرِيمَ فِي وَطَنِهِ بِأَمْنٍ وَمَحَبَّةٍ وَسَلاَمٍ، فَالوَطَنُ لِلْجَمِيعِ، وَيُبْنَى وَيَزْدَهِرُ بِالجَمِيعِ، دُونَ أَنَانِيَّةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ تَغْلِيبٍ لِلْمَصَالِحِ الضَّيِّقَةِ.