الأحد, 30 مارس 2025
طيوب عربية

لَاحِقاً.. سَأَعُودُ

جندي في ساحة المعركة (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)
جندي في ساحة المعركة (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)

«… وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ.». }عب 11: 13{

سرعانَ ما استحالَ خوفُ كتيبةِ «هيئةِ تحريرِ الشامِ» رُعباً منكَ، فأنتَ تواجههم برقصةٍ مريبةٍ. كتفاكَ تتحركانِ في دوائرَ صغيرةٍ وفجأةً تتوقفُ ثُمَّ تُعاودُ الحركةَ وهكذا دواليكَ وكأنَّها تجاري إيقاعاً سريعاً حاداً لا يسمعهُ سواكَ، صدركَ يرتفعُ وينخفضُ بوتيرةٍ محمومةٍ تُواكبُ نبضَ الأرضِ. كنتُ تؤدي كُلَّ ذلكَ وأنتَ تدورُ حولَ نفسكَ، تارةً ببطءٍ يبعثُ الرهبةَ وتارةً بانسيابٍ تذوبُ فيهِ ملامحكَ. في البدءِ خالكَ بعضهم معتوهاً، وجزمَ الآخرونَ بادعائكَ العَتْهَ بعدما جاءوا للقبضِ عليكَ نتيجةَ التقريرِ الصادرِ ضدكَ المعنونِ بـ«ـاعتقالِ أكيّلِ الأُيورِ». غيرَ أنَّهم غاصوا في حالةِ سُكْرٍ وهم يشهدونَ مرونتكَ، واختلاج كومة القشِ المجدولةِ المجوفةِ الساكنةِ بجانبكَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ دونَ سابقِ إنذارٍ. وما إنْ أنهيتَ الرقصةَ حتى حدجتهم ضاحكاً ساخراً، وندَّدتَ بتقريرهم وأصختَ أسماعهم بأنَّ التقريرَ ما هو إلَّا ردٌّ عنينٌ على جهركَ بالحقيقةِ: «بلادنا بلادٌ متخلفةٌ ولا حلَّ لدائها سوى أنْ تَأْتَفِك بنا». فما كان منهم غيرَ الانقضاضِ عليكَ بعدما أمدَّهم الغضبُ بمددهِ، وحينَ تملَّكَ أولُ المهاجمينَ خناقكَ خرَّ أرضاً من وجعٍ ألمَّ به من حيثُ لا يدري ولا يحتسبُ فتراجع رفاقهُ خيفةً. وهم يعدونَ نحوكَ كالثيرانِ أخرجتَ من بينِ طياتِ معطفكَ سلسلةً من الدُّمى القماشيَّةِ المُتراصةِ تحملُ تعابيراً غامضةً، عيونها.. أو بالأحرى أزرارُ القمصانِ المُطرَّزةِ بدقةٍ التي تمثِّلُ عيونها تراقبُ العالمَ بنظراتٍ ثاقبةٍ، وتوحي بأنَّها تعرفُ أكثرَ مما يجبُ، أفواهها المربوطةُ بالخيوطِ السوداءِ تُفشي أسراراً مُلغزةً، أجسادها الناعمةُ تلمعُ ببياضها الناصعِ لمعاناً يُعلنُ للرائي عن أحقيةِ وجودها في العالم. أخرجتَ الدُّمى التي كانتْ بتراصفها الدقيقِ تُشبهُ جيشاً جاهزاً لتنفيذِ أوامرِ قائدهِ في أيِّ لحظةٍ، ولويتَ عُنقَ إحداها وغرزتَ الدبابيسَ في قدميها بمجردِ استحكامِ أولِ المهاجمينَ رقبتكَ. بُعيدَ لحظاتٍ لملَّمَ آخرٌ رباطةَ جأشهِ واستلَ سكيناً فلقيَّ مصيرَ سابقهِ، ومنْ سَاعَتِكَ «بعبّصتَ» كتيبةَ هيئةِ التحريرِ بسبابتيكَ اللتين امتدتا عالياً وبصقتَ غاضباً ثُمَّ أوليتهم ظهركَ. أَحْسَسْتَ برشاشاتهم مصوَّبةً على رأسكَ وأنتَ تخطو الخطوةَ الثالثةَ فأمرتَ ما يقبعُ تحتَ الكومةِ بالتصرفِ، بيَدَيْهِ المُحَرْشَفَتَيْنِ الحمراوينِ طوَّحَ الشيطانُ بالكومةِ، وبمذراتهِ وقرنيهِ ردَّ الرصاصَ المنهمرَ إلى جباههم فسقطوا جُثثاً هامدةً.

ظفرتَ بالنصرِ… ولكنَّ النصرَ لمْ يَقِر في نفسكَ الخلاصَ الذي ترتجيهِ، ظفرتَ ولكنْ ما زلتَ تتكبَّدُ ما تعاينهُ.. تراكَ وَسَطَ الأشياءِ المألوفةِ وَسَطَ المُعتادِ وَسَطَ ما حييتَ فيه منذُ مولدكَ عاجزاً عن فهمهِ الاقترابِ منهُ التأقلمِ معهُ، تراكَ تجترُ اغتراباً لا فكاكَ منهُ تحتَ وطأةِ الهواجسِ التي تصمُّ أُذنيكَ بفَحِيحها: «أنتَ غريبٌ لا تنتمي إلى ذلكَ المكانِ». سابقاً اِلتفتتَ إلى عُزلتكَ نعيتَ عليها ما أقحمتكَ بهِ، ووطَّنتَ العزمَ على هجرانها، وما إنْ تغلغلتَ في ثنايا العالمَ الاجتماعيَّ حتى اصطدمتَ بجدرانٍ صلدةٍ أشدَّ غِلظةٍ من جدرانِ وحدتكَ. وجدتكَ تسطيلُ مع ضبابٍ لا طاقة لكَ عليهِ في مدينةٍ زُجاجيَّةٍ لا تعكسُ سوى قُبحاً كُنتَ بمنأًى عنهُ رغمَ بهارجها وضجيجها وعجيج أضوائها الساطعةِ… دَهَمَ الشيطانُ استغراقكَ بلسعةٍ من ذيلهِ على مؤخرتكَ حينما وصلتما إلى الحانةِ. في الحانةِ كانتْ المُسارَّةُ أقربَ ما تكونُ إلى حادثةِ تراشقٍ مضحكٍ مبكٍ، فكلماتكَ تتصادمُ مع الصلصاتِ والحزنُ يمتزجُ بالتهكمِ. أنتَ تُفتشُ جاهداً عن صدًى لآلامكَ لديهِ، وهو يستجيبُ لكُلِّ كلمةٍ بنتراتِ «الكاتشبِ والمايونيزِ» والخردلِ التي يقذفها من شطيرتهِ في وجهكَ دونَ مُبالاةٍ. وَقُبيلَ أنْ يأتي على الشطيرةِ استشطتَ ونهضتَ متجهماً فجذبكَ من يدكَ بيُسراهُ، وبيمناهُ التي لحسَ أصابعها ومصمصها أمركَ بالجلوسِ. لفَّ ساقاً على ساقٍ وأشعلَ سيجارةً، وأقرَّ بأنَّ غربتكَ مشكلةٌ عَوِيصةٌ غير أنَّها لا تخصكَ وحدكَ، فالإنسانُ يعاني منها منذُ الأزلِ. وبعدما ساءلتهُ عن الأسبابِ والحلولِ أغمضَ جفنيهِ متنهداً ثُمَّ فتحَ عينيهِ نصفَ فتحةٍ، وأشارَ بيديهِ إلى العمودِ الكائنِ وراءكَ قائلاً بأنَّ إمعانَ النظرِ في الصورةِ كاملةً هو نقطةُ بدايةِ الانفراجِ، وأضافَ وهو يعبُّ سحبةً طويلةً من السيجارةِ بأنَّ النظامَ الذي يعيشُ فيه البشرُ يشعرهم بالعجزِ، فمن خلال الإعلاناتِ تتشكَّلُ آراؤهم ومن خلال المنتجاتِ تتشكَّلُ شخصياتهم… رمى السيجارةَ وتابعَ بحدةٍ: «أنتم تسترونَ عوراتكم بملابسهم وتقتاتونَ من طعامهم وتستخدمونَ أجهزتهم، فإذا تمردتم عليهم سيدفنونكم بالديونِ. ولذلك يجبُ عليكَ أنْ تقطعَ دابرَ قوى النظامِ العالميِّ وشركاتهِ الكُبرى.. أنْ تدمر قيمَ عُمُلاتهم». استحوذتْ كيفيةُ تقويضِ قيمِ العُمُلاتِ الصَّعبةِ على كيانكَ وأسرتْ القُشعريرةَ فيكَ، لكنَّ الشيطانَ أمسكَ عن الإجابةِ مُتذرعاً ببعضِ الانشغالاتِ وطمأنكَ بأنَّ خضوعكَ لـ«ـكورسات» سحر «الفودو» سيجعلُ المستحيلَ ممكناً، وأنَّهُ سيصنعُ دُميةً جديدةً خصيصاً لكَ دُميةً للانتقالِ بين الأماكنِ، ثُمَّ مضى.

 الأصابعُ تنتقلُ على لوحاتِ المفاتيحِ بسرعةٍ محسوبةٍ، كُلُّ نقرةٍ كانتْ خطوةً نحو الهدفِ، كُلُّ سطرٍ منَ «الأكوادِ» كانَ خيطاً في نسيجِ الخطةِ. ورويداً رويداً سرقَ «الهاكرز» الذينَ سيطرتَ عليهم بالـ«ـميميكاتز» كلماتَ المرورِ المُخزَّنةِ في ذواكرِ الخوادمِ… تشاهدهم مستمتعاً، تشاهدهم عبرَ سحائبِ دُخانِ سيجارتكَ وهم يستعدونَ لإتلافِ بياناتِ ومعلوماتِ النظامِ العالميِّ وشركاتهِ الكُبرى، وتبتسمُ ملء شدقيكَ متحدياً إياهم. لقد اعتقدَ أولئك الزُناةُ ناكحي أُمهاتهم أنَّ حيلَ احتفاظهم بِفُتاتٍ من البياناتِ والمعلوماتِ على الشابكةِ ستنطلي عليكَ، اعتقدوا أنَّك لنْ تعثرَ على مبانيهم المخفيةَ جيداً والتي تضمُ بياناتهم ومعلوماتهم في صيغٍ ورقيةٍ.. حمقى.. إذا كانَ الشيطانُ معكَ فمنْ عليكَ؟. بعد ساعةٍ استقرَ المقامُ بـ«ـالهاكرز» في أنظمةِ التحكمِ الصناعيِّ لأنابيبِ الغازِ وأنظمةِ التدفئةِ والتهويةِ (آي سي إس/سكادا)، فكتبوا سطوراً من «الأكوادِ» الخبيثةِ زرعوا قنابلَ رقميَّةٍ في قلوبِ المباني، وزوَّروا بيانات أجهزة الاستشعارِ كيلا يتنبَّهَ أحدٌ للتفجيراتِ القادمةِ. ارتفع ضغطُ الغازِ إلى مستوياتٍ خطيرةٍ، وانفجرتْ الأنابيبُ في سلسلةٍ من الاشتعالاتِ، فالتهمتْ الحرائقُ الوثائقَ. وفي أثناءِ ذلك كانَ «الهاكرز» يمسحونَ سجلاتهم ببرودةِ أعصابٍ كمن يلعبُ بمحو آثارَ خطواتهِ في الرمالِ. النتيجةُ دمارٌ شاملٌ ليس فقط للمباني بل لثقةِ العمالقةِ بأنفسهم وأمنهم، المَحْصِلَةُ النِّهَائِيَةُ تحرركَ والجنسِ البشريِّ من الاغترابِ وسيطرةِ القوى العظمى، وانطلاق ثوراتٍ لا تبقي ولا تذر. فُجعتَ بأحداثِ اليومِ الرابعِ للثوراتِ، الناسُ أعادوا سيرتهم الأولى الناسُ يشترونَ ويبيعونَ بالتقايضِ، والعمالقةُ يهبونَ التنازلات بغيرِ حسابٍ. وفي اليومِ السابعِ تحطمتَ، الثوارُ أعلنوا النهايةَ والمُتَنفِّذونَ أطلقوا العُمُلات الرَّقميَّةَ.

ربما.. ربما يكونُ الشيطانُ مخطئاً، الاغترابُ ليس مشاعاً يشارككَ به الآخرونَ الاغترابُ ليس شيئاً يمكنُ أنْ يفهمهُ الجميعُ، بل هو معضلةٌ تقبعُ فيكَ سرٌ لا تستطيع أن تشرحهُ حتى لنفسكَ… وبالتالي ثَمَّةَ من تغمرهُ السعادةُ.. أو بأسوأ الاحتمالاتِ ثَمَّةَ من يلمسها بشكلٍ خفيفٍ، كظلٍّ عابرٍ يمرُّ على قلبهِ دونَ أنْ يستقرَ. تقمَّصتَ أرواحَ رجال السياسةِ والاقتصادِ والعلمِ… فلمْ يُفلحْ مسعاكَ، هرولتَ صوبَ العامةِ البلهاءِ مدمنو ألعابٍ إلكترونيَّةٍ عاهرات موظفونَ مهمشونَ… فقرأتَ فيهم بؤسكَ. وبعدَ جهدٍ جهيدٍ وتفكيرٍ متواصلٍ، بعدَ لأيٍ توصلتَ للحلِّ. منْ كُلِّ حدبٍ وصوبٍ جمعتَ أمهرَ البنائينَ والمهندسينَ ليشيدوا صرختكَ الأخيرةَ في وجهِ هذا العالمِ الأسودِ القاسي. وبعدما انتهوا إِبَّانَ تحنيطكَ وأشيائكَ العزيزةِ لبى الشيطانُ دعوتكَ، وما إنْ رأى ما يجرى حتى دُهشَ، كنتُ تقابلهُ بالصمتِ المطبقِ وهو يهرشُ عثنونه. وقبلما يقتلعَ المحنطونَ أحشاءكَ نهرتهُ متسائلاً: «لماذا كان يجب أن نولدَ أصلاً؟!» فطأطأ الشيطانُ أسفاً.

-انتهت-

مقالات ذات علاقة

الوعي باللغة وإدراك الرموز الثقافية

إبراهيم أبوعواد (الأردن)

لقاء إعلاميّ مع د. سناء الشّعلان على هامش ذكرياتها مع والدتها الرّاحلة نعيمة المشايخ

المشرف العام

إختتام فعاليات مهرجان صور السينمائي الدولي وتوزيع جوائز المسابقة

المشرف العام

اترك تعليق