قصة

ضجيج

من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)
من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)

اخترت عمداً مكاناً مزدحماً بعد ان بعت (بيتهُ)،آخر شيء يربطني به ويذكرني بأيامي البائسة في كنفه، وقفت في شرفة شقتي الجديدة المتواضعة اراقب الشارع المكتظ بالناس والمطاعم والمقاهي واصوات لهو الأطفال وشقاوتهم، رددت مواسياً نفسي: “الضجيج الذي نخر جمجمتي طوال حياة ابي وتضاعف بعد موته، حتماً سيخرسه هذا الصخب”.

خرجت أبحث عن عمل قبل ان تنفذ نقودي، لا ادري لِمَ تعاندني الحياة ويكرهني ارباب العمل!؟ لا أبقى في مهنة سوى أيام معدودة يكون بعدها مصيري الطرد، قال لي آخر من عملت معه:

“أنت عنيد وحاد الطباع ولا تلتزم بما يطلب منك” أشعر بالحنق، وكأنهم يكررون كلام أبي.

تقابلت اثناء خروجي مع الرجل الساكن في الشقة المقابلة لشقتي، تسمرت في مكاني كتمثال من حجر، يا الله كم تشبه هيئته هيئة أبي، نموذج للرجل التقليدي الصارم، يضع (شنة) حمراء على رأسه ويلبس (فرملة) بنية اللون كالتي يحرص أبي على ارتداءها في المناسبات وأيام الجمعة، تلاقت نظراتنا للحظة، خلت أن نظرته كانت مزيجاً من العتاب والشفقة، ألقيت عليه السلام بسرعة وذهبت لحال سبيلي، لكن نظرته ظلت عالقة في ذهني لا تبرحه.

أصبح جاري هو شغلي الشاغل، أراقبه يومياً من العين السحرية قبل خروجي للعمل، لا أخرج إلا بعد مغادرته، ولا أنام قبل أن أراه عند عودته رغم حاجتي الملحة للراحة والنوم بعد يوم عمل شاق.

.

لا أفهم لِم أرهق نفسي بمراقبة شخص يشبهه؟ تمر مواقفه أمامي بسرعة كفيلم جاهز للعرض، غضب، نصائح، تقريع، توبيخ وضرب، للأمانة؛ علي أن أعترف أنه لم يضربني سوى مرتين، المرة الأولى عندما ضربت ابن جيراننا بحجر شج رأسه، والثانية عندما صممت أن اترك دراستي.

قطع حديثي المكرر مع نفسي صوت جاري وهو يفتح بابه، ركضت بسرعة لأحييه قبل ان يدخل، صارت عادة يومية لا أنفك عن مداومتها بكل عناية، اختلجت عيني عندما رمقني بنظراته الغريبة، ارتجفت عندما صفق الباب قبل ان يعطيني فرصة لا تبادل معه كلمة واحدة.

عدت متأخراً ذلك اليوم، أجرجر خطواتي بصعوبة بعد عمل مضن أنهك بنيتي الضعيفة، فوجئت به واقفاً أمام شقته يحدق بي وشيئاً يلمع في عينيه، لم أتأكد منه بادئ الأمر، تيقنت عندما دنوت أنها طبقة سميكة من الدموع تصحبها نظرة حانية تأسر القلب.

(يا الله كم يشبهه يوم سقوطي المريع من سطح بيتنا، كانت المرة الوحيدة التي رأيت فيها دموع أبي)

تمنيت أن يمكث معي قليلا، أن يمنحني فرصة للحديث، لكنه كان ككل مرة، متحفظاً جداً، لم أسمع منه سوى تحية بصوت يشبه الهمس ولم ألمح سوى نظرات تثير الحيرة، وقفت دقائق أمام شقته أحاول التخلص من شعور الأسى والوحدة الذي يراودني كلما أوصد بابه في وجهي.

مر شهران -على هذا الحال- اشتد بهما فضولي ولهفتي، ذهبت إلى بواب العمارة لأسأل عن الرجل، من هو؟ هل يسكن وحده أم مع عائلته؟ ماذا وراء صمته ونظراته الحانية وأطواره الغريبة؟

شعرت برجفة هائلة عندما قال لي البواب في دهشة:

-الشقة المقابلة لشقتك خالية لم يسكنها أحد منذ زمن.

مقالات ذات علاقة

مريض علي ميت متكي !

مهند سليمان

1969… الجواد

المشرف العام

خديجة وزينب

عزة المقهور

اترك تعليق