من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.
قصة

المغادرة

من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.
من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.

لا تضعف، لا تنكص، لا يليق بك أن تلتفت إلى الوراء، لا يوجد شيء تملكه في المدينة، منذ أحداث المفترق وأنت حر كنت أحدث نفسي بذلك، أردت المغادرة إلى الجبهات، أحسستُ أن لا أحد يمكن أن يملك سلطة عليّ، واجهتُ جدّتي بقوة قلت لها ذلك، سأذهب إلى البريقة، أذكر أنها تفحصتني جيداَ، تأملتني، هزتْ رأسها ثم مسحتْ قامتي المديدة بنظرها الكليل و أطرقتْ حتى لا أرى في عينيها فجيعة رحيلي، ساد صمت طويل، خيل إلى أن للصمت صوت الضجيج المنخفض المتواتر، لم نقطع صمتنا ولا ضجيجه المتواتر، استدرت أجمع أشيائي الصغيرة استعدادا للذهاب إلى وجهتي، هنا تكلمتْ جدتي، نطقتْ كلامها المرتعش ثم انخرطت في بكاء طويل، قالت بصوت ذابل، يخنقه التأثر، يكتسي صوتها بضعف غريب:
رضائي في عدم ذهابك إلى هناك.
تظاهرتُ بربط خيوط حذائي، تمتمتُ شارداً:
لكن مفتي الديار الصادق الغرياني أصدر فتواه التي تؤيد الجهاد ضد كنائب العقيد معمر القذافي،.حثنا على الذهاب يا أمي دون الالتفات إلى أخذ الأذن من الوالدين، خرج على التلفزيون، طالباً من كل الليبيين الخروج والجهاد ضد الدكتاتور وأن من قتل هناك يعتبر شهيداً في سبيل الله.
رفعت يدها، لوحتْ بها أمامي كأنها بذلك تريد أن تمسح فكرة الرحيل من رأسي قالت:
هذه ليست وجهتك، ليست معتركك، معركة البريقة ليست حربك يا بني.
ثم اقتربت من بندقيتي التي غنمتها ليلة الهجوم على كتيبة حسين الجويفي، هزتها بشدة ثم تفرستْ في وجهي و صرختْ:
وهذه ليست عتادك ولا أسلحتك، أنك لم تحسن اختيارها هذه المرة.
غمغمتْ ببعض الكلمات الخافتة التي لم أتبينها، تفلتْ إلى يسارها، تنهدتْ، لم تنطق، لم تنبس بعدها بحرف ولا أدنى كلمة فقط غلالة من الحزن ظلمت قسمات وجهها الحنون، ثم غابت في صمتها الصاخب المتواتر.
هربتُ من نظراتها المتفحصة وتظاهرت هذه المرة بتهذيب أطراف كوفيتي الصوفية المتهدلة، كان ذهني مشوشاً.
أخيراً استسلمتْ، قرأتْ الجدة الطيبة الكثير في عيوني، قبل المغادرة ارتميت في حضن جدّتي، دام عناقي لها دهراً طويلاً، سالتْ دموعها الساخنة، بللتْ ثيابي، شعرت برعشة تسري في جسدها الهزيل الضامر وهي تضمني بشدة، كانت ترتجف كورقة عصفت بها الرياح.
غمغمتْ:
أحمل عباءة جدّك معك فالصحراء باردة ليلاً خصوصاً في هذا الشهر من السنة.
جاء صوتها متهدجاً من خلفي
” وجهك مصباح ويدك مفتاح، الله يربحك ويربح رفيق رفيقك “.
رغم إحساسي بأن كل أثقال الدنيا جثمت و تجمعت في خطواتها إلا أنها تركتني أرحل، غادرتُ جدّتي، تركتها تؤخر قدم و تقدم خطوات عكازها ببطء، حائرة، مضطربة، متثاقلة يثقل قلبها خوفها عليّ، موجوعة، شاردة الذهن، ترتجف شفتاها بالنداء، لكن صوتها يتوارى، يغوص في حنجرتها، لا تدري ماذا تفعل ؟ أحسستُ بظلها يتبع خطواتي، لاحتْ قامتها عند شجرة التين العتيقة ثم اختفتْ، كان ظلها طويلاً ينعكس على حائط المنزل العتيق، تهزه الريح، عند اختفاء ظل الجدة، تابعتُ سيري، وشيئاً فشيئاً صار في وسعي أن أتخفف من ثقل وطأة الظل على نفسي و لم ألتفت إلى الخلف أبداً كان الوقت يعلن عن ظهيرة يوم شتائي ثقيل ومثقل بالغيوم فقد جزء من نصاعة بياض نهاره الطويل بالهموم رغم قصر ساعاته، أسرعت، غادرتُ منزل جدّتي دون وداع أو تلويح، أصبح ظل الجدة يطاردني إلى أخر لحظة في حياتي، متربصاً بي، قريباً مني، يحتل مواقع كثيرة في أرض المعركة وفي المواجهات التي اعترضتْ سبيلي، جاثماً حتى على أفكاري وكنت كلما أغمضت عينيّ يتراءى لي مرتعشاً مرتسماً أمامي، يبدو مخذولاً.

مقالات ذات علاقة

البيضة والدجاجة الحمراء

عائشة إبراهيم

قصص قصيرة جداً

إبراهيم الككلي

عدوى

هدى الغول

اترك تعليق