حدثتني جدتي ذات مساء طفولي موغل في البعد والاغتراب، أن ذئبا كان يهيمن على كل كلاب نجعنا و النواجع المجاورة بطريقة عجيبة جدا، حتى تحول إلى أسطورة في عالم الغزو على قطعان الماشية والأغنام التي تقلصت حياتها في اجترار الأعواد اليابسة بالحظائر أو قضم الأعشاب المرة على تخوم المراعي القريبة من مضارب القبيلة، لدرجة أن مجالس البدو وحكاياتهم لم تكن تخلو من الحديث عن مغامرات شيخ الذئاب و ضحاياه من صغار الحيوانات و الطيور، بل لدرجة أن بعض الناس بدؤوا يؤرخون لأحداث ومناسبات مهمة كان وجه الذئاب طرفا فيها أو عنصراً مهماُ من عناصرها الأساسية أو الثانوية .،فذاع صيت الذئب وتناقلت أخباره الركبان وأصبح مادة خصبة لخيالات الشعراء و رواة الأحاديث الذين هم آفتها على مر العصور .
قالت جدتي:
تخيلنا في فترة ما أن ذلك الذئب هو قدرنا، وأن السماء قد وهبته خاصية بسط نفوذه على هذه البقعة البائسة دون غيرها وأنه يتوجب علينا إرضاؤه و التسليم بمشيئة المقادير رغم معاناتنا مع مواسم القحط والجفاف و ندرة المراعي وانخفاض معدلات هطول المطر، واستمر الحال سنوات وسنوات و أهل البرية لا يملكون سوى الإذعان بخنوع لواقعهم حتى أنهم استمرؤوا هذا الخضوع بصبر مذل و لامبالاة عجيبة، إلى أن جاء يوم كان من أحلك أيام البدو في كل مكان، عندما تعرض موكب عروس ابنة زعيم العربان لغزوة شرسة كان بطلها ذلك الذئب اللعين الذي أعمل أنيابه الحادة في بطن العروس ففارقت الحياة وسط عويل النسوة وبكائهن المرير.
تنهدت جدتي وأردفت: كنت شابة جميلة أنا أيضا وكنت على ظهر ناقتي القريبة من هودج ابنة عمي العروس ( مكاسب ) … ورغم ما عرف عني من قوة وشجاعة إلا أنني فقدت الوعي من مشهد الدماء تسيل على الثوب الأبيض ومن رؤية الذعر الذي دب في المكان، وهالني ارتباك الرجال وتفويتهم الفرصة لاقتناص ذلك الذئب الغادر برصاص بنادقهم التي كانوا يتراقصون بها منذ قليل ابتهاجا بعرس ابنة الشيخ حبيب، شيخ شيوخ منطقتنا والمناطق المجاورة .
وعند عودتنا قرر حكيم البادية أن يجتمع بأهل الحل والعقد ليتدبروا حيلة ما تخلصهم من هذا العدو المخاتل الذي فشلت كل خططهم السابقة في إبعاده أو القضاء عليه، وبعد ساعات من الجدال و تبادل الأفكار أوحت لهم امرأة مسنة بفكرة لمعت في أذهانهم جميعا وكأنها هبطت عليهم من السماء فشرعوا في تنفيذها على الفور، قاموا بحبس أغنامهم ومواشيهم في الحظائر لثلاثة أيام متواصلة و ذبحوا شاة مكتنزة و وضعوا آليتها المتخمة بالشحم و الزرنيخ على مقربة من مغارة الذئب باتجاه الشمس . . وحينما فشلت جولات الذئب في اقتناص طعامه كعادته شم رائحة الدهن المنصهر فاقترب من كتلة الشحم المغرية ولسان حاله يردد:
والله يا لية مانك بلا بلية …والله يا لية مانك بلا بلية .
و عقله في صراع بين تلبية نداء بطنه والخوف من مكائد العربان . قبل أن يختفي تماما من تلك الربوع القصية.