علاء طلال طبال | سوريا
(غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ. كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ) (مز 42: 7)
نفرُّ مِنَ الواقعِ باللَّوْذِ بهِ بالانغماسِ فيه حتى القعرِ وحدَّ التلاشي بينَ طياتهِ… إنَّها أفضلُ وسيلةِ هروبٍ من الواقعِ ورثناها من أسلافنا «الهومو إرغاستر»، أقولُ إنَّها أفضلُ الوسائلِ لأنَّ التجربةَ عبرَ مختلفِ الأمكنةِ والأزمنةِ تُثبتُ أنَّنا حينَ نعملُ نتخلصُ ندفنُ نواري نحجبُ نُبطلُ… -استخدمْ مِنْ كَلمِ الإخفاءِ وجوامعهِ ما تشاءُ أيُّها القارئُ- تشوهاتنا النفسيَّةِ اضطرابتنا وفراغتنا العاطفيَّةِ، وهواجسَ معنى الحَياةِ وجدواها لبنيّ البشرِ، وبالتالي فإنَّ أنجحنا في العملِ أشدُّنا هروباً لا موهبةً مثلي أنا. أمَّا عنْ مسألةِ العملِ في سبيلِ المالِ فإنَّها وَلا غَرْوَ حقيقةٌ لكنَّها تُقبعُ وراءها أزمةَ وجودنا.
أُدْعَى الأُستاذَ يسمونني أستاذاً ينادوني أستاذاً دوماً ومَرَدُّ ذلكَ نسياني اسمي، فآخرُ مرةٍ نُوديتُ بهِ كانتْ منذُ زمنٍ بعيدٍ على لسانِ عزيزةٍ عليَّ وهي تعاني منْ سَكَراتِ المَوتِ. رحلتْ آخذةً معها اسمي تاركةً لي أشياءً صغيرةً لا غير، كانتْ تتجشأُ وتضرطُ كثيراً دون قصدٍ.. بالأحرى دونَ وعيٍّ منها نتيجةَ طفرةٍ، وعندما تفعلُ ذلكَ تعاتبني على عاداتي السيئةِ تلكَ، ساعتها أتذرعُ بأيِّ حجةٍ لأتملصَ من الحديثِ عمَّا تعتقدُ أنني أفعلهُ باستمرارٍ، أو أقولُ لها اعذريني لقدْ اضطررتُ أو أقولُ اعذريني لن أُكررَ فعلتي لأنني لا أحتملُ كسرَ خاطرها… لمْ تبقِ لي سوى هذي الأشياءِ التي تسمونها عيوباً، سلوكاتٍ تُجافي الآدابَ و«الإتيكيت»، بَيْدَ أنَّها ذكرياتٌ تليقُ بأعزائنا مشاهدٌ عفويَّةٌ أفتقدها جداً في حياتي الآن… ولكنْ لنعودَ للحديثِ عمَّا كُنتُ بصددِ كتابتهِ: أُدْعَى الأُستاذَ أُسمى الأُستاذَ أُنادى الأُستاذَ، الأُستاذُ بألِ التعريفِ في «المُؤسَّسةِ» والحيِّ.. ويدوَّنُ اسمي هذا في دفاترِ الدائنينَ هكذا «الأُستاذُ» بخطٍ غامقٍ عريضٍ وتحتهُ خطوطٌ -ثلاثُ خطوطٍ في الغالبِ- كاسمٍ ثُلاثيٍّ. وقدْ التصقَ الاسم بي عنْ طريقِ الصُدفةِ المحضِ، إذْ لمْ أمتهنْ التدريسَ بدافعِ تلبيَّةِ رغباتٍ تُلحُ عليَّ بلْ امتهنتهُ لأنَّهُ أولُ وظيفةٍ قُبلتُ بها، ولمْ أطمحْ دهري تعليمَ الناسِ ما سيعيشونَ وكيفَ يعيشونهُ، أيْ أنني لمْ انخرطْ في السلكِ التعليميِّ لمْ أعمل في «المُؤسَّسةِ» لأكونَ ما يشبهُ الفقيهَ. وإذا شئتمْ معرفةَ ما أحببتُ وأُحبُّ أنْ أكونهُ فأصرحُ أنني رغبتُ أنْ أُصبحَ مؤلفاً، كاتباً بساعاتِ عملٍ حُرَّةٍ.. بصيغةٍ أُخرى «كاتبٌ فريلانسر» ذو دخلٍ مفتوحٍ وراتبٍ ثابتٍ ومكافآتٍ جزيلةٍ، وليسَ أنْ أُنفقَ سحابةَ يومي في التعاملِ مع أفرادٍ بليدينَ لا يعيرونَ التعليمَ النظاميَّ أدنى اهتمامٍ ثُمَّ أُمارسَ الكِتابةَ هِوايَّةً كما أفعلُ الآنَ.
إنْ كانَ ثمةَ إلهٌ فإنَّهُ يُشيِّأُ الأشياءَ ويُقدِّرُ الأقدارَ وفقَ مِزاجهِ المُتقلبِ، لا يعني ذلكَ أنني أُطالبهُ بردودٍ فوريَّةٍ فانتازيَّةٍ كأنْ يُمطرَ منَ السماءَ ذهباً ما إنْ يدعي معوزٌ بذلكَ… ربما حدتْ عنْ وصفِ كيفيَّةِ إنجازهِ الأعمالَ بدقةٍ، ربما مثلما ذهبَ بعضُ «المعتزلةِ» إلى أنَّهُ خلقَ العوالمَ وما فيها ثُمَّ تركها لسُنَنِ الأكوانِ وقوانينِ الطبائعِ دونَ تدخُّلٍ منهُ، ربما فيما افترضتهُ أخطأتُ في سبرِ ماهيتهِ ولكنْ من المؤكدِ أنَّهُ ليس إله «أرسطو»، والحلُّ الوحيدُ لتغاضي عن كُلِّ شيءٍ يتعلقُ بهِ -أيْ كُلَّ شيءٍ- قفزُ قفزاتِ «كيركغور». لستُ قادراً على القفزِ ولا حولَ لي للقيامِ بالقفزِ إضافةً إلى أنْ لا دافعَ يدفعني لذلك، ببساطةٍ لا أستطيعُ، وكيفَ أستطيعُ ذلكَ وقد مثَّلتُ مِراراً أدوارَ الشخصيَّاتِ الهزليَّةَ التي يتوجبُ على الجمهورِ الضحكُ والتنكيتُ على مَصابها في برامجِ «تلفزيونِ الواقعِ» الإلهيَّةِ؟!. الإلهُ قهقه حين رجتوهُ وأنا أَشْرَقُ بِدموعي واقفاً قُبالةَ حبيبتي التي تَحتضرُ أنْ يمدَّ أَجَلها، الإلهُ ابتسمَ بملء شدقيهِ عندما لبَّى رجاءي بالوظيفةِ إذْ كانَ عارفاً ما سيحلُّ بي في «المُؤسَّسةِ». في «المُؤسَّسةِ» صَيَّرتُني «حمارَ شغلٍ» لا يبزُّ، يعملُ ساعاتٍ لا طاقةَ لفحولِ البسِيطةِ مجتمعينَ على تحمُّلها، ساعاتٍ تدفعهُ إلى الانهيارِ منَ البُّكاءِ خفيَّةً. والسببُ الرئيسُ لحدوثِ ما يحدثُ أنَّ الاستغراقَ في العملِ يُجنِّبكَ أقسى مواجهةٍ تتعرض لها، يُجنِّبكَ مواجهةَ نفسكَ. قبلَ الالتحاقِ بـ«ـالمُؤسَّسةِ» كُنتُ أستجيرُ مِنَ الضعفِ بِشدِّ عَضُدَيَّ، وبعدَ الالتحاقِ لمْ يفلحْ معي شيءٌ… كيفَ أوصِّفُ حالتي لكم؟.. مم… يمكنُ مقاربةُ حالتي في المؤسسةِ بالرغبةِ الجامحةِ بالردِّ ثُمَّ الصمتُ المُهينُ عِوَضَ الاستشاطةِ غضباً أو الاستجابةُ للذُّلِّ استجابةً عنينةً. فمع الأُستاذاتِ أُمسخُ كائناً مسحوقاً خادماً بكُلِّ ما تحملهُ الكلمةُ من معانٍ، إلى حدٍّ يدفعني إلى لعقِ كعبِ حذاءِ إحدهنَّ وتقبيلِ قدميها صاغراً راضياً بل وممتناً فيما لو أُمرتُ بذلك!، لا لا لا، لا أعتقدُ أنني مازوخيٌّ كما خطرَ ببالكَ فوراً… أعتقدُ أنني مُثقلٌ بمجاميعِ اضطراباتٍ، ففي أوقاتٍ أراني أُبدي أعراضَ الذُّهانِ، ومراتٍ أتصرفُ تصرفاتِ مضطربيّ الشخصيِّةِ اضطراباً شبهَ فصاميِّ، وغالباً ما تؤرقني خيالاتٌ شبهَ فصاميَّةٍ… وجدتها! أنا المعادلْ الموضوعيُّ لـ«ـالدكتور جيكل ومستر هايد»، فـ«ـجيكلي» أو «هايدي» بعدما يفعلُ ما يفعلهُ، يتساءلُ الثانيُّ مرتعباً عمَّا صنعَ ولِمَ، وبعدما ينخرطُ في نوبةِ استمناءٍ شرسةٍ يكونُ فيها امرأةَ أُستاذةٍ، يُذهلُ الآخرُ ويسخطُ فيعاركُ الأولَ حتى يقعيهما الإنهاكُ، ثُمَّ يستحضرُ بطلَ «ليرمنتوف» «بطلٌ من هذا الزمانِ».
ومذ بدءِ سلسلةِ الهوانِ تلكَ ما فَتِئْتُ أُنبِّشُ عنْ حُلولٍ، وإمعاناً مني في ذلكَ أَلَّفْتُ ذاتَ يومٍ مونودراما مسرحيَّةٍ من فصلينِ وعشرةِ مشاهدَ، إذْ حسبتُ أنَّ التسامي بحالتي وإعلائها الخشبةَ على مرأى ومسمعِ الجمهورِ سيُخلصني منها، غير أني أثناء وبعد العرضِ قوبل جهديَّ الفنيُّ بشتى أنواعِ الضحكِ، ورميتُ بمختلفِ صنوفِ «البندورة». الكُلُّ عابثٌ لاهٍ وأنا أُجرجرُ صليبي محزوناً، ومحزوناً خرجتُ من مسرحِ الحمراءِ بغير عودةٍ. ولاحقاً أعلمني المخرجُ أنَّ نصي جيدٌ فنياً غير أنَّهُ بحاجةٍ لبعضِ التعديلاتِ ليصبح نصاً كوميدياً، ولما أجاب عن استفساراتي «طبشتْ» السماعةَ.. الحقيرُ يبغي بناءَ ملهاةٍ رخيصةٍ على مأساتي. ولاحقاً أعلمني جارٌ يرتادُ المسارحَ كثيراً أنَّ مسرحيتي حوِّلتْ فصارتْ أكثر إمتاعاً وإضحاكاً من نُسختها السابقةِ، ساعتها هجتُ ومجتُ أزبدتُ وأرعدتُ أرعدتُ وأزبدتْ، وَطَّنْتُ العزمَ لمقاضاةِ السارقِ. وأثناء قيامِ بالإجراءاتِ طرقني طارقٌ صعقني، فتقصَّفتْ رُكبتايَّ وسقطتُ أرضاً وَسَطَ المُراجعينَ الرائحينَ والغادينَ في القصرِ العدليِّ. ما أنا جانٍ إنْ ربحتُ القضيَّةَ؟!، هذا لو ربحتها فأنا فقيرٌ والفقرُ رذيلةٌ رُغمَ أنفِ «دوستويفسكي».. بتعبيرٍ صحيحٍ رغم ما قالهُ الحكيمُ المصروعُ، لأنَّك في العوزِ لستَ قادراً على درءِ أذيَّةِ الناسِ لك ولا السوءِ عن نُبلِ عواطفكَ، والمعوزينَ حاسدينَ بالضرورةِ ليسَ لأنَّ أحداً ما يستحقُ الحسدَ، بلْ لأنَّ منْ لا يملكُ يشرئبُّ تواقاً لفضائلِ من يملكُ، فضائلُ الحزمِ والثقةِ والتشبُّعِ منَ الأساسياتِ وحُسنِ الملبسِ والتساوي مع الآخرينَ. وإنْ لم يُقنعكَ مقالي جُلْ بطرفك «أحياءَ المخالفاتِ» وبيوتَ الصفيحِ ولنْ يقعَ بصركَ إلَّا على القُبحِ، وأينما ارتحلتْ في أراضي العوزِ لنْ تتعثرَ بشيءٍ سواه.. أينما أقامَ الفقرُ جاءتْ الرذيلةُ صدقني.
وبعدَ عشراتِ التجاربِ جزمتُ ألَّا نهايَّةَ لحالي وأحوالي ستُقدمها الأرضينُ، فاتجهتُ صوبَ السماءِ قائلاً: بما أنَّ اللَّه يكرهني فلمَ لا أستعينُ بالشيطانِ؟ أحتاجُ قريناً مدفعيَّةً ثقيلةً تعدو على الأُستاذاتِ ودائنيَّ.. وعليَّ مثلَ «تايلر دوردن»… لكنَّ احتماليَّةَ ظهورهِ في بلدٍ اشتراكيٍّ تكادُ معدومةً.. إذنْ ينقصني كائنٌ قويُّ الشكيمةِ مثلَ، مثلَ.. مثلَ… مثلَ، «فينوم»! أجل «فينوم»، وسرعانَ ما حوَّمتُ حولَ أحياءِ الدارويشِ وطفتها، وما قصدتُ دارَ شيخِ الطريقةِ العلامةِ «البيضون». لا أخفيكم أنني تخوَّفتُ من حشرهِ عُكازهُ في إستي حينَ ساءلني عن عدمِ اللجوءِ إلى اللَّهِ مباشرةً، ههه أأقولُ أنَّ الله لا يطيقني؟ تخوَّفتُ ذلكَ بشدَّةٍ فما كانْ مني إلَّا أنْ أتملقهُ، وأنْ أُثني على فضلِ أهلِ اللَّهِ على العبادِ، وأُعددَ مآثرَ كراماتهم وما لها من آثارٍ. كما لا أُخفيكمْ كمْ ليَّنتُ عريكتهُ بمعسولِ كلامي، وكمْ كيلو «صفيحةٍ» طلبَ مني! فاضطررتُ إلى مراكمةِ ديونٍ فوقَ شاهقِ ديوني لانخداعي وقتها بأنني أدفعُ بخساً في سبيلِ تجارةٍ تُنجيني من عذابٍ أليمٍ مقيمٍ. وظللتُ مخدوعاً حتى تلاشى القرينُ، وإبَّانَ خداعي جهرتُ بفضائلِ وفضلِ منْ لا يحالُ بينَ يديهِ محالٌ وليُّ اللهِ «البيضون». «البيضون» جلبَ قريني من فجٍ عميقٍ، وكيفَ لا يجلبهُ وقد أتى على خمسينَ كيلو «صفيحةٍ» بأصابعهِ العشرينَ؟! نعم، نعم! إنني واثقٌ تمامَ الثقةِ أنَّ ما عاينتهُ في الحضرةِ كان قريناً.. صحيحٌ أنَّهُ لا يطابقُ ما رسمته «مارفيل كومكس» حرفياً، لكنَّهُ يبقى قريناً ويفوقُ «آصف بن برخيا» سرعةً. والدليلُ أنَّه أحضرَ لي كأس ماءً قُبيل طرفي بعيني وأنا مستغرقٌ في رقصةِ الحضرةِ!، ولكنْ مع الأسفِ تبخَّرَ ابتلعهُ العدمُ أثناءَ أدائي «السولو» وَسَطَ حلقةِ المجاذيبِ. سألتهم ساخطاً الأسبابَ فاكتفوا بِحكِّ كروشهم وهرشِ ذقونهم متفكرينَ، ولكي ينقذ العارفُ مريديهِ من هذا الموقفِ المُحرجِ جاراهم في البدايَّةِ، ثُمَّ دونَ سابقِ إنذارٍ نفخَ صدرهُ ورجَّفَ أصابعهُ ترجيفاً أوبرالياً، ورماني بالكُفرِ والهرطقةِ والزندقةِ… وغيرها من كليشيهاتِ رجالِ الدينِ «المنيوكين»، وطردني ركلاً على مؤخرتي.
تتساءلونَ عمَّا فعلتهُ لاحقاً تتساءلونَ عن التجربةِ التاليَّةِ، تتساءلونَ وتتساءلونَ لكني اكتفيتُ، عاودت متابعةَ السيرِ في طريقِ الحلِّ الغابرِ رغمَ إماطتهِ اللِّثامَ عن عيوبي فجأةً حتى وأنا في فرطِ التعبِ، عاودتُ المسيرَ إلى أنْ أدارَ لي ظهرَ المَجَنِّ. سابقاً ومع مُزاحهِ السمجِ كانَ يقيني شرَّ الوحدةِ.. الوحدةُ أمرٌ مرعبٌ لا يضاهيهِ رعبٌ، الوحدةُ رعبٌ عندما تكونُ وحيداً وأنتَ بينَ الجميعِ، بين جموعٍ يشعرونكَ بها وأنتَ بينَ ظَهْرانِيهم. للوحدةِ نغمٌ مُصمٌّ يُراودكَ إذا ما تنبهتَ لأزمةِ الوجودِ، الولادةُ ثالثةُ الأثَافِيَّ والجنسُ ووهم الكمالِ أحجارها ونارها. الرجالُ يسعونَ لاهثينَ إلى إنجابِ دزينةِ أطفالٍ قبلَ بلوغهم الأربعينَ، لاعتقادهم أنَّ هذي الكائنات إرثهم الأوحدَ مُلكيَّةٌ شخصيَّةٌ يجبُ تَشْيِّؤها على غرارهم، وأنَّهم بذلكَ يفضِّلونَ على العالمينَ بأفرادٍ لا يقارنونَ.. مثلهم بالضبطِ. هؤلاء الرجال -وما أكثرهم- بعدما يحققونَ غايةَ حيواتهم، يوصونَ أبناءهم وهم على فِراشِ الموتِ بضرورةِ إعادةِ سيرتهم الأولى سيرةَ الإنسانِ القَوِيمِ. الرجالُ ينجبونَ أطفالاً بِالجُملةِ، فيضطرونَ للعدوِ وراءِ لُقمةِ العيشِ، ولقمةُ العيشِ وفقَ بسطاءِ العقولِ كفيلةٌ وحدها بتربيتهم قولبتهم. ينجبونَ ويطعمونَ لا غيرَ، أمَّا ما يمرُّ به الابن من مواقفٍ وما يعانيهِ من مشاعرٍ مسائلٌ تافهةٌ خرائيَّةٌ سيتجاوزها وحده، ينجبونَ ويطعمونَ فقط، وذلك الأمرُ بنظرهم أمرٌ شاقٌ لا يستطيعونَ معه الالتفات لاحتياجاتِ أبنائهم وضرورةِ تواجدهم معهم، ينجبونَ ويطعمونَ.. يصرخونَ: «كس أمك»! أو يصرخونَ: «حلْ عن إيري» اذهبْ لأُمِّكَ القحبةَ وأخبرها!… ما أكرهَ أبي ما أكرهَ الله.
الشهادةُ هي الحلُّ شهادةُ الفكرةِ، شهيدُ الفكرةِ يقتلُ الطغيانَ وهو مَيْتٌ ويحركُ الجموعَ منْ غياهبِ قبرهِ. المثلُ لا تُرى في ذاتها وبذاتها المثلُ تُرى بشخوصها، «الجوكرُ» أعظمُ شهداءِ الفكرِ، «الجوكر» ثوَّرَ الجموعَ على النظامِ حياً ثُمَّ ميتاً مُبرهناً أنَّ القوانينَ صنعها القويُّ ليلتهمَ الضعيفَ، وأنَّ العدالةَ مجردُ تعبيرٍ مُنمَّقٍ لما يَرْتَئِيهِ القويُّ المسيطرُ. داهمني هذا الخاطرُ وأنا مُمدَّدٌ على الأريكةِ، وعقدتُ نيَّةَ التنفيذِ بحلولِ الصباحِ الباكرِ. صبغتُ شعري طليتُ وجهي ولبستُ اللَّبُوسَ، ويمَّمتُ «المُؤسَّسةَ». حققتُ سلسلةَ نجاحٍ باهرٍ بحملِ الرعبِ لأُستاذاتٍ وحملهنَّ على الولولةِ، إلى درجةٍ دفعتْ إحداهنَّ إلى التبوُّلِ على نفسها خوفاً. ولولا الأُستاذةِ الأجنبيَّةِ لكنتُ أعلنتُ انتصاري على الملأ عبرَ إذاعةِ «المُؤسَّسةِ» وأضرمتُني بالمكانِ. لمْ يحرك شعريَّ الأخضرُ الباهتُ زغبةً شقراءَ من زغبِ جسدها الطريِّ الناعمِ الأبيضِ، ولمْ يُرعبها مسدسُ الخرزِ ولا تهديداتي. ابتدأتْ هزيمتي ببصقاتٍ رشيقةٍ منْ شفتيها الكرزيتينِ تقطَّرَ إثرها الصباغُ. قاومتُ ويا ليتني ما قاومتُ، فمقاومتي أسفرتْ عن إذلالي مجدداً على يديها. صفعتني مدَّدتني على طاولةِ مكتبها مزقتْ زيَّ «الجوكرِ» الأسمالَ التي راكبتها بُغيةَ الادخار، وبالمسطرةِ الخشبيَّةِ ساطتْ مؤخرتي قائلةً بين شتيمةٍ وأُخرى: تلميذٌ مشاغبٌ! لا ريب في أنكم تنعونَ عليَّ هواني وخَوَري، ولكنْ ماذا أصنعُ وأنا تائهٌ بين لكماتِ «جيكلي» و«هايدي»؟!… صدقوني هذا ليس أسوأ ما ألمَّ بي وقتها، أسوأ ما جرى أنْ الدائنينَ الذينَ جستُ في محالهم و«علَّمتُ عليهم» بمهرِ جباههم بـ«ـنبيّراتٍ»، جاءوا مهرولين نحوي ومهروني بـ«ـباركوداتٍ»، حتى قضيبي لمْ يسلم من أذاهم.
«تبركدتُ»، خُيِّرتُ بينَ سدادِ ما عليَّ وبيعي فاخترتُ الهروبَ، رفستُ الأُستاذةَ، نطحتُ دائناً انقضَّ عليَّ وعدوتُ إلى الخارجِ نصفَ عارٍ. دائماً ما كُنتُ احتفظُ بأوراقٍ وأقلامٍ في جيوبِ معاطفي وستراتي، ولحسنِ الحظِ أنني تركتُ ما أكتبهُ في المعطفِ «الجوكريِّ». أنفاسي تتقطعُ.. عاجلاً أو آجلاً سيقبضونَ عليَّ ويطحونني أرضاً… إلَّا إذا.. إلَّا إذا… وجدتها! إلَّا إذا فررتُ إليكم.. أيُّها القُراءُ أنتم تعرفونني جيداً الآن، وأنا أعرفكم… أعرفكم منذُ زمنٍ بعيدٍ، كنتُ وما أزالُ أمشي بينكم بين الصفوفِ أمامها وراءها لكنكم تتجاهلونني، تنصرفون إلى أعمالكم لتتحاشوني وذواتكم المهملة… أنفاسي تتقطعُ.. ابتعدوا! ابتعدوا فوراً عن الصفحاتِ! أبعدوا رؤوسكم! أفسحوا لي المجال لأتجهَ نحوكم!… إنني قادمٌ إليكم!
-انتهت-