مواقف من حياة المتنبي.. !!
توقفنا مع المتنبي في ساعات كثيرة ومواقف عديدة من قبل في لقاءات فاصلة تحمل أحداث عايشها أمير العربي شاعر العربية الكبير الذي شغل الناس حتى يومنا هذا..
أليس هو القائل:
ولو أن الحياةَ تَبْقَىْ لحيٍّ، لعدَدنا أضَلَّنا الشُّجعانا
وإِذا لم يكنْ من الموتِ بدٌ، فمن العجزِ أن تموتَ جبانًا.
وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا
وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا.
فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ .
مع مواقف المتنبي
= الموقف الأول:
بين المتنبي وسيف الدولة الحمداني في مجلسه:
دخل الشاعر المتنبي يوماً على سيف الدّولة الحمداني في مجلسه وهو مضطجع متمدّد. فأنشأ ينشد:
لكلّ امرئ من دهره ما تعودا.
ففزع سيف الدّولة واعتدل في مجلسه فجأة ثمّ خاطب المتنبي قائلاً: أعد ما قلت.
فقال أبو الطّيب:
لكلّ امرئ من دهره ما تعودا / وعادة سيف الدّولة الطّعن في العدا
فاستحسن الحمداني ذلك.
وبعد خروج المتنبي سأله جلساؤه: لم اعتدلت في جلستك فجأة ولم تدعه يكمل البيت؟! فرد ّعليهم ضاحكاً بقوله:
خشيت أن يغلبه شيطان شعره وارتجاليته المعهودة.. إذ رآني على ذلك الحال في تمددي واضطجاعي.. فينشد قائلاً:
لكل امرئ من دهره ما تعودا / وعادة هذا الوغد أن يتمدّدا.
= الموقف الثاني:
بين المتنبي والوراق:
تجمع كتب التاريخ الأدبي على أن المتنبي في صباه كان يقضي معظم أوقاته عند الوراقين (من ينسخون الكتب ويبيعونها)، واكتسب علمه من هناك. يقول عنه وراق: “ما رأيت أحفظ من ابن عبدان (لقب أبيه كما يدعي الرواة)، كان عندي اليوم وقد أحضر رجل كتاباً نحو ثلاثين ورقة ليبيعه، فأخذ ابن عبدان ينظر فيه طويلاً، فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون، إن شاء الله، بعد شهر.
فقال له ابن عبدان:
فإن حفظته في هذه المدة، فما لي عليك؟ قال أهدي لك الكتاب.
قال، فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه، حتى انتهى إلى آخره”.
وتقول الحكاية إن المتنبي أخذ الكتاب ومضى بمباركة صاحبه.
= الموقف الثالث:
المتنبي في بلاط سيف الدولة ينشد قاعدا على غير العادة :
كان أبو العشائر، ابن عم سيف الدولة وواليه على أنطاكية، وكان المتنبي عنده حين زاره الأمير عام 337 هجرية، فقدمه إليه، وأثنى عليه، واقترح أن يكون مكانه في بلاطه.
وحين عرض سيف الدولة دعوته على المتنبي اشترط عدة شروط منها: – إذا أنشد الأمير مدائحه أن ينشدها وهو قاعد. – ألا يكلف تقبيل الأرض بين يديه.
والغريب أن سيف الدولة وافق على شروط المتنبي، على الرغم من احتجاج الشاعر الأمير المعروف أبي فراس الحمداني، ابن عم الأمير.
= الموقف الرابع:
المتنبي مع كافور الإخشيدي:
كان المتنبي أحد أشهر شعراء العرب ، وهو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي ، وقد ولد في الكوفة عام 915 م ، وقد لازم المتنبي سيف الدولة الحمداني في حلب سنوات طويلة ، وكان سيف الدولة يغدق عليه العطاء كما كتب المتنبي في سيف الدولة عدد من أفضل قصائده في المدح.
وفي أحد الأيام وقع خلاف بين المتنبي وشاعر أخر يدعى ابن خلويه أثناء تواجدهما في مجلس سيف الدولة ، فقام ابن خلويه وضرب المتنبي في وجهه بمفتاح كان يمسكه في يده فشق وجهه ، ولم يتدخل سيف الدولة للدفاع عن المتنبي فشعر بالغضب وخرج من مجلس سيف الدولة واتجه نحو دمشق وظل هناك حتى وصلته دعوة من كافور الإخشيدي حاكم مصر وأجزاء من الشام في ذلك.
قرر المتنبي أن يرحل إلى مصر، وكان الإخشيدي وهو من حكام الدولة الإخشيدية في مصر والشام أسود اللون مشقوق الشفة والقدمين لأنه كان من الحبشة وقد عانى كثيرًا من الرق ، ولكنه كان قد تعلم القراءة والكتابة وارتقى من مرتبة العبد حتى استطاع أن يصبح حاكم الدولة الإخشيدية ، واشتهر كافور بحبه للأدب فكان يقرب الشعراء وأيضًا رجال الدين إليه ويجزل لهم العطايا.
المتنبي يمدح كافور:
ولما علم المتنبي أن الإخشيد يرعى الأدباء والشعراء ، ولأنه كان من ألمع شعراء عصره ، فقد قرر أن يذهب إلى كافور طمعًا في عطاياه وكان يطمع أيضًا أن يحصل عنده على منصب هام في الدولة الإخشيدية ، وبالفعل ذهب المتنبي لمصر وتقرب إلى كافور وبدأ يمدحه بعدد من القصائد الشهيرة:
حببتك قلبي قبل حبك مــن نأى * وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فإن دمــوع العين غــــــدر بربها * إذا كـــــن إثر الغادرين جواريا
ولكن بالفسطاط بحـــر أزرته * حياتي ونصحى والهوى والقوافيا
المتنبي يهجو كافور:
وبالفعل قام كافور بإجزال العطاء لأبو الطيب المتنبي ليس لأنه مدحه فقط ولكن لأن كافور كان يعلم أطماع المتنبي ويعلم أنه نابغة شعراء عصره وأنه يمكن أن يهجوه كما فعل مع سيف الدولة الحمداني من قبل ، ولكن المتنبي كان يطمع في أكثر من ذلك ، فلما لم يحصل على ما تمناه قرر أن يغادر مصر وقام بكتابة قصيدة هجاء في الإخشيدي ، وهذه القصيدة من أشهر قصائده ، ويقول في مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد * بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم * فليت دونك بيداً دونها بيد.
= الموقف الخامس:
مع البيت الذي تسبب في مقتله:
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ.
وهذا بيت مشعر المتنبي فيه تتجلى قيمة الفلسفة والحكمة والبلاغة بصورها الفنية..
حيث فيه مدح وذم وعتاب.. فمدحه بأنه أعدل الناس، ولكن الذم والعتاب هو أن هذا العدل لا يشمل الشاعر، فيقول لسيف الدولة:
“أنت أعدل الناس إلا إذا عاملتني، فقد حدث خصام بيننا، وأنا لا أستطيع أن أحاكمك لغيرك لأنك ملك، حينها تكون أنت الخصم وأنت الحكم بيننا، فأين العدل إذًا؟!.
= الموقف السادس:
المتنبي مع الوزير الصاحب بن عبّاد:
ويُقال أنّ “الصّاحب بن عبّاد” كان عدواً للمتنبّي، وكان وزيراً من أشهر الوُزراء ،لكنه يكره المتنبئ حسَداً، وكان المتنبي لا يمدح إلا الملوك أما الوُزراء فلا، وربما مدَحَهم، لكنّه رفض أن يمدح الصاحب بن عباد، فوقع بينهما ما وقع من خلاف !
وفي هذه القصيدة التي مدح فيها سيف الدولة الحمداني ثم ينتقل إلى الاعتزاز بنفسه فخرا ومجدا في تيه.. وقد حملت هذه القصيدة للمتنبي هذا البيت:
والخيل والليل والبيداء تعرفني..
والتي هجى فيها فاتك ابن أبي جهل الأسدي، حيث ان هذه القصيدة حملت المدح والفخر للمتنبي وهي من القصائد التي كان يلقيها والحروب التي خاضها، وهذا الذي كان سببا في قتله..
وقد كان في رحلة لم يرافقه فيها سوى غلامه مفلحا وابنه مُحسدا ، وقد قطع عليه الطريق فاتك بن أبي جهل فهم بالهروب إلا أن غلامه ذكره بالبيت الشعري فقال أتهرب وأنت من قال:
والخيل والليل والبيداء تعرفني..
فعاد عن الهرب حتى قتل مع ابنه وغلامه على يد فاتك.
وبهذا يكون قد طويت صفحة شاعر العرب وشاغلها ولِمَ لا فإنه المتنبي أمير الشعر العربي الذي دوخ الأمراء والشعراء والنقاد والباحثين حتى يومنا هذا..!.
وُلد أبو الطيب المتنبي في الكوفة بمحلة كندة بالعراق في القرن الثالث الهجري وتنقل في الشام ومصر وأنطاكية وأنقرة وتوفى بالنعمانية قرب محافظة واسط.
وقال: أنا أول من تنبأ بالشعر !.
وقد عشق محبوبة يقال لها ” خولة ” ومما قاله عن العشق:
ﻭﻋَﺬَﻟْﺖُ ﺃﻫْﻞَ ﺍﻟﻌِﺸْﻖِ ﺣﺘﻰ ﺫُﻗْﺘُﻪُ / ﻓﻌﺠﺒﺖُ ﻛﻴﻒَ ﻳَﻤﻮﺕُ ﻣَﻦ ﻻ ﻳَﻌﺸَﻖُ
ﻭَﻋَﺬَﺭْﺗُﻬُﻢْ ﻭﻋَﺮَﻓْﺖُ ﺫَﻧْﺒﻲ ﺃﻧّﻨﻲ / ﻋَﻴّﺮْﺗُﻬُﻢْ ﻓَﻠَﻘﻴﺖُ ﻣﻨﻬُﻢْ ﻣﺎ ﻟَﻘُﻮﺍ.
مع الوعد بساعة أخرى مع المتنبي نمسك بالجواهر التي نستخرجها من فيض حياته ومواقفه دائما.