قراءات

رواية المُجنّد…أعراض أزمة الانتماء

مهنّد سليمان

غلاف رواية (المجند)

مرة أخرى نُقاد عبر صفحات جديدة إلى التاريخ، ونُقذف نحو أغواره السحيقة وذلك من خلال الرواية المعنونة (المجند) التي كتبها الأديب الإريتيري “غيبريسوس هايلو”، وتولى ترجمتها للغة العربية المترجم “فرج الترهوني”، لتُقدمها للقراء دار الفرجاني للنشر والتوزيع لأول مرة عام 2022م، وهي حسب المصادر المذكورة تعد أول رواية في تاريخ الأدب لإريتريا تكتب باللغة التغرينيّة إحدى أقدم اللغات المحلية في إفريقيا، وقد نشرت عام 1950م وسط أصداء احتفائية مُرحِّبة بالعمل ومدى جودته.

في هذا العمل الأدبي المقتن الذي برغم صغر حجم صفحاته بيد أنّه رصد بين دفتيه ما أسقطه بعض المؤرخين عن أضواء المكاشفة ومعرفة ما جرى في تلكم الحقبة الحسّاسة من التاريخ، جاءت رواية المجنّد وفق إيقاع وثّاب لا يلبث القارئ أن يترك صفحاتها حتى يتممها، حيث نكتشف بأن الخيال بين سطور المجنّد ورّط الواقع معه في لعبة سرده حيث تتداخل خيوط العمل مع وقائق كانت ولازالت نقطة غارقة في مجاهل الذاكرة بالنسبة لنا حول تاريخ تضاربت إزاءه الروايات ذاك التاريخ الذي نحتاج لقراءته جيدًا ، وتدبّر معطياته تبعا لصوغ ذهني نقدي وفاحص يقتفي آثاره وما ترتب عليها لاحقا من نتائج أعادت رسم توازنات القوى، وبناء التحالفات الجديدة وقتذاك.

مقاربة ملحمية
إن رواية المُجنّد تجيء لتنفض الغبار عن أفق الرؤية حتى نخرج بجملة من التساؤلات التي مرّت بمتن العمل، فطوال قراءتي للعمل تداركتني قصة قصيرة كتبها الأديب الراحل “علي مصطفى المصراتي” بعنوان (غائب في الحبشة)، وهي تروي تفاصيل تجنيد الإيطاليين لعدد من المواطنين الليبيين وارغامهم على الذهاب إلى أثيوبيا للقتال بمعيّة الجيش الإيطالي هناك !، ولم يكن لبطل القصة من بُد سوى أن يلتحق بركب التجنيد الجبري الذي فرضه المحتل أوان ذاك الزمن على أبناء ليبيا بيد أنه لم يلبث فور وصوله أن أعلن انشقاقه عن الإيطاليين، وانضم لصفوف المقاومة الشعبية الإثيوبية فقد كان مسكونا بإرث موطنه وحقيقة زيف مشروع إيطاليا الفاشي التوسعي الذي يهدف لاستعادة أمجاد قياصرة الإمبراطورية الرومانية في العالم ليُضرّج بدمائه على الأرض الأثيوبية دفاعا عن مبدأه الإنساني، بينما نرى في المقابل المُجنّد “توكوابو” يمارس سلوكا مخالفا تماما يحيد عن السويّة أو عن أهداف واضحة المعالم يمكن تفهّمها وإن اختلفنا معها إذ هو وأترابه من الإريتريين تدفعهم حميّة تظل محط استغراب للقارئ للقتال في ليبيا لدرجة أنهم ربطوا القتال في ليبيا بخصال الرجولة ومناقبها الحميدة (فكان الشباب يغنّون لا يرفض الذهاب إلى ليبيا إلا النساء) !!! ، وكذلك نرى الأطفال صارت أمنيتهم المثلى هي الانخراط بالقتال فيغنّون (عودوا إلينا لاحقا…يا طرابلس امنحينا بعض الوقت حتى نشب عن الطوق)، ولابد أن نوضح في هذا الصدد بأننا لا نُخضع قراءتنا الانطباعية هذه على قاعدة أنها وثيقة تاريخية مُثبتة وليّ عنق الخيال بقدر ما نحاول تقييم اتجاهات الوعي الجمعي للإريتريين إبّان تلكم الحقبة الزمنية والتي وظّف الخيال تجسيدها في هذه الرواية.

أزمة هُويّة
من هذا هذا المنطلق يأخذ التأويل منحىً آخر يتمثل في شكل التساؤل، فمالذي جعل أبناء إريتريا يصابون بكل هذا الحماس أو لنقل الحُمى الغريبة للقتال في بلاد ليست بلادهم، وبعبارة أدق لماذا أصرّ الفتى “توكوابو” على خوض غمار تجربة الحرب في بلاد تبعد عن بلاده آلاف الأميال ؟! وهو الأحق بالبقاء بين ظهرانيّ أبوايه لاسيّما وأنهما يشكران الله بكرة وأصيلا لأنه وهبهما إياه بعد سنوات كابداها فأم الفتى “توكوابو” كانت تفقد كل أبنائها فور ولادتهم، لقد حاول أبويّ “توكوابو” استجداءه مرارا وتكرارا ليُثنيانه عن الالتحاق بركب الموت والضياع لكن دون جدوى( وضع بندقيته بجواره، ثم ركع أمام والديه، وسألهما : باركاني يا أمي وأبي لأنني لا أعرف ما سيكون عليه مصيري في طرابلس) كيف لفتىً عفيٌّ يافع أن يقتنع بجدوى القتال خارج حدود موطنه والقتال تحت الراية الإيطالية ؟ الإيطاليون اللذين يستبيحون أرضه أيضا ؟! إننا لم نلمس منه أهدافا محددة ؟ كحاجته للمال وما نحوه تُعيننا على تسويغ مبرر ما لذهابه ؟! يبدو الضياع سيد الموقف مع الإريتريين اللذين تدافعوا بشراسة شاذة للقتال ببلاد ليست بلادهم ! الروائي هايلو أهمل ربما النحت في نفس الفتى “توكوابو” فلم يفتش كثيرا عما يريده الفتى ويحفر بعيدا في أقاصي نفسه البشرية بل اكتفى بتفسير سطحي غير مقنع خالٍ من التأمل.

التأزم الهوُيّاتي يطفو على سطح المشهد التحليلي للعملية السردية للرواية ككل ما يجعل القارئ يقف أمام حتمية حلقة مفقودة أضاع بوصلتها الكاتب، ومؤاد ذلك يُعزى لتفشي الجهالة بين أوساط الناس في المجتمع الإريتري حينها فلو كان “توكوابو” ذو وعي ما بعمق جذوره وشخصيته ما كان له يُقدم على هذا التهوّر، ولعله وأترابه ممن التحقوا بالحرب في ليبيا كانوا يمارسون وجها من وجوه الهروب للبحث عن هُويّة تُكسبهم شخصية ملمحية لكن لا يدري الهارب أن ما يهرب منه يسري تحت جلده يلازمه كظله أينما حل وحيثما رحل.

مقالات ذات علاقة

(قصيل) عائشة إبراهيم تستنطق جماليات المكان في “بني وليد”

يونس شعبان الفنادي

في وصف حالتنا: الحداثة المشوهة

المشرف العام

خفقان.. قراءة في أبيات الشاعر: جمعة بن هيبة

منى بن هيبة

اترك تعليق