دوران على الفاضي:
جمهور يردح ردحاً لا هوادة فيه بكل التهور المتشنج في الفوضى سالكاً منهجاً يتسم بالتخبط العمياني و في التشرذم الداخلي الذي يعجّ بالكراهيات المنفلتة من عقال المنطق والتروي، وفي حالة من التمزق الخطير جهوياً ويدورعلى الفاضي في سباق محموم وعجيب لدحرالخصم فارضاً واقعاً جديداً متهوراً متحيزاً لنظام منغلق على الذات بقيمه ومؤسساته التقليدية، يطرب لذلك ويعتز به شعراً مشتعلاً باللهب العاصف، ويفتخر به خطابةً تثير الانقضاض على الفريسة، مَغنى بكلمات تتدافع بين الظلام والنور دون أنْ تلتفت إلى حقيقة الاختلاف والوجود، شعرٌ شعبي مفتوح على شتى أنماط المديح والهجاء المبالغ فيه والتي تملأ فضاءات الـ”يوتوب” وتغزو بطون الـ”تيك توك” خالقةً مناخ سياسي واجتماعي خانق لا يطاق.
اعتماداً على هذه الرؤية:
وفي منزلةٍ مشابه لهذا هناك أفراد ينخرطون في هذا التهريج بنكهة المُنَفر المجاهر بالكراهيات التي تنتج غرائب الأوصاف بدون وعي أو دراية بكمية وحجم الأذى والضرر للصورة المروّعة التي يرسمونها للخصم في معظم الألفاظ والمفردات والخطابات المستفزة ولغة التنفير والتسفيه فتشكل شبكة منغلقة على ذاتها صارمة تسعى إلى تدمير الخصم وفي آخر المطاف لا تقود إلى اليقظة أو الوعي سواء كان ذاتياً أو اجتماعياً. هكذا يمكن أنْ يسال المرء: أليس هذا البلد في مجمله مهدد بالفوارق بمثل ما هو مهدد بالعجز عن رؤية الوفاق؟
جاذبية ساحرة:
جاذبية ساحرة يلتجيء اليها رهط من المجتمع والأفراد رسمها لهم و بذكاء عنيد وجذاب للغاية ذلك المُلهم شبيه الأسطورة ” القائد التاريخي” سليل الحماسة والخطابة النارية المتضاربة والساحرة و في نفس اللحظة ها هي تعود بانصارها إلى عصر ” ذهبي” مضى تحت رايته الخضراء وصوره الكثيرة السابحة في فضاء الأنترنت، وجاذبية أخرى لا تقل سحراً وغلواً تثير العاطفة وتخدّر الشعور و تعطل التفكير ولا تتطلب أي مجهود فكري تظهر لدى الزعماء الجدد الذين يفاخرون بفتوحاتهم الوهمية وأحلافهم العسكرية وسيارتهم العجيبة التي تعبّ الأرض عبّاُ من طراز فاخر، تملأ الشوارع و الأحراش قفزاً إلى الأمام باتجاه عصر ذهبي قادم لا محالة سهل التحقيق في واقعه و في أفاقه و في اقتحام أفاق التقدم.
هياج شعبي:
كلاهما قد خلق هياج شعبي تدفعه سيادةَ هوس التعصب الأعمى الكامن في البلاد والمنتشر على مواقع النت وقنوات التواصل الاجتماعي، كلّ لشيعته وانصاره يتحيز مُدافعاً عن أسوأ ما فيها مشكلاً بكل يسرغيرفطن لهذا الإطارالهش لما يُراد أنْ يعرف أو يُري أياً كانت وسيلة التعبير طالما له أثر الكبير يتركه في نفوس الناس واحتلاله الموقع الذي يعتقد جازماً أنّه يستحقه.
التماهي الأعمى:
فهذه عدوى منتشرة كالنار في الهشيم للتماهي مع “القائد المنتظر” إلى حد الجنون والانجراف إلى الأوهام وتفشي مظاهر الانحراف والزيغ والتهميش والتصدع لما يشبه الغفلة والهلكة هذا في جانب ذلك المخلص الغائب الحاضر في العقول القادم من رحم ” الجماهيرية” والتاريخ، وفي الجانب الآخر المنافس للتماهي مع الزعماء الجدد الذين يملؤون الأفاق بطلعتهم البهية وزيهم المدني الفاخر ولباسهم العسكري المتلون بشؤون المناورة والميل إلى التسامي بالنفس على حساب نفوس البشر وأحلامهم.
في حين وبدرجة كبيرة هناك تعامي كامل لأختلال الأوضاع في البلاد وفي فشلها المستمر، بل والتاريخي في بناء دولة مست قرة مزدهرة وكأنّ الأمر لا شأن لهم به ولا يعنيهم في شيء، ولا احد يكترث ولا أحد يريد مواجهة هذا الفشل وجها لوجه. إنّ الديباجة واحدة جاهزة تراها واضحة في الطرفين مهما أختلفت الوقائع وتنوعت خصوصيات الشعر وبراعة الشعراء و أجواء الغناء ومهما زاد الصياح في وجه الريح.
هذا الزمان وتحوّلاته:
تازيم العلاقات الجهوية والتخندق في صفوفها بدلاً عن التسامح والتفاهم والتلاقي أضحى سمة واضحة لتعزيز توتير الأجواء العامة والعزلة وخلق شتى أنواع الخطابات المتشنجة ما أدى إلى العيش في حالة من السيولة السياسية المتآكلة أصلاً التي تظهر بوضوح في هدر الأستقرار الداخلي في البلاد.
الوطن الغائب:
الوطن غائب عن الأذهان بلحظة، ويبدو أنّ بقاء الأسراف في فتنة الثرثرة والكراهية المنفلتة باقية طوال عمر البلد.
أمثلة تفيض بحب الذات:
مثلاً في فضائية مازالت تصف الطرف المخالف بـ”الجرذان” وتهدي لهم أقبح النعوت والشتائم والسباب و الغلبة و الكراهية المستمرة، مع عدم القدرة و العجز المطلق على فتح ألباب المشروع الهادئ لتذوق الحرية و التسامح وفتح الآفاق أمام العقول، هذا ويصر الناشر لنيرانها أصراراً عنيداً أنّه على حق مطلق ولا يمس هذا الحق من أيّ جهة الخطأ أو الشك وأنّه على صواب لا لبس فيه و أنّه ثابت على المبدأ لن يحيد عنه أبد الدهر و أنّه على إقتناع تام بما يؤمن به ولن يتزحزح من هذا الاعتقاد، في حين أنّه لا يستطيع أنْ يرى نقطة ضوء من حوله تمكنه من رؤية أنّ المختلف عنه له حق العيش في هذا الوطن، وأنّ الأنسان يعيش على خدمة هدف محدد: الوطن. أليس هذا ممكناً؟
ومثلٌ آخر يظهر على الـ ” تيك توك ” لشاب يقلد قائده في المظهر ومولعاً بفكرة هذا التقليد مع إضافة أخرى لهذا المظهرتراها في القبعة السوداء التي تغطي رأسه والتي يظهر على جانبيها شعره المنفوش أسية بمظهر” القائد “، حيث يظهر هذا الشاب متعصباً في الغالب لقائده ولا يرى إلا ما صنعه هذا القائد هو الجدير بالتبجيل والفخر وإذا ما دخل في هرج ومَرج مع شخص آخر معتقداً الإنتصارعليه يظهر لك الشرّر من عينيه علامة سحق الخصم ودحره. إنّها حالة الأعتزاز الوهمي في نقطة من الزمن في اللقطة الخيالية التي اتاحها له خيال النت المغشوش. وفي ساعة نسيان الوطن ومصيره المجهول وتجاهله بالكامل يظل يعيش في التمكين لجهة واحدة المتامهي معها: التجمد، المآرب المتعددة، والنزاع والتستر والمداهنة من أجل فوز “القائد الغائب” الكامن فيه بوار المسعى طوال التاريخ وهذا فرق هائل بين التسالي والفرجة الخاطفة على ” تك توك” وبين الخبرة القوية بالحياة والسرد التاريخي بما فيه رديء وسيء وما فيه من جيد وقيم فهو يحتاج إلى إلى مساحة زمنية تغطي معظم أو كل مراحله ليكون الحكم عليه عادلا ومنصفاً. للوهلة الأولى هذا الشاب أختار أن يسير في دربٍ ينوب عن الآخرين الذين يختلفون معه من خلال إلغائهم وليس من أجل التفاعل معهم ومخاطبة عقولهم. إنّ الحياة صارمة ولا تقيم وزناً لـ ” تيك توك” او لأيّ وسيلة تواصل أخرى كما أنّها لا تقيم وزناً للنوايا خاصة وأنّ الزمن في جريانه الأبدي “عاتٍ متدفق لا يعرف التوقف”.
لحظات خاطفة و مجنونة و جماهير مهتاجة ترفع اعلاماً مختلفة