شعر

خاصرة للصباح الجميل

الذكرى الأولى لرحيل الشاعر الليبي إدريس ابن الطيب

الشاعر الليبي إدريس ابن الطيب (صورة معالجة بالذكاء الاصطناعي)
الشاعر الليبي إدريس ابن الطيب (صورة معالجة بالذكاء الاصطناعي)

1
نجمةٌ للجبين الطليق وتنهيدة لي…
تلك زينبُ مدّت يداً باتجاه النجوم المضيئة…
(هل يا ترى ستقابل فارسها، أم تحيكُ تباريحها فرساً لخيالٍ يراودها…)
أنا (أوليسُ) هذي البلاد، ولكن زينبَ لم ترني بعد، ما كان لي غير أن أتبسَّم مرتبكاً في انبهاري، وأن اتحسّس لون نزيفي الذي لا يراه سوى وجع الأرض….
تدخلني – حينٍ تدخلني – باجتياح، ألاحظ حاجبها في ارتعاشته لمحةً حين يصبح بوابة لانهمار انوثتها في شرايين هذا الصباح، فتنشر غبطتها في دمي، وتسير الى زمن الاعتداد البسيط، تشفُّ لتصبح حدّاً لنصل، وخدا لزنبقةٍ، وتقول: أنا ها هنا، ليس بيني وبين العصافير فرقٌ، ولستُ أساوم في شعرةٍ من تمرد أجنحتي…
إنني امرأةً قد أحبُ، فنجمة قلبي المشاكس لمّا تضيء بعد، لكنها ستضيئ…

2
وردٌ لحنّاءٍ بهذا الكفّ..
قالتْ: لا تراودْني الى شركٍ يفاجئ صحوة الأشواق فيكَ، ولا تخفْ من فتنتي، فأنا ألملمُ فتنة الأشياء عندي اذ تغيب عن الذين يساومون الوهمَ في الأسواق، أخفيها عن الذهب المكدَّس في ذُرى أحلامهِم..
أنا ليس لَي تسعيرةٌ، لكنَّ لي طعماً كطعم الخبزِ..
ولهى اذ أشق طريق قلبي باعتداد براءتي وأهدهد الحلمَ الجميل الى صباح كالفراشة..
كنت أهرب نحوهاً منها لأدخل في وداعتها وأجلس تحت ظلّ شقاوة العصفور فيها، والقرنفل طالعٌ من تحت ضحكتها ومحتدم بإيماءاتها..
إيقاع روح البنت يصهل شارد الخطوات في فلوات روحي كي يلامس وحشتي..
لكنَّ زينب حين تنأى لا تغيبُ، ولا تغادرني تماما…
وأخاف أن أهْمى على حنّائها مطراً، أصارحها بأني عاشق لحلاوة الدنيا بها وبطعم بلدتنا، وأني هائم بهما معاً…
(أفيا تُرى ستحبّنا، وتحبها مثلي، وتفهم سرّها مثلي؟…)
أريق دمي على حنّاء زينب كي تراني عاشقَ الحلم.
المشاغب،
لا أهادن في حنين الأرض، لكن لست أملك غير عمري كي أقدّمه على قداسها…
(أفيا ترى ستقدم القداس مثلي، أم تفضل ان تزفَّ الى عريس فاخر؟)
هذي البلاد لَنا، وزينب لي…
أخاف جلالةُ الأشياء في معشوقتي، وأحبّ زينب…
يا فتاة الاستحالاتِ القريبة لا تخافي من نزيفي، امسحي خديك في وجعي وسوف أعمّد العصفور فيك قذيفة نحو الظلام لكي نرفرف في جناحيْه معاً…

سرد لما حدث
أخاصمُ الهذي القصيدة من دون ان يعرف الشعرُ… والحرب بيني وبيني، وزينب ضدي معي… لم ألامس فواكهها بنشيدٍ، ولم أتغزلْ بلونٍ يشاكسُني حين تشهر في وجه لعثمتي سيف عينيها…
أجلس في فُسحةٍ من أناقتها، وأخوضُ حروبي على ساحتي صامتاً، وأنادي هدوئي لينقذني من حلاوتها…
زينبُ المستحيلةُ والممكنة…
رأيتُ على بابها ألفَ تنهيدةٍ فرميتُ هنالك واحدةً ربما تتنهدُها ذات يوم…
هي المستدينةَ والدائنة..
لامتني كأيّ سُنوْنُوَةٍ، وسدتْ قلبها في يدي وحكتْ لي كثيراً، تفتح ورد المدينة تحت تنفسها، ورأيت الندى يتوامض عند تخوم طفولتها…
حدثتني كثيراً…
وكنتَ أحاولُ ان أتنفسَ كل الحروفِ…
ولكن زينب سيدة تتوامض مثل سراب بعيدٍ، تغيب لتدخلني، ثم تدخلني لتغيب…
وزينب شيءٌ من الوهم والاحتمالات والفتنة الكامنة…

3
خاصرةٌ للصباح الجميل وزنبقةً لي…
تلك زینبُ قالتْ: أنا وردةُ الوردِ، إني إلهةُ هذا المدى الواسع الفذّ، شعريةُ الانتمَاءِ أنا، ومشاغبةٌ كالعصافير…
ناريةُ الوقع، هادئةٌ كالخمائِل…
أرقُب نجماً بعيداً، أراوده كي يجيءَ ليخطفني ذات يوم.
على فرس أبيض…
قادمٌ نحو أطروحة النرجس البكرِ…
أعلم ان التي دخلتْ وجَعي ببريَقٍ وشيءٍ من الابتسام الوديع تغادرني حين تدخلني…
أتذوق طعم دمي في لساني، ولكنني لست أملك شيئاً من الأمر…
لا فرقَ ما بين زقزقةٍ والكلام الذي يتدفقُ من شفتيها…
ولا بين حلم پراودني كل موتٍ وهذا الحضور العنيف المباغت…
ما كنتُ أحسب أني سأجلسُ مرتبكاً من جديدٍ أمام فتاةٍ كما يفعل العاشقون الطريون…
لا شيء يشبه زينب إلا ابتسامتها والكيان الذي يحتويها، الكيان الذي تحتويه…
أناملها – حينما تتسكعُ فوق تضاريس منضدةٍ – تتصيّدُ أغنيةً لتمرِّرها في عروقي…
تقول: انا لا أبيع تنهد قلبي ولا أشتري الحوتَ في البحر، صادقةٌ كدموع الصغار، ولستُ أحبُّ سوى من أحبُّ، أحب الحديقة جداً بدون زهورٍ صناعيةٍ، أو محبّينَ من ذهبٍ، وأخاف الحديث عن الحب إن لم يكن ناصعاً كالزنابقَ أو هائلاً كالصواعق…
هذا نهارٌ يشردني في الغيوم
أسير إلى حيثُ لا شيءَ لي لأعودَ برمل، تضرَّج بالاشتهاءات…
شيءٌ من الخَلِم أنت، ولكنه حُلُمٌ يتنفّسُ كالمطرِ المتهلل يرشقني بهجةً…
ليس ثمة ما يفصل الآن بين ابتسامتها ودمي…
وأنا أعزلٌ إذْ أسير غداً باتجاهِ بشاشتها كيْ تزلزلَ ما قد تبقّى، لأدخلَ مندغماً في التفاصيل، أو أن تغادرني للأبد…


إدريس بن الطيب (خاصرة للصباح الجميل)، مجلة الناقد، العدد: 23، 1 مايو 1990م.

مقالات ذات علاقة

حسبت أننا

عائشة بازامة

أحلم أنني أكتب قصيدة عن الفراغ

عاشور الطويبي

من حفريات الطفولة

جمعة عبدالعليم

اترك تعليق