أحب ضوء الشموع في لوحات جورج دي لاتور، الشمعة التي تضيء وجه مريم المجدلية، أو تلك التي يذوب معها جسد السجين وزوجته تنظر إليه، الليل في لوحات دي لا تور لا يمثل الشر، بل يمثل الرؤى الشفافة و التأمل، الليل هو وقت الحزن، في الليل نجمة تتحدث إلى نجمة، يتلألأ الطريق الضيق إلى الذات، بعيدا عند تورم رأس النهار بسبب ضجيج سطوع الشمس، بعيدا عن إغراء الوضوح يجلس دي لاتور ليرسم الوجود الحي للأحلام، كل الاحتمالات التعبيرية للإضاءة الليلية نجدها في لوحات دي لاتور، يتحدث عن الحياة اليومية في الليل، القراءة، الحفلات الموسيقية، الوحدة، الانتظار، الألم، مصدر الضوء دائما شمعة، اللغة تسير في اتجاه الليل، الخيال الفني يسير في اتجاه الليل، الشعراء، الكتاب، الفنانون أكثر اهتماما بالليل من النهار، نحن نتحدث عن اليوم كأنه النهارفقط، الليل ليس له استقلالية ودائما ما يتم نسيانه عندما نتحدث عن اليوم، يبدأ اليوم مع شروق الشمس وينتهي مع غروبها، الإنسان يوقر تجارب النهار، أما تجارب الليل فهي بلا معنى بالنسبة له، الرسم، الكتابة، التأمل، الحب، التفكير في الحبيب، هذه التجارب الليلية بلا حركة، سكون الليل يرفض الحركة، في الليل هناك توق للخروج من الفوضى، الضوء يعيق مسار الأفكار، الليل يجعل الفنان يتصرف في العالم بهدوء، ضوء الشمعة تهزه نبضات قلب العاشق، تهزه تموجات الحلم القريب من اللهب، يقال إنّ أول أثر لشمعة وجد في أفينون في فرنسا، يعود تاريخ هذا الأثر إلى القرن الأول الميلادي، الرومان استخدموا شمع الفتيل، ”بليني” وصف الشمعة القديمة كمزيج من الأعشاب أو القصب و الشحم المذاب، وفي بعض الأماكن زيت الزيتون يستخدم بدلا من الشحم، الإنسان أراد التعامل مع الليل، أراد أن يكون الليل جولة تأملية، الشمعة تضيء المنزل أو المعبد، الشمعة تضيء وجه مريم المجدلية، حزينة مثل الحياة جميلة مثل الموت، مريم ذات الشعر الفضفاض تجري خلف كلمات المسيح، بملابسها القرمزية تجلس على الأرض قرب قدميه، عندما دخلت المجدلية إلى بيت الفريسي الذي طلب من المسيح أن يأكل عنده، كان هناك فتيل وزيت يضيء وجه المسيح، أحضرت وعاء من الألم ووضعت فيه قدميه، غسلتها بدموعها و جففتها بشعر رأسها، عند قدميه يسقط النور حيث لا وجود للألم، في ضوء لهب الفتيل كان اللقاء الأول بين المجدلية و المسيح، الفنان في لوحات جورج دي لاتور يعمل ضد الضوء، في النقطة التي لا يتمكن الضوء من الوصول إليها نجد تمجيد الضوء الخافت، عندما يكون الضوء قويا في اللوحة و من مصدر مركز تصبح الظلال أقل كثافة، الشمعة تحب الظلال وحركتها، في الظلال تستيقظ الروح وتجد كثافتها، جمال المجدلية ينبع من الظلام، اللهب يضع حولها هالة حمراء، ظلال طيات ثوبها تزيد من قوة جمال المشهد، رأسها منحنٍ إلى الأسفل لكن الظلال هي ما يُظهر الخضوع التام، الألوان تضعنا في النظام الليلي للصورة، الأدب أيضا يحب الليل، للكلمات المكتوبة نفس خيال الرسامين، بعض الذكريات لا تكتب، بل نستعيدها في شكل بصري للنظر إليها مرة أخرى، نعزل هذه الذكرى أو تلك و نضعها في إطار أمام نظرتنا المطلقة، لن تكون الإضاءة في هذه الذكريات ساطعة، شمعة واحدة تكفي لتذكر انتظار الغفران، فرحة المصالحة، لمعان الدمعة على خد الندم.
الذاكرة تنسحب دون أن يلاحظها أحد إلى المطعم الصغير، أصابعكِ البيضاء النحيفة تصل إلى كوب الماء، الشموع تلتهم القليل من ظلام المائدة، رشفة صغيرة من الماء، الطاولة التي تجمعنا تتنفس بهدوء، يقدم ظلكِ صورة ناجحة للإنسانية، أو صورة لحب الشعور الذي لا داعي له وهو الحزن، الفستان الأحمر يضم جسدكِ بحميمية، شعركِ القصير و المتهور يطرد تصور الحياة كمكيدة مظلمة و معقدة، ضوء الشمعة يحافظ على يقظة المسافة بيننا، ضوء الشمعة غير قادر على تشذيب الجاذبية في نظرتكِ، الجلسة معكِ عناق مع مسار البقاء، النظر إليكِ يساعد على الرؤية، وجهكِ يلتقط، يفرز، يجمع اللحظات الضائعة من حياتي، وجهكِ كان دائما لحظة تدمير حميمة لوحدتي و حزني، الناس على الطاولة القريبة منا شعروا في وجودكِ أن المطعم أوسع مما كان عليه قبل وصولكِ، ”الناس” هذه الكلمة التي تبدو لي محايدة الآن، إلى أي مدى يمكن الوثوق في هذه الكلمة؟ هذه الكلمة التي تحتاج دائما إلى إضافة صفة، الناس الفقراء، الناس الأغنياء، الناس المثقفون، الناس المتوحشون، الناس الطيبون، الناس الشريرون، الناس هذه الكلمة تم تخريبها بكل الطرق، من خلال توجهات سياسية و أيديولوجية و اجتماعية، كلمة الناس تأخذ قيمتها من اتساعها، لكنها تصبح ضيقة جدا عندما يتحول الناس إلى شعب، رشفة أخرى من الماء، الظلال تتمسك بيدها، الشمعة تكتب عنها بصمت كلماتها المفرطة في جمالها، الشمعة تعرف جيدا دوار الإفراط في الصمت، أتذكر كل التفاصيل التي تسبب الحزن، كل دقيقة هنا تكتسب كمية من العزلة أكبر من الدقيقة التي كانت قبلها، أنظر إلى الشمعة التي لا تشبه شموع المطعم في شيء، الشمعة في المطعم يعطيها العالم صفتها الرومانسية، أما الشمعة في هذه الغرفة فهي من نواح كثيرة تفتقر حتى لسبب وجودها، الشموع في المطعم تشجع على الحديث، المصريون القدماء وهم أول من اكتشف شمع العسل وضعوا بعض الشموع في قبر “توت عنخ آمون” ، ربما كانت لتشجيعه على الحديث مع الموت أو مع الناس في العالم الآخر، هذه ليست نفسها الشموع التي تنير خديكِ في لحظة كسوف كل وجوه الناس في المطعم، في العصور الوسطى فقط عرفت أوروبا شمع العسل، الأغنياء فقط يشعلون شموعهم لطرد خرافات الفقراء، لكن أكبر مستهلك للشموع في تلك الفترة كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، الشمعة التي أمامي لا تشبه شموع “توت عنخ آمون”، ولا الشموع في دير وسط الغابة، الشمعة التي أمامي تشبه الشمعة في لوحة “زيارة السجين” لجورج دي لاتور، في اللوحة الزوجة تزور زوجها المسجون، تمسك الشمعة بيدها و تتحدث إليه بشكل فيه لوم و تهديد، الزوجة طويلة القامة و قوية، أما هو فنحيف جدا مقارنة بها، لحيته الطويلة تشير إلى المدة التي قضاها في السجن، شخصان في ضوء لهب شمعة واحدة ، النور في اللوحة يأتي من ضوء الشمعة وهي ما يشكل مركزها، وضعية الأيدي و النظر إلى الأعلى تؤكد أنه في حالة ضعف وشعور بالذنب، لكن في حالتي أنا ليس هناك شعور بالذنب، أنا من اختار الوجود في هذا الحيز المشبع بالعزلة و الخطر، لقد أخذت مثل “غوستاف كوربييه” كل السكتشات من الخارج و جلست في البيت أرسمها على ضوء شمعه، أو مثل “شاتوبريان” الذي يدون ملاحظاته أثناء سفره ثم يعود إلى المنزل ليكتب في ضوء شمعة، لم يكن البيت أبدا مكاني المعتاد، عندما أخرج لا أعود إلا بعد أسابيع أو أشهر، أنا لست رساما ولا كاتبا، أنا قارئ و الخروج المفاجئ لا يمنع القارئ من الاستمرار في عمله، الكتاب لا يحتاج الشعور بأنك في المنزل، في الكتب هناك رحلات لم أكملها بعد، أخرج من البيت ومعي كتاب، أجلس في مقهى ، طائرة، قطار، ترام، لا أرى أي شيء من حولي، الكلمات تجعلني أتجنب النظر إلى العالم، الكاتب يخرج من البيت بحثا عن موضوع يصلح للكتابة، و أنا أخرج من البيت للبحث عن الموضوع الذي كتبه، ها أنا الآن أجلس للكتابة ليس لدي ما أفعله إلا النظر إلى هذا الورق الأبيض و الاستماع إلى صوت الريح، الكتابة ليست أبدا القراءة، الكتابة تعطل الهدوء و تدمر قناع العالم أمامك.