هل يمكن أن يجمع الشاعر بين كتابة الشعر والنقد؟ سؤال قد لا تكون الإجابة عنه بنعم بالنسبة للبعض. فكتابة الشعر تختلف عن ممارسة النقد، لأن الشعر لغة الوجدان والمشاعر والأحاسيس والخيال، لغة الترميز والتوهج والتكثيف والإيحاء.
والنقد لغة التفكير المنطقي العقلاني، والدقة في التعبير، والتفكيك والتحليل. لكن هناك العديد من الشعراء، أجانب وعربا، كانت إسهاماتهم النقدية لا تقل أهمية عن كتاباتهم الشعرية.
الشاعر الليبي الراحل محمد الفقيه صالح أحد هؤلاء، فإلى جانب حضوره كأحد أهم شعراء جيل السبعينيات في ليبيا، كانت له كتابات نقدية غاية في الأهمية، وله في هذا المجال كتابان، الأول صدر في 2002 عن مجلة المؤتمر، وجاء بعنوان «أفق آخر.. آراء ومتابعات في الشأن الثقافي الليبي»، والثاني بعنوان «في الثقافة الليبية المعاصرة.. ملامح ومتابعات» وصدر عن دار الرواد في 2016، أي قبل سنة من رحيله.
تكشف عملية مراجعة الإسهامات النقدية لمحمد الفقيه صالح مدى انشغاله بالحركة الأدبية والثقافية المعاصرة في ليبيا، وتفاعله معها عبر متابعة جادة ومسؤولة للنتاج الثقافي والأدبي، رغم ظروف السجن التي مر بها لعشر سنوات في المرحلة الأولى 1978-1988، والعمل الدبلوماسي خارج البلاد في المرحلة الثانية.
وتشكل هذه الكتابات النقدية في أحد جوانبها خلفية نظرية ورؤيوية لتجربة هذا الشاعر، علاوة على كونها تمثل جزءاً من رؤية جيله، جيل السبعينيات في ليبيا، لذاته ولواقعه الثقافي الخاص في إطار الانتماء للثقافة العربية المعاصرة.
في الكتابين، المشار إليهما أعلاه، يتناول المؤلف نتاج عدد من الأدباء والباحثين الليبيين في مجالات الشعر والسرد القصصي والروائي والسيرة الذاتية والخطاب النقدي وفي الفكر والتاريخ، إضافة إلى تناوله لظواهر ثقافية عامة تتصل بالحركة الثقافية. تعكس هذه الكتابات والدراسات النقدية جوانب من المشهد الثقافي الليبي، إبان العهود السياسية التاريخية السابقة، بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، وحتى أيامنا هذه.
> ظواهر ثقافية في الثقافة الليبية
في سياق دراسة الظواهر الثقافية تلفت انتباهنا براعة الكاتب في رصده للتجربة الشعرية الليبية والتوقف عند محطات التجديد فيها عبر مقالته المهمة، والرائدة في هذا المجال، التي حملت عنوان: «لحظات متوترة في خطاب التجديد في الشعر الليبي» التي يُسلط فيها الضوء على أربعة مقالات لكل من أحمد رفيق المهدوي وخليفة التليسي وسعيد المحروق ومفتاح العماري، اعتبرها الفقيه صالح أقرب إلى البيانات الشعرية بجسارتها وطموحها ورسالتها، وقد ظهرت خلال مراحل زمنية مختلفة لتمثل، وفقا لرأي الكاتب، «أعلى إيقاعات الصدام والاستفزاز والمواجهة في روحية خطاب التجديد الشعري في ليبيا» (أفق آخر) ص32.
في مقال آخر بعنوان «خطابنا النقدي واستشراف المستقبل» يتطرق الكاتب إلى الحركة النقدية في بلادنا، ويرى أنه رغم أهمية الدور الذي قام به النقاد الليبيون منذ خمسينيات القرن الماضي في متابعة النتاج الأدبي والإسهام في بلورة ضمير ثقافي نقدي عام؛ فإن مجمل رصيد خطابنا النقدي ينتمي على المستوى المنهجي-إما إلى الطريقة الانطباعية – التأثرية التي تستند إلى ثقافة الناقد وذوقه الشخصي وموقفه الذاتي، دونما تعويل أساسي يُذكر على أدوات ومعايير منهجية موضوعية، أو جماليات الرؤية الواقعية في صورتها النمطية التبسيطية، التي تتعامل مع الأثر الأدبي بالإحالة إلى خلفياته الاجتماعية والسياسية الخارجية المحيطة به، بحسبانه صورة مرآوية للواقع دون استنطاق منهجي لمنابعه وتشكلاته الداخلية، إضافة إلى خضوع مجمل حركتنا النقدية إلى مقتضيات الصحافة السيارة من حيث غلبة العرض السريع والمعالجات المبتسرة، ويختتم الكاتب مقالته بالتعبير عن تطلعه إلى تطور الدراسات الجامعية ذات العلاقة، حيث يلاحظ بروز بعض الأقلام والأصوات النقدية القليلة، وعكوفها بجدية على استيعاب المناهج الجديدة بنيوية وأسلوبية وسيمولوجية وغيرها من شأنها أن تحقن الخطاب النقدي في حياتنا الثقافية بدم جديد وأنفاس متجددة (أفق آخر) ص58.
وعن الشعر الليبي وتطوره يكتب الفقيه صالح دراسة بعنوان (بانوراما الشعر الليبي) يرصد فيها مراحل تطور القصيدة الحديثة، ويسجل في مدخلها ملاحظة جديرة بالتأمل: «ظل الشعر في ليبيا، منذ انطلاقته الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين، موزعاً بين استقطابين أساسيين، يتمثل أولهما في اقتفاء تحولات الشعر الحديث في المشرق العربي والاتكاء على منجزه، ويتمثل الثاني في التطلع والسعي إلى تحقيق مزيد من الخصوصية المحلية والأصالة الإبداعية».(في الثقافة الليبية المعاصرة) ص 11.
> في النقد التطبيقي
في مقالاته النقدية التطبيقية تتبدى لنا مهارة الكاتب في تفكيك النصوص سعياً لاستكناه ما تنطوي عليه من أبعاد شكلية ومضمونية، والغوص في ثنايا التجارب الأدبية التي يتناولها، مستخلصاً أبرز سماتها الدلالية والفنية، بلغة تمزج التكثيف بأناقة التعبير، يقول عن تجربة الشاعر علي الرقيعي: «تدور أشعار الرقيعي حول ثلاثة محاور رئيسية: الحب، الحرمان، الانتظار المشبع بروح الأمل، ويشد هذه المحاور الثلاثة جذع كبير: المرأة-الوطن» (أفق آخر) ص69.
ويلفت الكاتب انتباهنا إلى أن الأبرز والأنبل في تجربة محمد الشلطامي الشعرية اللافتة، «ليس انحياز شاعرها وإخلاصه فقط لتقاليد مدرسة الشعر الحديث العربية، ولا في اعتباره امتداداً متطوراً وخلاقاً لشعراء الموجة الأولى ممن يمثلونها في بلادنا الليبية، ولا في توفره على مساحة وافية من الصدق والأصالة الإبداعية في إطار جماليات هذه المدرسة، بل- وبالأساس- في ما يمثله من سلطة وسطوة روحية غلابة، ولجت بثقافتنا الوطنية المعاصرة في صميم أسئلة المرحلة، ومنحتها بذلك استحقاقات الحضور التاريخي الراسخ» (في الثقافة الليبية المعاصرة) ص 33.
يكتب الفقيه صالح عن بعض رفاقه من كتاب وأدباء جيله، جيل السبعينيات دون أن يتورط في لغة المجاملات والمحاباة والتحيز بسبب العلاقة الشخصية التي تربطه بهم، كما نلاحظ أحيانا في بعض الكتابات من هذا النوع، بل تنطوي مقالاته على دراية عميقة بنصوصهم وتجاربهم، ما جعله ينجح في استنطاق تلك التجارب وقراءتها من داخلها ليكشف للقارئ عبر تحليلها وتأويلها ما توارى عنه من أبعاد دلالية وجمالية، فنراه وهو يقرأ مجموعة جمعة بوكليب «خطوط صغيرة في لوحة الغياب» الصادرة عن دار الهلال في 2013 ينبه إلى المراحل الثلاث التي مرت بها تجربته القصصية، «وهي تتراوح بين التدفق والانقطاع، والتوهج والخبو، والاغتراب في الوطن والغربة في المهجر». ويوضح لنا أنه «بقدر ما يبدو عالم أقاصيص هذا الكتاب امتداداً لعالم كتابه القصصي السابق البديع «حكايات من البر الإنجليزي»، بقدر ما يتفارق معه». يتوحد السارد في الكتابين بالكاتب، كما يستند إلى خبرة هذا الأخير، حياتياً وشعورياً، بحيث تبدو معظم تلك الأقاصيص وكأنها شذرات أو مواقف أو مقتطفات من سيرته الذاتية» (في الثقافة الليبية المعاصرة) ص100.
لا يكتفي الكاتب/ الشاعر بالكتابة عن تجارب عدد من الشعراء الليبيين باتجاهاتهم الشعرية وأجيالهم المختلفة، من القصيدة الموزونة المقفاة (إبراهيم الأسطى عمر) إلى قصيدة الشعر الحر (محمد الشلطامي) إلى قصيدة النثر (عاشور الطويبي) مبدياً قدرة على التعامل مع القصيدة الشعرية الليبية في تنوعاتها، التي قد لا يتوافق بعضها مع ذائقته الشعرية، فيعكف على دراستها وتحليلها متحلياً بقدر كبير من الموضوعية والإنصاف واللغة العلمية التي تتحرى دقة المفردة والاتكاء على الشواهد والأسانيد والحيثيات قبل إطلاق الأحكام، أقول لا يكتفي الكاتب/ الشاعر بدراسة التجارب الشعرية بتنويعاتها المختلفة بل نراه يتصدى لدراسة القصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية متوقفاً بالتحليل المنهجي عند تجارب: يوسف القويري، يوسف الشريف، إبراهيم الكوني، عمر الككلي، وجدان شكري عياش، أمين مازن، كما تناول كتباً ومؤلفات في مجال الفكر: نجيب الحصادي، والعلوم السياسية: علي عبداللطيف حميدة، والتاريخ: كتاب عن المؤرخ أحمد النائب (تحرير عمار جحيدر)، وآخر عن بشير السعداوي لمصطفى السراج علاوة على كتاب «نسالة الذاكرة» من تأليف محمد عبدالكافي.
وتكشف هذه الكتابات، التي لا يتسع المجال إلى التوقف عندها في هذا المقال، عن طيف واسع من الاهتمامات الأدبية والفكرية لدى المؤلف محوره الثقافة الليبية وتطورها، وملاحقة الكاتب لما يعتمل فيها من أسئلة ومشاغل، والاشتباك مع أبرز قضاياها بالتحليل والنقاش سعياً من الكاتب كما يوضح لنا في مقدمة كتابه «إلى درس تراثنا الثقافي الوطني الحديث والمعاصر، والكشف عن جذوره القديمة، والسعي إلى تأصيله وتحليله، وإعادة بنائه في الوعي الوطني بما يسهم في حماية الذاكرة والهوية الوطنية من عاديات المتربصين بها». «في الثقافة الوطنية» ص6.
في تقديري، التجربة النقدية لمحمد الفقيه صالح لا تقل في أهميتها عن إسهاماته الشعرية، وهي علاوة على كونها تعكس ثقافة واسعة للشاعر، ومعرفة عميقة بالنتاج الثقافي الليبي فإنها تكشف أيضاً عن خبرة ومعرفة نقدية نلحظها جلية في طريقة تناوله للنصوص، حيث الحرص على الموضوعية والتمسك بقواعد التحليل المنهجي العلمي، ما يجعل من كتاباته النقدية إضافة مهمة إلى النتاج النقدي في ليبيا، وإلى المكتبة الليبية ومرجعاً علمياً مهماً لمعرفة واقع الحركة الأدبية والثقافية المعاصرة في بلادنا.
بوابة الوسط | الأربعاء 21 يونيو 2023