المقالة

عاش أبو جهل

د. حكيم سالم

من أعمال الفنان التشكيلي "محمد بن لأمين"
من أعمال الفنان التشكيلي “محمد بن لأمين”

“لن تعود هذه الأرض المحروقة للحياة، وإن عادت فلن يكون هذا قبل 75 عاما من الان”.

هذا ما قاله أحد علماء الذرّة الأميركيين لصحيفة نيويورك تايمز، بعد يوم واحد من سقوط القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، معللا كلامه بقوة الانفجار وهول الكارثة التي وقعت على رؤوس المدنيين الأبرياء.

لكن ما حدث لم يخطر على بال أحد، بمن فيهم هذا العالم الجليل نفسه. فقد أفاق السكان الناجون من صدمتهم سريعا، وأدركوا أن البكاء على الأطلال لا يعيدها. فنبشوا الحجر بأظافرهم، ونفضوا الركام عن شوارعهم، وأخرجوا المقاعد المتبقية من بين الحطام. وبعد شهرين فقط من الانفجار النووي الهائل، كانت أهم خطوة قد أنجزت: عودة التلاميذ للدراسة، كما في يمين الصورة.

نعم، لقد عادت الدراسة كما كانت، باستثناء أن الدروس كانت تعطى للتلاميذ في وسط الخرائب بدلا من الغرف الدراسية الدافئة؛ وأنهم استخدموا قطع الفحم بدلا من أقلام الرصاص، وبقايا الكرتون الممزق بدلا من الدفاتر الورقية. والأقسى من هذا كله، أن معظم هؤلاء التلاميذ – ومعلميهم – قد فقدوا عائلاتهم للأبد؛ وأن جثث أحبائهم قد تبخرت بفعل حرارة الانفجار، دون أن تترك سوى ظلالهم.

كان لهيب اليورانيوم قد مسح كل أشكال الحياة في ثانية، بدءا من الكائنات الدقيقة وحتى البشر، مخلفا دمارا هائلا وأكثر من مئة وثلاثين ألف قتيل. لكن ثمة شيء واحد لم تستطع القنابل الذرية تدميره: إنها الإرادة.

وعندما سأل مراسل الحرب الأسترالي هذا المعلم الياباني، عما يفعله هؤلاء الصبية البائسون بين الخرائب وخطر الإشعاع، أجابه المعلم بهدوء وثقة: نعلمهم، لأن هؤلاء من سيبنون الخرائب ويزيلون الإشعاع.

إن المدينة “المحروقة” تستعيد عافيتها بسواعد أبنائها في بضع سنين. فتم إعادة هيكلة التعليم، وتأسيس جامعة هيروشيما بعد أربع سنوات من الكارثة. وتم إعادة افتتاح معظم المباني السكنية والمستشفيات، والمنتزهات الوطنية والمسارح والمراكز الخدمية ودور الرعاية للمسنين، في أقل من عشر سنوات.

واليوم، تعد هيروشيما مركزًا صناعيًا عالميا مزدهرًا، تزينها الحدائق والمباني الخدمية المتطورة، وقد تضاعف عدد سكانها لأكثر من مليون نسمة، وتخطى ناتجها المحلي – لوحدها – أكثر من ستين مليار دولار، وتعتبر جامعتها واحدة من أفضل الجامعات اليابانية لعام 2021، بمستويات متقدمة ومتطورة من البحوث العلمية والتكنولوجيا التقنية.

هذا في كوكب اليابان. أما في كوكبنا الجميل ليبيا، فيمكن للمسؤولين حل أي مشكلة، مهما كان نوعها، بكلمتين قصيرتين: إيقاف الدراسة.

إذا هطلت الأمطار أو ارتفعت درجات الحرارة، فالحل بسيط: أوقفوا الدراسة. إذا عطس أحدهم أو قرر بعضهم الاعتصام، فالحل أيضا بسيط: أوقفوا الدراسة. وكأن المدرسة هي أساس كل مشاكلنا.

إن المسؤول الذي يوقع قرار إيقاف الدراسة، لا يجازف بتدمير مستقبل أبناء هذا الوطن وتجهيلهم فقط، وإنما يساهم عمدا في إطالة أمد الانهيار الذي تعانيه البنية التحتية في ليبيا، أو ما تبقي منها.

فبدلا من البدء في تحديث الشوارع وإعادة تأهيل القاعات الدراسية لتوائم تغيرات الطقس؛ وبدلا من البدء في تطوير منظومة التعليم ليتمكن الطلاب من الدراسة عن بعد في فترة الجائحة، يعمد المسؤول الليبي للحل الأسهل: أوقفوا الدراسة، واستمتعوا بالعطلة. إن هذا المسؤول لا يوقع اسمه بصفة “أبو جهل”، ولكن يزين اسمه بعدد مهيب من الألقاب العلمية والسياسية الرفيعة، أقلّها “معالي الدكتور”.

وقد انتهت هذه السلسلة من اللامبالاة بمشهد كارثي لا سابق له: مدارس ليبية، بدون كتب دراسية.

نعم، إن بلدنا الممتلئ حتى أنفه بالنفط والغاز، لا توجد به مطبعة محلية واحدة، قادرة على طبع الكتاب المدرسي.

لكن الأمل موجود، رغم كل هذا البؤس. وليبيا المليئة بالنفط، ممتلئة بالعناد والإرادة أيضا. يبقى فقط أن نعرف موقع الخلل ونشخصه، ونضع جودة التعليم واستمراريته أولوية قصوى في حياتنا وسببا في اختيارنا أو عزلنا للمسؤولين، وأن نرسل أبنائنا للمدارس والجامعات، ولو في قوارب من ورق.

وإلا، فلنستعد للمزيد من الأجيال التي تحمل طلقات الرصاص بدلا من أقلام الرصاص. والمزيد من الأجيال التي تتدافع في طوابير لتعالج مرضاها في مصر وتونس والأردن. أجيال تنتظر الأمم الأخرى لتبني لها مساكنها وترصف طرقاتها، وتتبرع لها بالأدوية واللقاحات.

وفي النهاية، لابد أن عالم الذرّة الأميركي مذهول في قبره، ليس من نهضة “هيروشيما” وحسب، وإنما من شعوب أخرى، تعاني من ويلات المدارس المتوقفة وغياب التعليم، ولكنها تهتف: عاش “أبو جهل”.


أكاديمي وكاتب ليبي

مقالات ذات علاقة

الانتخابات الرئاسي والعقدة الاساسية

خالد الجربوعي

لا سحر بها….!!

عطية الأوجلي

سُؤالُ السلامِ النسوي

فاطمة غندور

اترك تعليق