تعد رواية (الغارقون في الساقية) في تصنيفها من الأدب العجائبي الذي يتميز بظهور الشخصيات الغريبة المخالفة للواقع فهي تعتمد أحداثها على الغرائب والعجائب في السرد القصصي، تشذ المتلقي وتدفعه إلى الخروج من حاضره فيسبح بجماليات التخييل والتشويق لمتابعة الرواية.
الشخصية المحورية المتمثلة في شخصية المهدي التي تتحرك من بداية الرواية حتى نهايتها؛ حيث نرى حركتها وظهورها في عدة مواضع من الرواية، تتميز الشخصية بالذكاء والحيل على الآخرين، وكسب الثقة والود معهم، كان المهدي مغامراً ناجحاً في حياته، لا يترك بابا إلا طرقه في الرزق ويلون حياته كما يريد، يلين الصعاب ويبحث عن الوسيلة لكسب الرزق، شخصية المهدي شخصية عجائبية رحالة فهمت الحياة ، تحب المغامرة تتخطى الصعاب دون التفكير في النتائج، تقفز من مكان لآخر فعنده الغاية تبرر الوسيلة، امتزجت الشخصية بإخفاء النوايا الداخلية ولعبت أدورا عديدة نذكر منها الآتي:
1- البطل الماكر: هو المهدي في الرواية وقد اشتغل على الدهاء وسرعة الملاحظة (كان المهدي يبيع الحليب بأنواعه ومشتقاته بما فيه حليب الحمير، وخلطه من ابتكاره، ادعى أنها حليب عصافير الكناري، وأخرى أقسم أنه حلبها بسبابته وإبهامه من ثدي الغولة ذاتها) ص: 22 بهذا الوصف تعرف القارئ على المهدي وشخصيته التي تعتمد على التلاعب بعقول الناس بمختلف مستوياتهم، واكتشف أفعاله وطريقة تفكيره في مواضع كثيرة من الرواية، وكان الكذب وسيلة المهدي ومنجده من إجابات الآخرين، (عبقرية بائع الحليب جعلت منه حكيما أوحد، يعتمد العلاج بوصفات الحليب. كما جعلت منه عبقريته الأسبق – في العالم وعلى مدى التاريخ- إلى تركيب وصفة للمصالحة بين الحليب والماء) قدم الراوي سلوكه وطرقه في التحايل على الناس وكسب أفئدتهم بمختلف الطرق، وركز على أفعاله ووصفها عن طريق الحوار مع الآخرين تارة وبالسرد الممتع تارة أخرى، شخصية تحمل أطوارا غريبة ومهن مختلفة باحترافية اكتسبها من الرحلات والمعتقدات والخرافات الشعبية يبثها هنا وهناك ويتلون بلون جديد وسلوك متزن لا أحد يشعر بذلك (لا أحد يعرف كيف تمكن المهدي – وهو الماكر- من إطفاء غضب الغولة، وعقد الصفقة، والتصالح معها، على الإبقاء على حياته، مقابل استعبادها إياه، ومكوثه إلى الأبد في قصرها الخرافي المهيب) ص: 29، المهدي رجل ذو حركة وتفاعل مع أحداث الرواية يسير معها وفق حبكة متينة ومواقف كثيرة تتصاعد في الرواية بسرد ماتع وجميل.
قد أفلح الراوي في رسم أفعال المهدي وطريقة إقناع الآخرين ببضاعته الشعبية والخرافية والصوفية المتمثلة في السحر والخداع ومقالب كثيرة اتسمت بالعجيب والغريب في الرواية والمفارقة أن المهدي يتظاهر بالنقاء والصفا أمام الآخرين (ما كان يميز المهدي دائما: النظافة.
كان نظيف اليد. لا يلطخ يديه بشيء أبداً. لم يكن يلمس بيديه. يدير أمور الشر والخير باقتدار من خلف ستار.) ص: 109
2- أمكنة البطل: تجول المهدي في أماكن عديدة، واكتسب منها خبرته في الحياة، وقد زار العديد من الأماكن البعيدة والقريبة، وشكلت الأمكنة عنصرا مهما في الرواية، وصور الراوي زيارات ومواقف المهدي في أماكن كثيرة و ((خبرة المهدي في التجوال، ورغبته في أن يعوض بعضا من نقوده التي غرقت جعلته يوقف رحلة العودة إلى فأس)) ص: 83، كانت بداية الرحلة من أجل البحث عن الرزق
((في ظلمة الليل البهيم، في عرض المتوسط، ولدى اصطدام السفينة بنتوء صخري لا وجود له على الخريطة: كان المهدي نائما في مقصورته في الطابق السفلي:
هرعت جموع الحجاج إلى السطح في هلع.
المهدي الذي نام على بطنه: لم يفق بعد.
القبطان: كان نائما أيضاً)) ص: 21
مكان يضج بالأحداث المثيرة فأعطى رؤية بصرية للمتلقي
في موضع آخر كان المكان هدف المهدي الذي يحاول الوصول إليه،
((الساقية عالم آخر))، ((الساقية فأس أخرى)) ص: 83
كان المكان مرتبطا بمحور الرئيس للرواية والمعول عليه من عنوانها وأحداثها حتى نهايتها، ونقل الراوي المتلقي أهمية المكان ومشاهده وشخوصه وغايته الفكرية والخرافية في النص ثم انتقل إلى مكان آخر ((في فأس: تناقلوا أخباره على أنه زار خمسة وثلاثين بلدا، وتزوج ثلاثاً وعشرين امرأة أنجب خمسة وسبعين ولداً.)) ص: 109
فأوحى المكان بالحياة الشعبية والثقافية العامة التي تتداول الأخبار تجاه المهدي.
كان المكان يزخر بالحركة والمغامرة وقوة الحدث في الرواية، من البحر وغرق السفينة تنطلق مواقف العجائب والغرائب كقول الراوي عن المهدي:
((أفاق مع الفجر مع الفجر: وجد نفسه منبطحاً على اللوح الخشبي، وسلحفاتان عظيمتان تدوران حوله مع إفاقته: غادرت السلحفاتان، ووجد نفسه في حوض على ساحل جميل.
فيما بعد: علم أنه في وسوسة.
فيما بعد: علم أن الحوض هو حوض هو حوض كليوباترا.
هذه الحادثة: زادت اقتناع فقيه القرية، بأن السلحفاة حيوان مقدس))
امتزج المكان بين الواقعية واللاواقعي بسرد يتنامى مع المشهد، ويعطي دلالة الصورة البصرية المقنعة: البحر/ اللوح الخشبي/ السلحفاتان/ حوض كليوباترا/ سوسة/ بشكل عجائبي يحتمل العقل تصديقه وتكذيبه في آن واحد.
وصار المكان يمثل شهرة المهدي وقصصه الممزوجة بين الخيال والواقع وأصبحت حقيقة مع مرور الوقت عند الناس.
طالع: الشاعر والروائي يوسف إبراهيم :الرواية الليبيّة لا تشتكي من شيء ولا يعوزها إلا الانتشار
3- مهنة البطل: من عجائب وغرائب شخصية المهدي أنه اشتغل في مهن عديدة وأتقنها ((في جزر الكناري: تعلم الإسبانية في ثلاثة أشهر من دون معلم.
في جزر الكناري: تعلم السباحة في ثلاثة أشهر أيضاً، من دون معلم.
في مراهقته: كان هو صاحب سابقة صيد الحمام بوضع السم في الماء.
في جزر الكناري: ابتكر لصيد العصافير خلطة صمغية فريدة. ركبها من لحاء الأشجار المطبوخ مع اللبان المر.)) ص: 23.
حاول الراوي كشف شخصية المهدي بكل تفاصيلها للمتلقي، فالمهدي ليس عاديا، امتلك ناصية العمل والخبرة في أغلب الأعمال والمهن للوصول إلى جمع المال بكل الطرق والوسائل، ((بعد أن ضاق به العيش في تنسيفت، قرب مراكش: جرب كل السبل لتوسعة عيشه طلب عملاً في مخبز رفيق صباه، فلم يحصل عليه.. أراد أن يعقد صفقة مع الخباز)) ص: 24
((في أزقة تاناريفه ولاس بالماس: تعلم الفهلوة والشطارة والقدرة على الإقناع، وحذق عددا لا يستهان به من المهارات. وهناك: عركته الحياة وضرسته بنابها، وجعلته يتلقى ضربات لم تقصم ظهره. بل زادته قوة.)) ص: 24
ركز الراوي على شخصية المهدي بصورة دقيقة فكان محورا بارزا في الرواية وذروة حبكتها ونهايتها، وأظهرت الشخصية قدراتها الغريبة على المتلقي، المهدي موجود في الخباز والبيع والشراء وهو المنقذ لمن حوله يمتهن مهارات تفوق البشر يخاطب الغولة والجن ويقدم المواعظ والنصيحة للناس في المقابل شخصيات الثانوية تناصره تتابعه دون تحكيم المنطق والعقل، لقد أحسن الكاتب في التقاط الشخصية العجائبية بكل دقة واتقان.
أعطت الشخصية العجائبية غرابة عند قراءتها واستطاع الراوي بأدواته اللغوية والسردية أن يكثف التشويق والمواقف المترابطة حول أحداثها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والخرافية فالبعد الاجتماعي كقوله: (خلال عامين، اشترى لأمه داراً أندلسية فارهة، وزف لها البشرى بالحج في الموسم التالي.
زف لها البشرى: وهو يمسك مسبحته بكلتا يديه، ويطقطق. زف البشرى في خشوع.)) ص: 23
البعد العجائبي الغرائبي غير المألوف كقول الراوي:)) اتجه المهدي إلى البحث العلمي الجاد بعد اعتذار عفاريت القمقم عن هذه المهمة التي وصفوها بالمستحيلة.
شكك الحساد والمغرضون بشدة إمكانية التوصل إلى نتيجة. قالوا:
– كيف يتحول أصل التراب الخسيس إلى جوهر المعدن النفيس؟
أسر المهدي في نفسه، ولم يبد لهم أن ترابه ليس خسيساً. إن محاولاته ليست لتحويل التراب إلى ذهب. بل لإعادة الذهب كما كان!! وتبا لمن لا يفهم ولا يعي، ولا يريد أن يفهم ولا يريد أن يعي…) ص: 120
الغارقون في الساقية رواية ثمينة في أبعادها البنيوية واللغوية شكلت الشخصية العجائبية في أجمل صورة أدبية.