هشام الشلوي
صناعة مملكة
يذكر ريتشارد سينغ أن رسالة سرية كتبها الحاكم العسكري البريطاني لبرقة، دنكان كومينغ، مؤرخة في ديسمبر عام 1942 يصف فيها الأمير إدريس بأنه “مصاب بوسواس المرض، بدون أطفال، غريزة سياسية حادة، ولكن القليل من سمات المسؤول”
يحلل ريتشارد سينغ رسالة كومينغ بأن الأمير إدريس غالبا ما استخدم وسواسه بالمرض هذا لتعزيز مفاوضاته السياسية. وأنه لم يكن يبحث عن التعاطف فحسب؛ بل كان يحب اللعب على قابليته للإصابة بالمرض للتأكيد على أهميته الشخصية للقضايا الأكبر، ويؤكد بيتر أن الأمير إدريس وجد هذه طريقة فعّالة للتأثير على أولئك الذين كان يتعامل معهم بالإضافة إلى اختبار مدى حسن نواياهم.
وينقل ريتشارد انطباعات والده عن الأمير إدريس من خلال معرفته به، بأنه كان “رجلا ضئيلا شاحبا وحساسا ومتقشفا يتمتع بسحر عظيم”
يؤكد ريتشارد أن تقييم والده يتوافق مع وجهة نظر أولئك الذين نسبوا إلى إدريس جاذبية شخصية هائلة وهالة غير دنيوية شبه صوفية، والتي يبدو أنها تمنحه في بعض الأحيان قبضة منومة مغناطيسية على من التقى بهم.
ويستذكر ريتشارد كاتبة الرحلات، فريا ستارك، التي التقت الأمير إدريس في مصر عام 1934 عندما كان الأمير مقيما في منزل متواضع على حافة الصحراء، غرب الإسكندرية، حيث قالت ستارك: لقد جلس وتحدث بصوت لطيف، وتتضح حسن تربيته بأصابعه الطويلة النحيلة على ذراعي كرسيه كما في بعض الصور الإليزابيثية. مشيرة إلى “تجاهله بالمطلق للعالم المادي” “الوجه النحيل واللحية المدببة والعينان الداكنتان، والوداعة الظاهرية، وصلابة قوية غير متزعزعة”
عمل بيتر سينغ في مدينتي شحات وطبرق من يونيو 1945 وحتى أبريل 1946 إلا أن مذكراته في تلك المرحلة لا شيء لافت فيها من الناحية السياسية، ويغلب عليها الطابع الخدمي، بحكم مسؤولية الإدارة البريطانية عن برقة، ولنا أن نلاحظ الخبرة التي تراكمت عند بيتر سينغ بسبب عمله في أغلب مناطق برقة تقريبا.
كما أن فترة عمله في بنغازي الأخيرة من أبريل عام 1946 إلى أبريل 1947 خالية هي الأخرى من الأحداث المهمة، وهنا يأتي دور ابنه ريتشارد محرر مذكرات والده، حيث أنه رجع إلى الأرشيف البريطاني ليملأ الفراغات السياسية التي أحجم والده عن تدوينها، لأنها كما يقول ريتشارد من الحساسية بمكان، بحيث يصعب تسجيلها في مذكرات شخصية.
ويقول ريتشارد إن والده لم يشارك فقط في إدارة الإعانات المالية لأفراد العائلة السنوسية وتوطينهم فحسب، بل أيضا في اختيار وتدريب أبناء برقة لتولي المناصب الإدارية العليا. ويسند ريتشارد إلى والده بيتر فضل إقناع الأمير إدريس بالعودة إلى برقة بشكل دائم، والتي كان يرفضها الأمير.
مفتاحا الحل
ويؤكد بيتر أن مفتح الحل في برقة كان في يد الحاكم العسكري دنكان كومينغ والأمير إدريس السنوسي، حيث نجح كومينغ في إقناع رؤسائه في القاهرة ولندن بمواصلة المراهنة على الأمير إدريس السنوسي. وعقد كومينغ والأمير إدريس مفاوضات سرية معقدة انتهت عام 1947.
رُقي بيتر سينغ مؤقتا إلى رتبة مقدم لعدة أشهر بين عامي 1946 و 1947، وعمل طوال هذه الفترة نائبا عن السكرتير الأول الجديد، والذي يشير إليه فقط باسم المسؤول المتمرس، دون ذكر اسمه.
ويكشف ريتشارد من خلال السجلات أن هذا المسؤول المتمرس هو إيرك دي كاندول، الذي لم يكن فقط أول مدني يشغل هذا المنصب، ولكنه أصبح الشخصية الرئيسية في الحقبة التالية في علاقات بريطانيا مع برقة من أواخر عام 1947 فصاعدا.
كانت الإدارة البريطانية بدءا من عام 1945 تفكر في صيغة تجعل وجودهم مقبول، وألا ينظر إليهم السكان المحليين في برقة على أنها قوة احتلال، ودليل ذلك المذكرة السرية التي أرسلها العميد آر. دي . إتش أرونديل إلى لجنة الدفاع البريطانية في الشرق الأوسط، في يوليو 1945، والتي جاء فيها “إذا كانت برقة ستصبح قاعدة استراتيجية فمن الواضح أنه من الضروري أن يُنظر إلى الجوانب الدستورية والدبلوماسية وإيجاد صيغة مرضية سلفا للمشكلة، توفر لسكان برقة شكل النظام الذي يريدونه بتوجيه وسيطرة بريطانية، وسيكون حينها وجود القوات البريطانية موضع ترحيب”.
الفرق بين إدارة بريطانيا والولايات المتحدة
وهنا أود أن أسجل فكرة بشأن الفرق بين سياسات بريطانيا والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقا من توصية العميد آر. دي . إتش أرونديل السابقة، مفادها أن سياسة بريطانيا إبان نفوذها على مناطق واسعة من العالم، كانت تهتم بالشكل الدستوري والقانوني التابع لها، لذا أبقت على الأنظمة الملكية والجمهورية في الدول التي احتلتها. فنرى أنظمة شبه دستورية، بما يعني ذلك برلمانات وأحزاب سياسية وفصل بين السلطات، وإبعاد الجيوش عن ملعب السياسة وتقزيم دورها، مع سيطرة تامة للبريطانيين على هذه الأنظمة.
وعندما استلمت الولايات المتحدة هذه التركة بعد ضعف بريطانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية، غيّرت هذه التكتيك تماما، وذلك بدعم أنظمة عسكرية انقلابية يهمين عليها عسكري واحد، يسهل توجيه بوصلة سياساته والسيطرة عليه، وهذا فرق جوهري بين سياسية بريطانيا والولايات المتحدة في منطقتنا العربية.
وقد يعود ذلك إلى ضعف خبرة الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط، واحتياجها إلى وقت لفهم تعقيدات المنطقة وتناقضاتها الداخلية، لذا آثرت قلب الطاولة على رأس الجميع، والبدء بأسلوب جديد بالاستناد إلى الجيوش وقادتها المغامرين.
بين مصر وطرابلس
اختلفت النخبة البرقاوية – حسب ريتشارد – فيما إذا كان عليهم الاتحاد مع مصر أو طرابلس في ليبيا المستقلة، ولمواكبة هذه النقاشات؛ اعتمدت الإدارة العسكرية البريطانية على المسؤولين في المجلس المحلي بنغازي، مثل علي الفلاق ويوسف لنقي وأبو القاسم السنوسي، بينما أراد النشطاء الأصغر سنا في جمعية عمر المختار الاستقلال بأي وسيلة ممكنة، ولم يشعروا بأي ولاء خاص لقضية الأمير إدريس السنوسي.
اشتباه روسي فرنسي
عندما اقترحت بريطانيا على مجلس مفاوضات وزراء الخارجية، عام 1946، استقلال ليبيا، اشتبهت فرنسا وروسيا في وجود مؤامرة لتأسيس نفوذ وراء الكواليس، ودفعوا بدل ذلك بوصاية الأمم المتحدة، التي لم تحبذها بريطانيا.
في لندن، يونيو 1946، أكد وزير الخارجية البريطاني، إرنست بيفين لمسؤوليه أنه “من الضروري بالنسبة لنا الاحتفاظ بالمنشآت الاستراتيجية في برقة” وأوصى “بإجراءات إدارية متنوعة على الفور من أجل إقناع السكان باهتمامنا النشط برفاهيتهم وفي تقدمهم نحو الحكم الذاتي”. وأشار إلى أن “تعيين مجلس رسمي لدعم إدريس من شأنه أن يرضي الأمريكيين، حتى لو انزعج الفرنسيون من هذه السابقة التي ربما يُعمل بها فيما يخص المغرب وتونس”
إدريس في وضع الانتظار
حدد الحاكم العسكري لبرقة دونكان كومينغ التحديات التي واجهها لزميل له في وزارة الخارجية، بأن “الليبيين هم أشخاص يتحدثون بصراحة بشكل غريب” وأنهم “مرتابون للغاية من نوايا الأوروبيين”
كانت أولوية كومينغ هي إبقاء إدريس في وضع الانتظار، لذا كلف اثنان من المتحدثين باللغة العربية بطلاقة بالتنسيق معه عن كثب.
في يوليو 1946، طلب إدريس من سكرتيره الخاص، عمر شنيب، إعداد قائمة للبريطانيين، بالملاحظات والمقترحات حول المستقبل، وقد عبّر عن انتقادات حادة للإدارة العسكرية البريطانية وفشلها في التحضير لاستقلال الإقليم أو في إصلاح أضرار الحرب على الأرض، ودعا إلى تشكيل حكومة دستورية وشغل الليبيين مناصب إدارية عليا.
تعليقا على ذلك وصف كومينغ شنيب بأنه رجل “جاهل ومتهور ومحرض على الاضطراب السياسي”
وكرر كومينغ توصية كان قد قدمها أول مرة عام 1945، بمنح إدريس لقب أمير ومنحه وساما بريطانيا لخدماته في المجهود الحربي” وأضاف “يجب إخبار السيد بأننا سنستمر في الضغط من أجل تسوية تؤدي إلى استقلال برقة، شريطة أن يعدنا بالمرافق التي نحتاجها”
إعداد إدريس
في يناير 1947 دعت المؤسسة البريطانية إدريس إلى بنغازي لمنحه اللقب الفخري (الأمير) وتقليده وسام الفارس (وسام الإمبراطورية البريطانية) كل ذلك في إعداد واضح لتولي السلطة في نهاية المطاف تحت الوصاية البريطانية، كان واضحا أن إدريس يرفع سقف الرهان كما يتضح من تكتيكاته المتعلقة بحفل التوشّح بالوسام، عندما رفض رفضا قاطعا القطار خارج القاهرة لتولي المنصب حتى حصل على مبلغ كبير من المال، دفع مبلغ يزيد عن 2000 جنيه إسترليني، وعندما وُبخ كومينغ لاحقا من قبل رؤسائه في مكتب الحرب لمنحه المبلغ دون إذن خاص، دافع بقوة عن أفعاله على النحو الذي تمليه “اعتبارات سياسية مهمة “
على الرغم من أن البعض كان يأمل في بقاء إدريس في بنغازي بعد تنصيبه، فقد عاد مباشرة إلى القاهرة وأصر على أنه لن يقيم في برقة حتى يُحرز تقدما كبيرا في تلبية مطالبه بتشكيل حكومة دستورية، وحتى يحصل على المزيد من الامتيازات، بما في ذلك سيارة تتناسب مع وضعه وتسوية ديونه في القاهرة (التي زعم أنها بلغت 8000 جنيه إسترليني على الأقل)
بعيدا عن الإعراب عن الدهشة تجاه أي من هذه المطالب اتخذ كومينغ خطا فلسفيًا بشأن هذا النمط من المساومة، حيث أوضحت برقية لرؤسائه في ذلك الوقت “وضع الأمير يوضح بأنه هو المسيطر ولا يمكننا تحمل تنفيره ولكن عاجلا أم آجلا قد نضطر إلى إخباره أن بريطانيا لن تدعمه إلى أجل غير مسمى إذا توقفنا عن الاهتمام ببرقة أو إذا فشل في دعم سياستنا”
بحلول منتصف عام 1947، بدأت السياسة البريطانية في المفاوضات الدولية بشأن ليبيا تعكس مصالح محمد إدريس والشبكة السنوسية.
في أبحاثه الخاصة في الأرشيف وجد المؤرخ سكوت بيلز أن “السياسة البريطانية كانت مدفوعة ليس فقط بالاعتبارات الاستراتيجية ولكن أيضا بحقيقة أن السنوسيين كان لهم نفوذ قوي في برقة. كان على لندن أن تتصالح مع السيد إدريس. لقد صاغ السنوسي السياسة البريطانية بطريقة خفية ولكنها مميزة، حيث تصّور الشعب بأن يكون على قدر أكبر من مجرد منحه الاحترام الاسمي”.