في زيارة جاليري الفنان التشكيلي عبدالجواد المغربي (بوسيدون) الكائن عند تقاطع “زنقة جامع درغوت” و”شارع الأربع عرصات” مقابل “مدرسة وجامع عثمان باشا” بقلب المدينة القديمة طرابلس، تكتشف أن الأنغام الشجية ليست مجرد إيقاعات وجمل تنساب من آلات موسيقية وترية أو هوائية يدوية أو كهربائية أو غيرها، بل الألون في لوحاته التشكيلية بمختلف الأحجام والمواضيع تعزف سيمفونيات آسرة تتهادى بكل رشاقة في همسها وصخبها واستيطانها وجدان المتلقي…
فاللوحة التشكيلية عند الفنان عبدالجواد المغربي هي فضاءٌ تعبيري مفتوح، وبراحٌ يبعث العديد من الرسائل، ويجسد الكثير من الدلالات، ويقصُّ حكاياتٍ وقصصاً تنسجها الخطوط وتصبغ عليها الألوان حُلالاً مطرزةً من الألق والجمال المثير.
لوحاتُ (بوسيدون) تتخطى عتبات الزمن الإغريقي الذي تنتمي إليه الأسطورة الإغريقية فلا يقتصر انسيابُ تشكيلها اللوني التعبيري عن تلك العهود الغابرة أو الأمكنة البحرية، ولا يسعى لتسيّد البحر وأمواجه واقتياده إلى شواطيء آمنة تارةً، وهادرة تتكسر عند صخوره تارات أخرى. كما أنها لا تخضع لهيمنة لونٍ واحد يطغى على مساحاتها وبراحاتها الواسعة وخطوطها المتعددة الألوان والأحجام، بل نجد تشكيل الفنان عبدالجواد المغربي يتأنق ليحظى بصداقات كلِّ الألوان الأصيلة والمعجونة بجميع درجات خفوتها أو قتامتها المتفاوتة، وهذه الصداقة الودودة جعلت تلك الألوان والأصباغ تنصاع بكلِّ لين ورقة لمداعبات انسيابات ريشته وتكويناته التشكيلية ليكتب بها ما يعتمر في أعماقه من عواطف وما يتفاعل في كيانه العقلي من رؤى وأفكار.
تستقبلك اللوحة في فضاء (بوسيدون) التشكيلي بفرحة غامرة، وتحضنك بروح دافئة ينبعث منها عبق وجمال ورقة، فيتماهى كيانك الإنساني جسداً وروحاً في ثنايا الخط واللون والتشكيل، وينغرس في قلبها النابض بالحياة حتى يتوحد في حوار معها حول المضمون، ورمزية اللون، وغايات التشابك والامتزاج بين كل تلك العناصر الفنية، بفكر حر منطلق لا يعترف بالقيود أو الحدود، فلا يسجنك في إطار عناوين محددة للوحة، بل يترك لك اختيار العنوان الذي ينبعث من مقدرتك على فك أبجديتها والتواصل معها لإعلان عنوانك الخاص لها وفق فهمك وتفاعلك الوجداني والفكري معها.
أثناء زيارة قصيرة لجاليري (بوسيدون) اغتنمتُ الفرصة لإجراء حديث عفوي مع صاحبه الفنان التشكيلي عبدالجواد المغربي، فكان هذا الحوار القصير:
> ماذا لو تحدثنا عن بدايات علاقتك المبكرة بالفن التشكيلي؟
● بداياتي الأولى ترجع إلى السنوات المدرسية خلال المرحلة الإعدادية ما قبل سنة 1977م، ولكن ارتباطي الحقيقي بالفنون التشكيلية بشكل أوسع كان أثناء التحاقي بالعمل متعاوناً مع دار الفنون حيث تعرفتُ على لوحات عديدة من مدارس فنية مختلفة وأشكال وأحجام متعددة أعجبتُ بها واستمتعتُ بمشاهدتها وتأملها.
> ما الذي استهواك في مكونات وعناصر اللوحة التشكيلية؟
● تقريباً كلُّ شيء استهواني فيها، ألوانها ومواضيعها وتقنياتها، وبصرف النظر عن لوحاتي وأعمالي التي أرسمها فإنني أحاول الولوج إلى أعماق أي لوحة فنية أشاهدها وأتأمل عناصرها الجمالية بعناية ودقة.
> إلى أي مدرسة فنية تنتمي لوحاتك التشكيلية؟
● يمكن اعتبارها تنتمي إلى الفن التجريدي، فأنا حقيقة لم أدرس الفنون التشكيلية بتأهيل نظامي أكاديمي، واعتمدُ على الموهبة الفطرية بكلِّ ما فيها من تراكمات ومعارف وقصص، فكلُّ لوحة ٍمن لوحاتي لها قصة تحكيها خطوطها وألوانها ومكوناتها لنفسي وذاتي. فالموضوع الذي يتفاعل في داخلي أقوم بترجمته بريشتي على سطح منبسط، ويمكن للمتلقي أن يتعامل معه بوجهة نظر تختلف مع مفهومي أو رؤيتي أو قصتي، لأن كل مشاهد ومتأمل للوحة التشكيلية ينظر إليها من زاويته الخاصة ووفق مستوى فكره وحسه الذوقي وثقافته.
> وهل هذا هو السبب في عدم وضعك عناوين للوحاتك؟
● فعلاً هذا صحيح. فلو وضعتُ عنواناً للوحة فإن ذلك سيجعلني أُقرِّب موضوعها للمشاهد المتلقي، ولكني أريد أن أتركه في براحه وتعلقه الخاص بها، للتمعن فيها وخلق قناة للتفاعل والتحاور بينه وبينها. ومن ثم فهو الذي يختار العنوان للوحة ليحمل ألفةً واستساغةً وتفهماً لها.
> هل لوحاتك تنحاز إلى لون معين أم أن كل الألوان أصدقاء لريشتك؟
● للأمانة، في البداية اعتمدتُ في رسوماتي على اللونين الأبيض والأسود، وكنتُ لفترة طويلة أسيراً لهما، ولكني استطعتُ بعد فترةٍ الانفكاك من هذا الأسر اللوني واتجهتُ للون الأزرق، ثم تدرجتُ في الانتقال إلى غيره واعتناق مذهب حرية الألوان في لوحاتي، مع اليقين أن فكرة أو موضوع اللوحة يفرض نفسه أحياناً فيما تختاره من ألوان تعبر عنه بصورة أكثر اقتراباً وإحساساً.
> متى تلتقط فكرة هذا الموضوع للوحاتك وتبدأ تنفيذها في مرسمك؟
● حسب تأثير الموضوع عندما يكتمل تفاعله في ذهني وسيطرته على مشاعري، بعد أن تعيش فكرته في كياني لفترة أتحاور معها لشهور حتى تنضج وتختمر تماماً وأنفذها بالرسم في لوحة.
> على المستوى التقني لاحظتُ أنك تستخدم في بعض لوحاتك تقنية الكولاج، لماذا ومتى تلجأ إلى الكولاج؟
● هي تقنية مستخدمة لدى العديد من الفنانين وتعتبر عنصراً مساعداً في التعبير عن رسالة الفنان وفكرة اللوحة وتسهل عملية توصيلها للمتلقي، وأنا استعمل الكولاج في هذا الإطار لخدمة مضمون اللوحة والتماهي فيها لتوصيل رسالتها وفكرتها للمتلقي بشكل أكثر يسر وسهولة.
> بصورة عامة كيف ترى مستوى الفن التشكيلي في ليبيا خلال هذه الفترة؟
● الحمد لله. خلال هذه الفترة تمر اللوحة الفنية التشكيلية بظهور وحضور وافر في المشهد الثقافي وما يبهجنا ويفرحنا هو ولادة جيل واعد يواصل معانقة اللون والريشة وإنتاج أعمال مبهرة جداً.
> من الناحية التسويقية كيف ترى وضع اللوحة التشكيلية؟ ومن يقتني اللوحة؟
● التسويق بطيء جداً للأسف، فبعض الفنانين لديهم أعمال تشكيلية جميلة ولكن للأسف لا أحد يشتريها منهم، لا الجهات الحكومية ولا المواطن البسيط، ولهذا بادر الزملاء إلى فكرة استنساخ اللوحات الفنية التشكيلية كما هو معمول به في دول العالم الآخر، وهذا يتيح اقتناء صورة للوحة بدلاً من الأصلية التي لا يستطيع المتلقي البسيط شراءها.
> في هذه الحالة من يحفظ حقوق الفنان التشكيلي في ملكية اللوحة التشكيلية؟
● للأسف حقوق ملكية اللوحة التشكيلية غائبة في ليبيا ومعدومة، ولا توجد جهة تحفظ هذا الحق للفنان.
> مؤسسات الفن التشكيلي عريقة في ليبيا منذ تأسيس نادي الرسامين في بداية الستينيات وحتى إشهار الجمعية الليبية للفنون التشكيلية منذ سنتين، هل في تصورك أن هذه الجمعية ستلعب دوراً مهماً لصالح الفنان التشكيلي؟
● إن شاء الله. هذا ما نأمله ونطمح إليه. أنا عضو في هذه الجمعية الناشئة حديثاً، ولكن لازالت تنقصنا العديد من الإمكانيات والتي أبسطها الحصول على مقر لائق بالفن التشكيلي، كما أن رسوم اشتراكات العضوية لا تفي بالالتزامات والبرامج التي تنفذها الجمعية ولا تغطي إلا مصاريف بسيطة فقط.
***
في لوحته التي أسميتُها (الكرسي) تتعدد تأويلات دلالاتها وتفسيراتها، فالألوان الزاهية تتجاور كحديقة ورود متنوعة الأشكال والأحجام والروائح، وظهور الكرسي في وسطها يبعث رمزية السلطة ولكن عند حواري مع الفنان عبدالجواد المغربي حولها تبدلت تلك المفاهيم حيث وجدته يحدث انقلاباً في دلالات الألوان ويحكي قصتها ويقول بأنها تعبر عن حزنه الشديد يوم وفاة صديقه الذي كان يجالسه وقت العصر على كرسي بجانبه يتبادلان أحاديث متنوعة، ثم عند المغرب بعد ساعات قصيرة من ذاك اللقاء، سمع خبر وفاته الصادم، فأثار فيه وقع الخبر المفاجيء إحساساً بأن المسافة بين الحياة والموت قصيرة جداً، وبالتالي لا أحد يضمن ديمومة الحياة بألوانها الزاهية وما فيها من جماليات متعددة أستنطقها من خلال تعدد الألوان المبهجة والكرسي رمز البقاء فيها.
أما لوحته الثانية التي أسميتها (شهداء الوطن) فقد جسد فيها جريمة قصف طلبة الكلية العسكرية في ساحتها أثناء التمام الليلي نتيجة الصراع بين الطرفين المتحاربين في ليبيا حيث مثلت البقعة البيضاء المستطيلة أنفس طلبة الكلية في ساحتهم ثم لاحقاً أرواحهم البيضاء في جنتهم، بينما اللون الأزرق يعكس القطبين السياسيين المتصارعين وهما يتقاذفان بصواريخ حمم الموت الحمراء القاتلة، بينما المحيط الفضائي الواسع مكللٌ بالسواد المعبّر عن الحزن العميق الذي يطوق ليبيا كافةً جراء هذه الجريمة النكراء التي أدانها العالم أجمع وذرفت الإنسانية كافةً سيولاً من الدمع على أرواح أولئك الطلبة الأبرياء الذين قضوا في ذلك القصف الصاروخي الليلي الجبان.
وتحكي لوحته الثالثة عن ماضي قريب عاشته (المدينة القديمة) التي أهداها إليها، وجعلها تشكيلاً ثرياً زاخراً بالألوان، ومتنوعاً بعناصره التكوينية المتعددة حيث ظهرت فيها مئذنة الجامع والوجوه والأقواس والأبواب، وفي قلب اللوحة شباكٌ لأحد البيوت يتوارى خلفه وجه فتاة جميلة بعينين سوداويتين وشفتين محمرتين مسكونة بالتاريخ ولكنها سجينة واقع بائس يطوقها بالكثير من العبث والخراب.
ولوحته الرابعة التي أخترت لها عنوان (انبساط وانكسار) نجدها عبارة عن بساطٍ وبراحٍ رماديٍّ يمثل دفقة من المشاعر المتضاربة بين البينين، تلطخها كتلة متألمة جراء الجراح الحمراء المتمركزة في بؤرة دامية بركن مميز، وكأنه يعكس تحولاً أو تغيراً نتيجة طعنة أو غدر أو غيرهما سبب انكساراً للذات والروح.
إن لوحات الفنان عبدالجواد المغربي التي تأملتها في (بوسيدون) أثناء لقاء سريع وعابر وجدتها مكتظة بالإحساس الإنساني الذي نسجته ريشة وألوان وفكر ينتمي إلى الفن الأصيل، وروح تهفو إلى مدايات بعيدة تحلق فيها بكل ترانيم العشق للذات والإنسان وتوطين قيم المحبة والفن في الحياة.