شكري محمّد السنكي
سمعت عند الساعة السادسة ونصف مساءً، الموافق الأربعاء 22 مارس 2023م، خبراً هزَ القَلب ودقّاتِه، وأّثَّر فيِّ أيما تأثير، خبر وفاة إدريس الطيّب الأمين المعروف بـ«إدريس الطيّب» أو «إدريس بن الطيّب»، أثناء إجراء عملية قسطرة وتركيب دعامات للقلب، بمستشفى برج الاطباء التخصصي، الكائن في شارع عبدالمنعم رياض، بالمهندسين، الجيزة. نزل الخبر كالصاعقة على قلبي، لأني كنت معه في الليلة التي سبقت العملية وتحدثنا مطولاً عن كل شيء تقريباً، وخرجت منه مسروراً لأن صحته تحسنت ومعنوياته كانت جد مرتفعة!
جاء إدريس إلى المستشفى في الصباح ودخل غرفة العمليات الساعة الثالثة بعد الظهر، وفارقت نفسه جسده وخرجت روحه منه عند حوالي الساعة الخامسة، راجياً رحمة ربّه وعفوه وغفرانه. غادرنا اليوم إدريس الطيّب الشاعر والكاتب والمناضل والسجين السياسي السابق وصديقي العزيز، عن عمر ناهز السبعين عاماً، بعد عقود من العمل الوطني والعطاء الثقافي والتضحيات الجسام، وبعد أعوام جمعتني به وربطتنا أواصل الأخوة الصادقة ومحبة الوطن والموقف المشترك من الإقصاء والاستبداد. ودعنا في آخر يوم من أيّام شهر شعبان المبارك من العام 1444 هجري، وودع الوطن فارساً ترجّل بعد تضحيات كبيرة ورحلة عطاء ستبقى خالدة في دفاتر التاريخ وسجلاته.
وقد جاء في نعي بوابة الوسط الإخبارية التعريف بالفقيد، على النحو التالي: «ولد إدريس الطيّب بمدينة المرج شرق ليبيا سنة 1952م. ودرس في المعاهد الدينية في كل من بنغازي والجغبوب ومعهد أحمد باشا الديني في طرابلس.. وتحصل على دبلوم صحافة ووسائل اتصال.. وعمل في مطلع شبابه محرراً في عدد من الصحف المحلية، قبل أن يُعتقل من قِبل نظام القذافي مع عدد من المثقفين وكتاب جريدة (الأسبوع الثقافي) العام 1978 وقضى قرابة 10 سنوات في السجن..».
شارك إدريس الطيّب في ثّورة السّابع عشر مِن فبراير الّتي أنهت نظام القذّافي الدّكتاتوري، وكان ضمن المجموعة التي رتبت للاجتماع الذي عُقد مبكراً في بنغازي بعد أقل من عشرة أيام من اندلاع الثورة، مجموعة القوى الوطنية التي اجتمعت في «الجامعة الدولية بنغازي» في يوم 26 فبراير 2011م في أوَّل اجتماع للبحث في تأسيس هيئة أو مجلس يمثل الثورة ويتحدث باسمها، وقد تمَّ الإعلان بعد هذا الاجتماع عن تأسيس «المجلس الوطني الانتقالي» برئاسة المستشار مصطفى عبدالجليل.
كنت قريباً من إدريس وكان هو قريباً مني، وكنت أعزه وكان هو كذلك، وكانت صداقتنا محل اعتزاز لي وله على حد السواء. ومثل إدريس لا يتكرر كثيراً، وما قدمه من تضحيات، لا يقوى كثيرون على تقديمه. فقد كان صادعاً بِالْحَقِّ ومجاهراً بِهِ، ورافضاً للاستبداد ومتبرئاً منهرا منه، وصاحب مبدأ وموقف وطني أمضى من أجله عشر سنوات في السجن في عهد القذافي الاستبدادي، حيث تمَّ اعتقاله في العَام 1978م وحُكِم عليه بالسجن المُؤبد ثمّ أُطلق سراحه في العام 1988م.
لم يكن إدريس الطيّب مجرد مُناضل، بل كان مثقفاً وأديباً ودبلوماسياً وصوتاً إعلامياً مميزاً، طوّع الثقافة والأدب في خدمة قضيته، ووظف فكره ورؤاه السياسية، في عرض قضية بلاده دون تشويه وتمييع وتسطيح. وكان ضيفاً دائماً على القنوات الفضائيّة الِلّيبيّة والعربيّة، منذ اندلاع ثّورة السّابع عشر مِن فبراير في العام 2011م وحتَّى العام 2016م، وظل طوال هذه السنوات صاحب حجة قوية ومساهمات مثمنة عالياً ومحارباً صلباً ومنافحاً عن ليبيا وقضاياها العادلة التي دفع في سبيلها أغلى سنوات عمره. وقد تميزت حواراته التلفزيونية ومداخلاته عبر وسائل الإعلام المختلفة بالعقلانية والموضوعية ووضوح الموقف.
وفي مجال الأدب والشعر، كانت لإدريس الطيّب صولات وجولات، فأصدر مجموعة رائعة من القصص القصيرة، وقد ترجمت بعض قصصه إِلى اللغتين السويدية والفنلندية ونشرت في الصحافة الغربية. وأصدر مجموعة من الدواوين أهمها: «تخطيطات على رأس الشاعر» في العام 1976م، «العناق على مرمى الدم» في العام 1991م، «كوة للتنفس» في العام 1997م. وترجم عدداً من النصوص والمقالات إِلى اللغة العربية حيث كان يتقن اللغتين الإنجليزية والإيطالية إِلى جانب العربية.
فوق هذا كله، كان إدريس الطيّب ابن عائلة مجاهدة جد معروفه، فجده من أمه هو «الفضيل بوعمر» الذي كان أحد كبّار المجاهدين الِلّيبيّين، ورفيقاً لعمر المختار شيخ الشهداء، والذي استشهد في معركة شرسة مع قوات المستعمر الإيطالي الفاشيستي، المعركة التي اعترف رودولفو غراتسياني «Rodolfo Graziani» بهزيمتهم فيها وتكبدوا فيها خسائر فادحة وصلت لأكثر من «500» قتيل، ووقع فيها «51» شهيداً من المجاهدين المغاوير الأبطال. لم يصدق الفاشست استشهاده في هذه المعركة، ورصدوا جائزة مالية لمَنْ يؤكد لهم الخبر، فقام أحد عملاء المستعمر الفاشيستي من الِلّيبيّين بقطع رأس الفضيل بوعمر (1880م – 20 سبتمبر 1920م) بعد استشهاده وحمله في علبة صفيح إلى بنغازي مركز القيادة الفاشستية ليؤكد لهم خبر وفاته ويأخذ المبلغ المرصود لذلك.
سينقل جثمانه يوم الخميس 23 مارس الموافق الأوَّل من رمضان 1444 هجري، من مطار القاهرة الدولي إِلى مطار بنينا الدولي في بنغازي، ومنها يُنقل براً إِلى مدينة البيضاء، حيث سيوارى جثمانه الثرى هناك.
رحل إدريس الطيّب الإنسان الجميل إلى جوار خالقه، وكان كل ما تمناه قبل وفاته أن يرى ليبيا آمنة زاهرة مستقرة كما حلم بها زمناً طويلاً، وناضل من أجلها سنواتٍ طوالاً.
رحمك الله يا إدريس رحمة واسعة وجعل الجنة مستقرك مثواك.
الخميس الموافق 23 مارس 2023م