تقديمُ الشاعر والباحث في التراث “جمعة الفاخري”
للمجموعة الشاعر “عصام الفرجاني” المعنونة (دعني وشأنك).
عِصَامُ الفِرْجَانيُّ شَاعِرٌ وُلِدَ نَاضِجًا، كَبِيرًا، أَعْنِي مُكْتَمِلَ الثَّقَافَةِ، مُدَجَّجًا بِالشِّعْرِيَّةِ التَّامَّةِ اللَّازِمَةِ لإِنْضَاجِ القَصَائِدِ، وَاقْتِرَافِ الشِّعْرِ المَاتِعِ، الرَّصِينِ، إِجَادَةٌ مُثْلَى للِّغَةِ العَرَبِيَّةِ، إِلمَامٌ بِقَوَاعِدِهَا، بِنَحْوِهَا وَصَرْفِهَا وعَرُوضِهَا، وَبَلَاغَتِهَا، وَهِيَ بَعْضُ أَدَوَاتِ الشَّاعِرِ الضَّرُورِيَّةِ لاكْتِمَالِ قُدُرَاتِهِ الشِّعْرِيَّةِ، وَتَمَامِ جَاهِزَيَّتِهِ لِارْتِكَابِ القَصَائِدِ، وَاقْتِرَافِ الشِّعْرِ، هِيَ مَا يَحْتَاجُهُ الشَّاعِرُ الْمَكِينُ لِيُنْجِزَ نُصُوصَهُ بِثِقَةٍ وَإِتْقَانٍ وَإِبْهَارٍ، وَلِيُنْضِجَ تَجْرِبَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي، مُضَافٌ إِلَى ذَلِكَ ثَقَافَتُهُ الوَاسِعَةُ وَاطِّلَاعُهُ الأُفُقِيُّ الجَزِيلُ عَلَى تَجَاربِ سَابِقِيِهِ مِنْ شُعُرَاءَ عَرَبٍ وَلِيبِيِّينَ، وَتَأَثُّرُهُ بِالكِبَارِ مِنْهُم، وَهْوَ مَا صَقَلَ مَوْهِبَتَهُ، وَشَحَذَ قَرِيحَتَهُ، وَشَحَنَهَا بِزَادٍ مَعْرِفيٍّ نَفِيسٍ، أَمْكَنَ لِقَصِيدَتِهِ أَنْ تَكْتَسِبَ هَذَا النُّضْجَ البَوَاحَ، وَهَذِهِ الفِتْنَةَ الجَهُورَ، وَهَذَا البَهَاءَ وَالرُّوَاءَ وَالإِغْرَاءَ وَالإِغْوَاءَ..
عِصَامُ الفرجانيُّ شَاعِرٌ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِ اللُّغَةِ المتِينِ، فَتَنْقَادُ لَهُ، فَينَقَادُ لَهَا، وَبِهَا، وَمَعَهَا، تُرْخِي لَهُ عِنَانَهَا، تُمَكِّنُهُ مِنْ خَصَائِصِهَا وَنَفَائِسِهَا وَدَقِائِقِهَا وَشَقَائِقِهَا وَنَمارِقِهَا، مِمَّا لَا تُمَكِّنُ مِنْهُ سِوَاهُ إِلَّا فِيمَا نَدَرَ..
وَلِشَدِيدِ حِرْصِهِ عَلَى اللُّغَةِ، وَاعْتِنَائِهِ بِهَا، وَحِرْصِهِ عَلَيْهَا جَعَلَ لَهَا ثَلَاثَ قَصَائِدَ فِي دِيوَانِهِ الأَوَّلِ هَذَا، هِيَ: (وَارَاكِ قَوْمُكِ، خَطَأُ (شَوْقِي)، الكِتَابُ).
وَقَدْ تَسَنَّى لِي تَتَبُّعُ مَوْهِبَتِهِ الشِّعْرِيَّةِ وَهْيَ تَنْضُجُ، تَسْتَوِي، تَكْتَمِلُ، مُنْذُ أَنْ حَدَّثَنِي عَنْهُ الرَّاحِلُ الكَبِيرُ الشَّاعِرُ مُحَمَّدُ المَهْدِيُّ، مُكْتَشِفُهُ الأَوَّلُ، فَكُنْتُ شَدِيدَ الإِعْجَابِ بِشِعْرِهِ فِي بَوَاكِيرِهِ الأُولَى، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى الإِلْقَاءِ الآسِرِ، وَبِسَلَامَةِ لُغَتِهِ، وَجَمَالِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ، وَنَبَرَاتِ صَوْتِهِ القَوِيِّ، الشَّجِيِّ، النَّقِيِّ، الجَلِيِّ. لَكِنَّنِي َكُنْتُ مُتَحَفِّظًا عَلَى إِسْدَاءِ الإِعْجَابِ الجَزِيلِ بِشِعْرِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ مَهَاوِي الغُرُورِ، وَمَصَارِعِ الِافْتِتَانِ بِالنَّفْسِ؛ فَكَثُيرُونَ أَفْسَدَهَمُ المَدْحُ الْمُبَالَغُ فِيهِ، وَغَرَّ بِهِمُ الإِعْجَابُ الْمَفْلُوتُ فَغَرَّبَهُمْ، وَأَسْقَطَهُمُ الغُرُورُ فِي بَرَاثِنِ يَقْتَرِحُهَا الغَرُورُ.. إِذْ كُنْتُ – دَوْمًا – صَادِقًا مَعَ مَنْ أُؤْمِنُ بِمَوَاهِبِهِمْ، وَأُوْقِنُ بِجَدْوَى تَجَارِبِهمِ حَتَّى تَسْتَوِيَ عَلَى سُوقِهَا تُعْجِبُ وَتُطْرِبُ وَتُلْهِبُ.. وعصامُ الفِرجاني كَانَ أَحْدَ أَهَمِّ المَوَاهِبِ وَأَكْثَرَهُم إِبْدَاعًا وَإِقْنَاعًا..
يَتَمَاهَى الفِرْجَانِيُّ مَعَ الهَمِّ الوَطَنِيِّ، فَهَا هُوَ يُحَذِّرُ الوَطَنَ مِنْ مَغَبَّةِ الرُّكوُنِ لِمُدَّعِي وَصْلِهِ مِنْ بَنِيهِ، أَعْدَائِهِ فِي أَثْوَابِ الأَصْدَقَاءِ، هَا هُوَ يَصْفَعُ الْمُمَوَّهِينَ وَالْمُمَوِّهينَ، الْمُتَسَتِّرِينَ بِحُبِّ الوَطَنِ، يَفْضَحُ حِيَلَهُم وَمُؤَامَرَاتِهِم، وَيُعَرِّي أُولَئِكَ الْمُؤَلَّفَةَ جُيُوبُهُمْ، الْخَائِنَةَ قُلُوبُهُم؛ إِذْ يَرَاهُمْ أَعْدَاءً مُتَبَرْقِعِينَ بِمَحَبَّةٍ خَادِعَةٍ مُخَادِعَةٍ، فَهُمْ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَيْهِ مِنْ أَعْدَائِهِ الْمُعْلَنِينَ، الْمُعْلِنِينَ.. يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ (أَيَا وَطَنًا):
وَشَرٌّ من عَدُوِّكَ إذْ ترَاءَى
خَؤُونٌ من بَنِيكَ يَدُسُّ سُمَّا
إذا نادَتْهُ كَفُّ الغَدْرِ لبَّى
وإن ناديتَهُ أضْحى أَصَمَّا
وَكُلٌّ يَدَّعِي بِكَ طِيبَ وَصْلٍ
وهُم يُخْفُونَ حُبَّ المَالِ جَمَّا
فلا تجزعْ لخائنَةِ الأَيَادِي
ولا تحزنْ لِما بِكَ قَدْ أَلمَّا
وَفِي قَصِيدَةٍ (مَسِيحٌ) يَرَى الْوَطَنَ العَطُوفَ الْمُتَسَامِحَ الَّذِي يَعْفُو عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْ أَبْنَائِهِ، وَيَصْفَحُ عَنْ أَخْطَائِهِمْ، وَخَطَايَاهُمْ، لَكَأَنَّهُ يَمْتَثِلُ قَوْلَ سَيِّدِنَا الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ القَائِلَ: ” لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ” (مَتَّى 5: 39).
يَقُولُ:
على خَدَّيكَ
تنسكبُ القروحُ
ويَجْرَحُكَ الزَّمَانُ
ولا تبوحُ!
ومهما خانكَ الأهلونَ
تعفو
كأنَّكَ أيُّهَا الوَطَنُ
المَسيحُ!
وَالفِرْجَانِي بَارِعٌ فِي تَذْويتِ الهَمِّ الإِنْسَانيِّ، وَالانْشِغَالِ بِأَوْجَاعِ وَطَنِهِ وَأَهْلِيهِ، وَالتَّأَلُّمِ مَعَهُمْ وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُ أَحْيَانًا، وَالتَّكَلُّمُ عَنْهُمْ، وَلَهُمْ، هَا هَوَ يَسْتَشْعِرُ عَذَابَاتِ أَهْلِهِ، وَيَعِيشُ مُعَانَاةَ مَدِينَتِهِ حِينَ عَاثَ بِهَا الظَّلَامِيُّونَ وَمُدْمِنُو القَتْلِ، وَهُجِّرَ كَثِيرٌ مِنْ سَاكِنِيهَا فَعَشَّشَ فِي أَرْجَائِهَا الْمَوْتُ وَالبُؤسُ وَالْخَوْفُ وَالخَوَاءُ، وَاسْتَوْطَنَتْهَا الأَشْبَاحُ، يَرْثِي تِلْكُمُ الْحَالَ الْمُفْزِعَةَ، فَيُلَخِّصُهَا فِي قَصِيدَتِهِ (لَا تَسْأَلُوهَا) فَيَقُولُ:
بل فاسألوا هذي المدينةَ كم بَكَتْ
وتوسَّدَت في اللَّيْلِ مَحْضَ جِرَاحِ
تغفو المدائنُ كُلَّهُا ومدينتي
يَقْظَى تُعَانِقُ عَالمَ الأَشْبَاحِ
كَمَا يَحْتَضِنُ طَرَابُلسَ النَّائِمَةَ، يُنِيمُهَا فِي قَلْبِهِ لِتَصْحُوَ أُنْثَى جَمِيلَةً عَلَى الرُّغْمِ مِنَ الحُزْنِ فِي مُنَاجَاةٍ أَشْبَهَ بِمُنَاجَاةِ بَدَرِ شاكرٍ السَّيَّابِ لِلْخَلِيجِ فِي رَائِعَتِهِ الْخَالِدَةِ (أُنْشُودَةِ الْمَطَرِ) ، مُعَبَّأَةٍ بِالأَسَى ذَاتِهِ، مُتْرَعَةٍ بِالْحُزْنِ نَفْسِهِ، وَبِالْمَرَارَةِ عَيْنِهَا، يَقُولُ فِي قَصِيدَتِهِ (طَرَابُلسُ نَامَتْ):
فَرَدَّ الظَّلامْ
كفى يا غُلامْ
طرابُلْسُ نَامَتْ
كَأَنِّي أَرَاكَ
تُنَاجي النِّيَامْ!
وَلِأَنَّ الشُّعَرَاءَ يُرمِّمُونَ شُرُوخَ الْحَيَاةِ، يُقِيمُونَ بِأَشْعَارِهِمُ الفَخِيمَةِ مَا تَهَدَّمَ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَيُعِيدُونَ تَأْنِيقَ مَا يَنَالُ وَجْهَهَا مِنْ قُبْحٍ وَبَشَاعَةٍ، يَخْصِفُونَ عَلَى سَوْءَاتِهَا الفَادِحَةِ مِنْ وَرَقِ الجَمَالِ، يُجَمِّلُونَ أَشْيَاءَهَا، وَيُؤَنِّقُونَ تَفَاصِيلَهَا، يُرَوِّجُونَ لِلْحُبِّ فيهَا، ويَقْمَعُونَ غِرْبَانَ القُبْحِ وَالإِسْفَافِ، وَيَنْهَرُونَ خَفَافِيشَ الْمَوْتِ وَالخَرَابِ وَالدَّمَارِ، وَيَزْجُرُونَ وَطَاوِيطَ الْبُؤسِ وَالكَآبَةِ وَالانْكِسَارِ. أَلَيْسَ هُوَ القَائِلَ مِنْ قَصِيدَتِهِ (أنفة):
وأُخْبِئُ للمُسِيءِ نَدًى وحِلمًا
وأُغضي حين يطعنُنِي الصَّديقُ
كَأَنِّي زهرةٌ تُسقى بوحلٍ
ويغفو فوقَ وَجْنتِها الرَّحيقُ.
وَيَسْتَأَثِرُ العِشْقُ بَقَدَرٍ كَبِيرٍ مِن دِيوَانِ (دَعْنِي وَشَأْنَكَ) مُمْتَدًّا عَلَى مَسَاحَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ صَفَحَاتِهِ؛ فَالشَّاعِرُ أَفْرَدَ لِلْأَشْعَارِ العَاطِفِيَّةِ أَكْثرَ الدِّيوَانِ، مَا مَجْمُوعُهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ قَصِيدَةً غَزَلِيَّة،ً وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ؛ فَجُلُّ قَصَائِدِ الدِّيوَانِ نُسِجِتْ فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِ الشَّاعِرِ، فِي مُبْتَدَرِ شَبَابِ قَلْبِهِ وَشِعْرِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الحُبُّ عَلَى تَفَاصِيلِ الدِّيوَانِ، وَيُشَكِّلَ الأَغْلَبِيَّةَ الغَالِبَةَ مِنْ قَصَائِدِهِ التِّسعِ والخَمْسِينَ.
وَمن بَعْضِ تجلِّيَاتِهِ الغَزَلِيَّةِ اللَّافِتَةِ أَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْعَيْنِ الفَاتِنَةِ الآسِرَةِ عَاصِفَةً مُدَمِّرةً، لا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، وَإِنْ كَانَتْ عَاصِفَةَ حُبٍّ وَأَشْوَاقٍ وَتِحْنَانٍ، فَيَتَجَلَّى فِي قَصِيدَتِهِ (عَاصِفَةُ عَيْنٍ):
يا من إذا نَظَرَتْ لا ينفعُ الحذَرُ
ورمشُ عينيكِ لا يُبقِي ولا يَذَرُ
واللهُ لا يبتلي قومًا بعاصفةٍ
إِلَّا إذا ما خَلَتْ من قبلِهَا النُّذُرُ
يَظْهَرُ فِي عَجُزِ البَيْتِ الأَخِيرِ التَّخَاطُرُ مَعَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، مَعَ الآيَةِ 21 مِنْ سُورَةِ الأَحْقَافِ: ” وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ”.
وَهَذهِ الفَاتِنَةُ هِيَ مَنْ تُشْعِلُ العَوَاصِفَ، وَتُثِيرُ الأَمْوَاجَ، وَتَكْسِرُ عِنَادَ البَحَّارِ، وَتُخْضِعُ جَبَرُوتَ الرُّبَّانِ، بجَفْنٍ ذَاِبلٍ مَهِيضٍ جَرِيءٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْنَعَ إِعْصَارًا وَعَاصِفَةً وَزَوَابِعَ كَثِيرَةً، يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ (مَوْجُ امْرَأةٍ):
ما دامَ في عينيكِ بحرٌ هائجٌ
لم تستطعْ عرَّافةٌ أن تقرأهْ
أخطأتُ إذ بِهِما قذفتُ سفينتي
ما يفعلُ الرُّبَّانُ والمَوْجُ امْرَأَةْ؟!
وَلَعَلَّهَا هِيَ الْمَعْشُوقَةُ ذَاتُهَا الَّتِي أَنْطَقَتْ قَلْبَ الشَّاعِرِ وَلِسَانَهُ، وَأَجْرَتْ شِعْرَهُ بَحْرَ وَلَهٍ وَشَلَّالَاتِ حَنِينٍ، الفَاتِنَةُ الَّتِي تَسْتَأْثِرُ بِقَلْبِ الشَّاعِرِ، وَتَسْتَحْوِذُ عَلَى اهْتِمَامِهِ، وَتُهَيمِنُ عَلَى مَشَاعِرِهِ وَأَحَاسِيسِهِ، هِيَ فَاطِمَةُ الَّتِي أَنْطَقَتِ الحَجَرَ وَالبَشَرَ، وَالَّتِي يَرَاهَا عَاشِقُهَا الصُّبْحَ وَاللَّيْلَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ، تِلْكَ الْمَلَاكَ الَّتِي تَخْدَعُ بِصُورَتِهَا عَلَى هَيْئَةِ أِنْسِيٍّ. يَقُولُ عَنْهَا مُتَعَجِّبًا:
فاعجَبْ لِحسناءَ لو مرَّتْ على حجرٍ
لكادَ ينطقُ من عشقٍ لها الحجرُ
كَالأُنْسِ صُورَتُها لكنَّهَا مَلَكٌ
لا يَخْدعنَّكَ ما تُبدي لكَ الصُّوَرُ
هَذِهِ الَّتي تَرْحَلُ فَتَأْخُذُ مَعَهَا كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا تُبْقِي سِوَى (اليَاسَمِينَ) تَذْكَارًا لِلْأَمْسِ، لِلحُبِّ، فَقَطِ اليَاسَمِينَ، يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ الآسِفَةِ، الرَّاعِفَةِ، الذَّارَفِةِ (شُكْرًا):
“…. شكرًا لأَنَّكِ إذ رحلتِ
أخذتِ كُلَّ الأمسِ
إلا الياسمينْ! “
وَفِي مَقْطُوعَتِهِ (جُرْعَةُ حُبٍّ) يُظْهِرُ عشقَهُ العَمِيقَ، الرَّقِيقَ، الأنيقَ، وَفَلْسَفَتَهُ لِلجَمَالِ وَالحُبِّ مَعًا.
أُحِبُّكَ كُلَّ يومٍ مرَّتينْ
وبينهما أُحِبُّكَ بينَ بينْ!
أُحِبُّكَ حينَ يوقظُني صباحٌ
بشمسٍ لا تزورُ المشرِقَيْنْ
وأخرى حين يغشاني مساءٌ
ببدْرٍ لا تراهُ أيُّ عَيْنْ!
وبينَهما أحبُّكَ كيف؟ قل لي!
ألِلْإصباحِ والإمساء بيْنْ؟!
وَهْيَ مِنْ أَجْمَلِ قَصَائِدِهِ وَأَرَقِّهَا.
وَبِفَلْسَفَةٍ مُبْهِرَةٍ، وَفيِ تَشْخِيصٍ مُدْهِشٍ يَجْعَلُ جِرَاحَ الْمُحِبِّينَ مُسْتَيقِظَةً أَبَدًا، كَأَنَّهَا بِكِبْرِيَائِهَا مُومْيَاءُ مُؤَجِّلَةً دُمُوعَهَا، يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ (لماذا؟):
أَمَا تعلمينْ
بِأَنَّ جِرَاحَ المحبِّينَ كالمُوميَاءْ
تنامُ وليس ينامُ بها الكبريَاءْ
تؤجِّلُ بعضَ الدُّموعِ ليومِ الحسابْ
لماذا التَقَيْتُكِ بعدَ الغيابْ..؟!
وَمِمَّا اسْتَوْقَفَنِي مِنْ جَمَالِيَّاتِ هَذَا الدِّيوَانِ الثُّنَائِيَّاتُ وَالثُّلَاثِيَّاتُ وَالرُّبَاعِيَّاتُ الْمُخْتَزَلَةُ، فَهْيَ قَصَائِدُ مُكَثَّفَةٌ مُحَمَّلَةٌ بِأَكْدَاسِ الْمَعَانِي، مَشْحُونَةٌ بِعَوَاطِفَ ثَرَّةٍ، وَبِمَشَاعِرَ ثَرِيَّةٍ، تُؤَكِّدُ أَنَّ القَصِيدَةَ الْمُكْتَمِلَةَ لَيْسَتْ بِطُولِهَا وَكَثْرَةِ أَبْيَاتَهِا، وَازْدِحَامِهَا بِالتَّكْرَارَاتِ وَالشُّرُوحَاتِ وَالإِطْنَابِ وَالإِسْهَابِ؛ وَإِنَّمَا بِتَرْكِيزِهَا العَالِي، وَشَحْنِهَا بِالْمَعَانِي، وَمَلْئِهَا بِالصُّوَرِ، وَرِصِّهَا بِالعَوَاطِفِ الصَّادِقَةِ، وَالْمَشَاعِرِ الدَّافِئَةِ الْمُبِينَةِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تُتُرْجِمَ القَصَيدِةُ القصيرَةُ مَا فِي أَعْمَاقِ الشَّاعِرِ بِأَبْيَاتٍ مُحْدُودَةٍ.
وَلَا غَضَاضَةَ عَلَى شَاعِرٍ فَتِيٍّ مِثْلِهِ، وَهْوَ فِي مُقْتَبَلِ شِعْرِهِ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِشُعَرَاءَ كِبَارٍ كَانَتْ أَشْعَارُهُم الوَارِفَةُ الآسِرَةُ زَادًا لِتَجْرِبَتِهِ، فَتَتَلْمَذَ عَلَى فَرَاهَةِ أَشْعَارِهِمْ، وَغِنَى قَوَامِيسِهِمْ، وَجَاذِبِيَّةِ مَدَارِسِهِمْ، وَفِتْنَةِ إِبْدَاعِهِمْ، فَنَضِجَتْ قَصَائِدُهُ وَهْيَ تَتَغيَّا نَضَارَةَ أَشْعَارِهِم، وَغَضَارَةِ مَلَكَاتِهِمُ الشِّعْرِيَّةِ الْمُذْهِلَةِ، وَهَذَا لَيْسَ عَيْبًا اِلْبَتَّةَ، فَهْوَ أَمْرٌ بَدَهِيٌّ يَحْدُثُ مَعَ كُلِّ نَاشِئَةِ القَصِيدِ، وَبَرَاعِمِ الشِّعْرِ، أَقُولُ هَذَا لِأَنَّنَا – أَحْيَانًا – نَلْمَحُ بَيْنَ أَبْيَاتِهِ المَهْدَوِيَّ وَمُحَمَّدَ المَهْدِيَّ، وَالمَاجِرِيَّ وَالسُّوسِيَّ من شُعَرَاءِ بَلَدِهِ لِيبِيَا، وَشُعَرَاءَ عَرَبًا كِبَارًا كَالْمُتَنَبِّي وَشَوْقِيٍّ وَحَافِظٍ وَالشَّابِيِّ، أَوْ حَتَّى الجَوَاهِرِيِّ وَالرُّصَافيِّ وَنِزَارِ قَبَّاني، هَذَا التَّعَلُّقُ يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ تَكْوِينَهُ الأَوَّلَ كَانَ سَلِيمًا قَوِيمًا، إِذْ اِسْتَقَى الشِّعْرَ مِنْ أَرْوِمَتِهِ الأَصِيلَةِ، وَاسْتَسْقَاهَا مِنْ مَضَانِّهَا الْأَمِينَةِ، لَا سِيَّمَا وَإِنَّ هَذَا التَّأَثُّرَ لَمْ يَصِلْ لِدَرَجَةِ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَسْتَمَرَّ لِيَغْدُوَ تَكْرَارًا مُمِلًّا، وَإِعَادَةَ إِنْتَاجٍ لإِبْدَاعِ سَابِقِيهِ، فَتَكْرَارُ الإِبْدَاعِ لَيْسَ إِبْدَاعًا، وَالفِرْجَانيُّ قَدْ كَوَّنَ لِنَفْسِهِ شَخْصِيَّتَهُ الشِّعْرِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ، الفَارِقَةَ، وَالفَارِعَةِ وَالرَّائِعَةِ.
فَفِي قَصِيدَتِهِ (رَحِيلُ شَاعِرٍ) يَقُولُ:
مَن سَرَّهُ زمنٌ قد سَاءَهُ زَمَنٌ
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلُ
وَهْوَ هُنَا يَتَنَاصُّ مَعَ بَيْتِ الشَّاعِرِ أَبِي البَقَاءِ الرُّنْدِيِّ الَّذِي يَفْتَتَحُ بِهِ قَصَيدَتَهُ الْمُشْتَهَرَةَ:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
وفي بيتِهِ الآتِي يِتَنَاصُّ مَعَ جَرِيرٍ الشَّاعِرِ الأُمَوِيِّ العَظِيمِ، حِينَ يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ (عَاصِفَةُ عَيْنٍ):
أَذَقْتِني الهَمَّ أَصْنَافًا بمسبِلةٍ
في طَرْفِهَا حَوَرٌ في طَرْفِهِ حَوَرُ
وَيَقُولُ جَرِيرٌ:
إِنَّ العُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِيْنَ قَتْلَانَا
كَمَا نَلْحَظُ الأَثَرَ القُرَآنِيَّ وَاضِحًا جَلِيًّا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْيَاتِهِ.
وَقَدْ بَدَا لِي أَنَّ قَصَائِدَهُ العَاطِفيَّةَ وَالوَطَنِيَّةَ هِيَ أَكْثَرُ القَصَائِدِ نُضْجًا وَاكْتِمَالًا، رُبَّما لِأَنَّهَا طُبِعَتْ بِالصِّدْقِ، وَحُفَّتْ بِدِفْءِ تَجْرِبَتِهِ الشُّعُوريَّةِ.
مَا قَبْلَ الخِتَامِ،، لَقَدِ اسْتَمْتَعْتُ بِعِنَاقِ قَصَائِدِ دِيوَانِ (دَعْنِي وَشَأَنَكْ)، أَيَّما اسْتِمْتَاعٍ، وَأَدْهَشَنِي النُّضْجُ الَّذِي حَازَتْهُ قَصَائِدُهُ، وَالاكْتِمَالُ الَّذِي طَاوَلَتْهُ تَجْرِبَةُ الشَّاعِرِ عِصَامِ الفِرْجَانيّ، مُؤَمِّلًا أَنْ يَمْضِي قُدُمًا فِي تَطْوِيرِ أَدَوَاتِهِ، وَالتَّطَاوُلِ بِأَشْعَارِهِ إِلَى آفَاقٍ أَوْسَعَ وَأَشْسَعَ، وَالإِمْعَانِ فِي عَوَالِمِ التَّجْرِيبِ الشِّعْرِيِّ بِجُرْأَةٍ أَكْبَرَ.
وَحَتَّى وَإِنْ كَانَ عِصَامُ الفِرْجَانِيُّ يَطْلُبُ مِنْ حَبِيبِهِ أَنْ يَدَعَهُ وَشَأَنَهُ، اِتَّكَاءً عَلَى عُنْوَانِهِ اللَّافِتِ، (دَعْنِي وَشَأَنَكَ)، وَهْوَ عُنْوَانٌ مُرَاوِغٌ يُغْرِي بِهِ حَبِيبَهُ الْمَعْنِيَّ بِهِ بِأَنْ يَدَعَهُ لَهُ، لِيُشْبِعَهُ لَهَفًا وَوَلهًا وَغَزَلًا وَعِشْقًا وَشِعْرًا، فَإِنِّنِي أُحَرِّضُ عُشَّاقَ الجَمَالِ، وَالْمَفْتُونِينِ بِالشِّعْرِ، المأَخْذُوينَ بِالْجَمَالِ أَلَّا يَدَعُوهُ وَشَأْنَهُ، وَلَا وَشِعْرَهُ؛ فَلَا الشِّعْرُ وَلَا الوَطَنُ وَلَا الجَمَالُ وَلَا الحُبُّ سَتدَعُ قُلُوبَنَا وَشَأْنَهَا، ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَحْضُ شَأْنِنَا، هِيَ شُؤُونُنَا الِّتِي تُؤَرِّقُنَا، وَتُوَرِّطُنَا فِي فِيهَا، تَدْعُونَا لِلانْغِمَاسِ قَسَرًا فِي غَيَابَاتِ الحُبِّ، لِلانْذِهَالِ في مَحَارِيبِ الجَمَالِ، لِلانْدِغَامِ فِي تَفَاصِيلِ الْمَجَازَاتِ الْمُجَنَّحَةِ، وَالتَّمَاهِي مَعَ الخَيَالَاتِ الشِّعْرِيَّةِ الْمُحَلِّقَةِ، وَالْانِجرَافِ نَحْوَ عَوَالِمِ الدَّهْشَةِ وَجُزُرِ الخَيَالِ، تِلْكَ الَّتِي يُوَفِّرُهَا الشِّعْرُ، وَيُصَوِّرُهَا الشُّعَرَاءُ بِجُنُونِهِمْ وَشُجُونِهِمْ وَشُؤُونِهِمْ وَجُنُوحِهِمْ.
خَاصَّةً وَأَنَّ (دَعْنِي وَشَأَنَكْ) عَتَبَةٌ مُسْتَفِزَّةٌ بَالِغَةُ الإِدْهَاشِ، تُغْرِينَا بِالوُلُوجِ إِلَى مَجَاهِيلِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَتُغْوِينَا بِالْانْجِرَارِ خَلْفَهَا يَتَلَبَّسُنَا فُضُولٌ مِلْحَاحٌ لاسْتِكْنَاهِ خَفَايَاهُ وَخَبَايَاهُ، والاستئثَارِ بِهَدَايَاهُ وَنَجَاوَاهُ..
فِي الْمُخْتَتَمِ،، تُعَدُّ تَجْرِبَةُ الشَّاعِرِ عِصَامِ الفِرْجَانِيِّ تَجْرِبَةً مَائِزَةً، قَمِينَةً بِالاحْتِفَاءِ بِهَا، جَدِيرَةً بِدَرَاسِتِهَا، وَأَرَى أَنَّ دَيوَانَ الفِرْجَانِيِّ (دَعْنِي وَشَأْنَكَ) إِضَافَةٌ مُهِمَّةٌ لِلْمَكْتَبَةِ الشِّعْرِيَّةِ اللِّيبِيَّةِ بِخَاصَّةٍ، وَالعَرَبيَّةِ بِعَامَّةٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ قَلِيلًا مِنْ حَيْثُ النَّشْرُ، فَهْيَ تَكْشِفُ عِنْ تَجْرِبَةِ شَاعِرٍ وَاعٍ بِمَاهَيَّةِ الشِّعْرِ، مَسْكُونٍ بِهِ، يَتَنَفَّسُهُ هَوَاءً، ويَتَغَيَّاهُ مَشَاعِرَ وَأَحَاسِيسَ، وَيَتَّخِذُهُ مُتَنَفَّسًا يَنْفُثُ عَبْرَهُ مُعْتَمَلَاتِ أَعْمَاقِهِ، وَيَنُثُّ بِهِ قَلَقَ رُوحِهِ الْمُكْتَظَّةِ بِالقَلَقِ الإِبْدَاعِيِّ الْمُنْتِجِ، وَهَاجِسِ التَّحْلِيقِ بِأَجْنِحَةِ القَصِيدِ إِلَى الفَضَاءَاتِ العَلِيَّةِ، إِلَى الآفَاقِ الْمُمْكِنَةِ وَاللّامُمْكِنَةِ، شَاعِرٍ مُؤْمِنٍ بِأَنَّ الشِّعْرَ فَاكِهَةُ النَّاسِ، لَا سَيَّمَا فِي مُجْتَمَعِنَا العَرَبِيِّ، يَتَعَاطَونَهُ خُبْزًا وَمَاءً وَحَلْوًى، وَفَاكِهَةً وَتَبْغًا، لَا يَتَنَاهَونَ عَنِ اقْتِرَافِهِ، وَلَا يَتَجَافَونَ عَنِ ارْتِكَابِهِ، فَهْوَ مِنْ أُمَّةٍ يَتَّخِذُ أَبْنَاؤُهَا الشِّعْرَ خُبْزَهُمُ اليَّوْمِيَّ الغَالِيَ، يُرْضِعُونَهُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيُلْقُونَهُ فِي أَعْمَاقِهِمْ أَحْلَامًا مُونِقَةً لَا تَذْبُلُ، وَيَدُسُّونَهُ فِي مَلَابِسِهِم حِرْزًا ثَميًنًا مُبَارَكًا، وَيَضَعُونَهُ فِي كُتِبِهِمُ المدْرَسِيَّةِ وَصَايَا غَالِيَةً.
اجدابيا 10/10/2022م