في منتصف الستينيّات نشرتُ أول قصة قصيرة في الصحيفة الحائطية التي كنتُ أُشرف على تحريرها في (مدرسة النهضة الابتدائية) في بنغازي. وحسبتُ حينها أن الغموض الذي ساورها، وكان واضحاً -في رأي الأستاذ (الجروشي) مدرِّس اللغة العربية-، يمكن أن يكون السبب في العودة إلى (المنفلوطي) وقراءة أعمال جيل من الروّاد العرب، ومحاولة هضم تلك التجربة العربية وإعادة كتابتها بما يُمكن أن يجعل من الوضوح طريقاً لكسب رضا إدارة المدرسة، ويلغي بالتالي كل تلك الظنون التي ساورت (رجال المباحث) عقب مظاهرات (يناير) 64.. وكادت القبضة تنال من بعض طلبة المدرسة الإعدادية المجاورة، وأن تطالنا في الابتدائية. فكانت العين على الصحيفة الحائطية، آنذاك، تحيط بروازها الأزرق والأحمر بعلامات التعجُّب والاستفهام.
***
مع تلك التجربة، كانت المحاولة الأولى رهينة حالة خوف من جرم الكلمات التي استدعت (العين) إلى تلك الصحيفة الحائطية، واستدعتها إلى حائط بيتنا القديم في (شارع باله) ونحن نلعب، بعفوية، على (رأس الملك) في العُملة المعدنية.
ومع الهاجس المستبدّ الذي نما في الظلام ليلة قرعوا الباب، كان الخيال في الحُلم يشبه ذلك الرجل القصير، كثير الأسئلة، الذي (نبت) في تلك الأيام، بين المدرسة والبيت، وظنناه (جنرالاً) في جهاز المباحث، لكنه كان (صولاً) بدرّاجة هوائية، ويدلل بقطعة أرض بور، في (القوارشة).
***
مع ذلك الهاجس بأن ثمة خطب ما يعمد مصادرة التجربة في مهدها، كانت المحاولة الأولى في نشر أول قصة قصيرة جمعت رصيد ذلك القلق العام، الذي نهش ظلي في النهار، وفي الليل كان خيالاً صارماً يؤرقني ويستفز أحلامي. وجاءت اللعنة بأن تركتُ الدراسة مبكّراً وخرجتُ إلى الشارع متحرّراً من قيود التربية والتعليم.
في الشارع أخذتُ ما أريد من الوجوه والتعب. وصار ظلي واضحاً في (ميدان البلدية) وأنا أبيع الجرائد. ومع بداية السبعينيّات، صارت تلك الوجوه في خيالي، تختبرني في التجربة وأنا أخاف ملامسة ملامحها عن قُرب. وكانت البداية عندما بدأتُ النشر باسم (سالم زنقي).. تكريماً للرجل الذي أواني صغيراً وأشرف على تربيتي وأنقذني ووالدتي من شبح الخوف في المدينة.
***
عندما أقمتُ في طرابلس في العام 1974 وعملتُ في الصحافة، كنتُ أضع في قصصي، النقطة بين النقطتين، قبل وبعد العبارات التي كنتُ أخاف منها، وكنتُ أعتقد بأنها ليست لي، وإنما لأبطال من تلك الوجوه التي عرفتها في الحياة ونطقت كما نطقت تلك المرة في (انتفاضة يناير).. فكل كلمة كانت تقع على الورقة البيضاء في عتمة جدران الغرفة، كانت تخاف وهم الحبر كما تخاف الرقيب ورئيس التحرير والمخبر والخبير ورئاسة مجلس الوزراء. وكان الهواء الذي أتلقفه خارج غرفتي الصغيرة في (فندق لبدة) بشارع ميزران، ليس لي، وليس لأمي البعيدة في بنغازي. وإنما لأناس يسرحون في الليل، يتشابهون في الأذى، فكان أن نهشتُ من لحمي ما ينفع كيد كلب يتربَّص بي، في الظلام..!
***
كانت تلك الجدران في ذلك الفندق الصغير، عنوان (قصة جديدة) خرجتُ بها باكراً في المساء إلى صحيفة (الأسبوع الثقافي)…
تلك القصة تحديداً كانت أول عمل لي يقتحم جدراناً منيعة في نفسي، تأخرتُ كثيراً في كتابتها.. وهي ذاتها التجربة التي كانت اقتحمت الأسوار في المحاولة الواثقة لجيل من الكُتَّاب، والتي بقدر جرأتها وانحيازها للتجديد، كانت تعني لي الكثير، وهي ذاتها القصة التي استوقفت الكثيرين عند تجربتي، وكانت ضمن تجربة صعبة ومخاض ثقافي عسير لجيل كامل من (السبعينيين) الذين كان لهم فضل تأسيس حركة التجديد في ليبيا.
***
في تلك الفترة، في منتصف السبعينيّات، كانت القصة الليبية تشهد ازدهاراً قوياً على يد جيل الشباب، وصارت قيمة ثقافية لافتة في الوطن العربي. وعلى الرغم من علاقات النشر الصحفي التي تحققت لبعضنا عربياً في تلك الفترة، إلاًّ أننا، كجيل جديد تمرَّد على الأنماط السائدة، لم نكترث كثيراً لأهمية نشر الكتاب، لكننا أثناء انعقاد المؤتمر الحادي عشر للأدباء العرب في طرابلس عام 1977 والذي حضره كبار المبدعين العرب ورموز الثقافة العربية، من المشرق والمغرب، كان السؤال صريحاً من بعض الأصدقاء عن افتقارنا للمجاميع الشعرية والقصصية. وربما كانت تلك المناسبة هي التي أثارت الرغبة وجعلتني أجمع القدر اليسير من تلك الكتابات القديمة وأدفع بها للنشر.
***
جمعتُ ألبوماً من قصاصات الصُحف، وفتحتُ ألبوم الصديق الرسام المغمور (مصطفى بدر) وأخرجتُ منه بعض لوحات كأنها من رسم الكلمات، وتأمّل الصديق الفنان (محمد نجيب) تلك الجدران التي كانت رفيقة دربي، ورسم الاقتحام الأول، ليصدر كتابي الأول، في الأول من عام 1978.
***
بعد قرابة النصف قرن على صدور (الجدران) وتسعة عشر عنواناً، في القصة والرواية والثقافة والدراسة والنقد، أجد أن ذلك (الحجر) الذي تأسَّست عليه تجربتي، وكان شاهداً على ذلك القلق، هو حجر بيتنا القديم الذي أراه بعيون كل الذين مرّوا عليه منذ أكثر من خمسة عقود، وكانوا جزءاً من طينه وعجينه، ومن أحلامهم، ومن قلقهم.. ومن لحظة السكينة حين تغمرهم بالتفاصيل..!