قصة

السّجان يسّتحى عندما تتلبّسه ملامح بانوسيّة*

سجن

كان يقود سيارته بسرعة لم تألفها منه من قبل. فَعَل ذلك كي يتخطّى (صحراء القاف)** قبل أن تتربّع الشمس في كبد السماء، فتُلهب الصحراء بشواظ لا يُطاق. تنّكمش حينها الحياة وتُشل الحركة. وتنسحب كل ذات رِجّل، الى حيت يوجد ضل. لتمّرير قيّلولتها بسلام. فتضحى بذلك الطريق مُوحشة . . . كان يمر بمنطقة البوانيس عندما بدأ مؤشر حرارة المحرك يقَترب من البقعة الحمراء الحرجة. قرر الدخول الى اول محطة وقود تظهر بقرّبه. للتّزوّد ومعالجة حرارة المحرك. عند ظهورها على الجانب الايسر من الطريق. دلف بداخلها، كانت خدمات المحطّة. ليست جيدة، فَاتحَ عامل المحطة بذلك. واستفّهم عن مُديرها، أجاب العامل: بأنه خارج البلاد، يُديرها من وراء الأطلسي بلندن. لم يُصدق ما سمع، ورد منّدهش مُحدّث نفسه: لا شك بأنه يمّزح. ثم اضاف مبتسما. انها ثورة الاتصالات. التي جعلت من العالم. بحجم قرية على أطراف فزان***.

قفل خزان الوقود. أدار السيارة وركنها تحت اقرب ظل شجرة صادفته، فتح غطاء المحرك لتهويته، سحب عصاة قياس الزيت من جوف المحرك، كان السائل اللزج الداكن قد غطّى سطحها. واخّفى الشارات التي حُفرت عليها، فتّش عما يُزيل به السائل الداكن. آجال بصره في محيطه القريب. باحت عما قد يسّتخدمه في ذلك، ظهرت بالقرب منه بقايا ورقة عالقة بتراب الارض. قَدّر بانها قد تفي بالغرض. اتجه صوّبها. كانت قد طُوِيت على نحو عبثي وغلفها الغُبار من الخارج. نفض الغبار وفَرَدَ طيّاتها حتى تسطّحت، ظهرت عليها كِتابة غطت وجّهيها. دفعه الفُضول الى قراءة ما كُتب، ما ان انتهى من قراءة السطر الاول، حتى تجمّد مكانه ليُكّمل ما بدأ.. فوّرما انتهى. اعاد القراءة ثانيتا، ولكن في هذه المرة بتمهل شديد:

الى الهيئة العليا للقضاة بدولة الحقراء

تحية طيبة وبعد.

في يوم 5-5-80 م وقفت أمام أحد هيئاتكم بقضية تحمل رقم (-). بعد توّقيف دام ثمانية شهور. اشعر بانني وبشكل ما، قد اسّتدرجت اليها في غفّلة منى.. وهذا لا يعفني من تحمل عواقب هذا الحدث . . . وبعدما قال القضاة كلمته. بالسجن لمدة خمس سنوات، لم اعترض حتى استأنفا، لأمر احتفظ به لنفسي، كما لا اريد ان ادخل في حديث عن مرارات سنوات السجن العجاف. لاعتقادي. بان كل ما حدث فيها. كان في مجموعه ما يجب ان اتحمل وزّره. لفشلي فما خططت وقمت به، عن ترصّد وسبق اصرار.

ولكن بانتها سنوات السجن الخمس، لم يثم اخلاء سبيلي. بل مُددت. سنوات السجن هذه. الى سنين سجن مفتوحة، كل ذلك حدث. دون المرور بقاعات المحاكم او الوقوف امام منصّات القضاة.. كانت سنوات بطعم الموت، حرّكت واسّتفزّت مشاعر دُفنت بكياني مند زمن التنّشئة. صارت هذه، تستنهضنى وتستحثني بالا اقبل ذلك. فتقدمت باعتراضات وتنبيهات شفوية وكتابية لإدارة السجن، ولا من مُجيب.

اتر ذلك عزمّت على الدخول في محاولة لكسر هذه الحلقة الجهنمية من سنين السجن المُغلقة. كانت اداتها مقاومة سلبية بالأضراب عن الطعام. لم يدم هذا طويلا. واجهض بوعّد كاذب من ادارة السجن. مضّمونه ينتهى بإخلاء سبيلي..

بعدما تبيّنت زيف وعّدهم، عاودت الدخول هذه المرة في اضراب مفتوح، استمر طويلا. اسّتفزَ في يومه الثاني عشر رفاق زنزانتي، فقرر بعضهم مشاركتي الاضراب، إن لم اتراجع عنه. حاولت جاهدا إقناعهم. بان هذا الشأن يخصّني، ولا يًلّزمهم مجاراتي فيه. لكن دونما جدوى. وفيهم من كان مُسّن تخطى منتصف السبعين من عمره، فاضطررت للتراجع بفكّه، والذهاب نحو تفتيش عن بديل اخر.

أقول هذا امامكم لأوضح بانني حاولت جاهدا إعلام كل الجهات ذات الشأن وبكل السبل الممكنة. بألا يجب ان ابقى ولو يوم واحد داخل السجن، تزيد عما قاله القضاة. فذلك يُدخلنا جميعا في منطقة اللا عدال. والذى من جانبي قررت عدم قبوله برفضه ازدادت المعاناة اثر ذلك. وصارت الزنزانة جحيم لا يطاق. فتضاعف الاستنهاض داخلي، يستحثني للبحت عن سبيل، حتى ولو كان ذلك عبر ممر قُدّ من موت. ولا اخفيكم القول. بانني عزمّت على إعداد نفسى للخروج عنوة من ذلك الجحيم. وان كانت نسبة النجاح في ذلك لا تتعدى الضعيفة. فهناك تُوجد ابواب فولادية، وجدران خرسانية شاهقة، واسلاك شائكة مكهّربة، وكلاب شرسة، وعسكر مدجّج. كان في تقديري ورفيقي ****(المشّاى) ان نلّتقى الموت وُقُوفا فوق سطح السجن، ربما برصاص العسكر وحيت يتمتّرسون، فما من سبيل غير ذلك. فأخاك مُرغما لا بطل..

ولكن وقبل الشروع في ذلك بشهر واحد، ولا اعرف لحسن الحظ او لسوئه اُخلى سبيلي. فكفانا الله ولله الحمد.. اقول هذا لا حب في الاستعراضات التي لا تسوى شيء في عالمي. ولكن لتقّريب صورة المأساة التي يظهر جزاء من اعراضها المُصاحبة، في اشكال من ردود افعال تطاول الجنون واحتضان الموت. اعراض تُعبر وتكّشف عن عمق مُعاناة. من اُدخل في نفق من سنين سجن مفتوحة. لا يُرى فيها من بصيص في نهايته.

إنها حالة من المعاناة يصعب توّصيفها إلا بالمُعايشة. وهذا يستحيل بالاختيار. ربما تمكّن من مقاربتها. وبقدر ما الشاعر المتنبي في قوله: –

كفى بك داء ان ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا ان يكن أمانيا

خرجت من السجن مع نهاية الشهر الثامن لعام 86 م. تبينّت بعد فترة قصيرة من خروجي. بأنني لم اتنفس الصعداء مع عبور عتبت بابه، بل استنزفت منى هذه. مدة ليست بالقصيرة. بل سنين طوال، في تأهيل ذاتي صعب وفاشل في الكثير من مراحله. فالإنسان تلّفظه تلك الزنازين مُشوها.

وزاد من صعوبة ذلك وارّبكه. ظهور السجان فجأتا في حياتي خارج السجن. ربما في محاولة منه لتذكري بعصاه الغليظة. كان يأتي مُتخفيا وراء وجوه وحجج عديدة. مرة يأتي مطالبا بمعلومات تتعلق بشخصي يدونها ويثبتها بملف كان بحوزته. وبعد فترة تقّصر او تطول يعاود مطالبا بصور شخصية بأبعاد معينة. وجاء مرة مصحوب بخريطة لقريتي مبيّن عليها شوارعها وازقتها وبيوتها وجميع مرافقها، وطلب منى تحّديد موقع البيت الذى اسّكنه عليها. وهكذا. ولكن الملّفت في كل هذا، كان يأتي ودائما مع عسّعسة الليل. فبدأ لي. وكأنه يسّتحى عندما تتلبّسه ملامح بانوسيّة.

وجاء ذات مرّة، وكان قدومه مُخيفا. إذ صاحبه حدث هزّ العالم. كان ساحته حي (منهاتن) الشهير بمدينة نيويورك. ولازالت ارتدادات ذاك الحدث تهز العالم. جاء السجان وعلى لسانه في هذه المرّة. طلب غريب بعض الشيئي، او هكذا بدأ لي. صور شخصية مدنيّة ملوّنة وحديثة. لا تقل في العدد عن العشرة.

هنا رفضت. ولكن بطريقة ناعمة. لأنني لا اريد ان اخوض التجربة مرة ثانية. فذهب. ولم يغيب هذه المرة في الزمن بعيدا. وعاد ببزّته العسكرية. وكان خشننا وفضنا في قدومه. اذ اندفع الى داخل إدارة الشركة التي كنت احد موظفيها، وقدف بنا جميعا خارج المبّنى. واحْتله واتخذه مقر وادارة له. وتركنا على قارعة الطريق، لنبدأ من جديد رحلة البحت عن مصدر رزق، نتعّيش به ومن نعول، استمرت ذلك سنين اثقلتنا بالديون..

أقول هذا لأصل بكم الى القول. باني اطالبكم بكل حقي في المدة، التي اُبّقيت فيها بالسجن ظلما، بعدما استوّفت هيئتكم حُكمها. اقول حقي الذى يساوى، ما يقدمه وطن يحترم حق وكرامة مواطنيه، اذا لحق بهم ظلم او غبّن. كما اود القول لكم، بان كل ما تصّدره هيئتكم من احكام، وتترك بدون متابعة، من طرف ادارتكم. وما قد يترتب علي كل هذا. من اضرار قد تلحق بالأخرين. لا شك بان لكم النصيب الاكبر من اوّزارها . . …

تلاشت الحروف واختفت الكلمات والسطور. تحت وطأة الزمن بعوامله الطبيعية، فتوقفت القراءة.. طوى الورقة ودسّها بجيبه الايمن، فتش عن اخرى في محيطه، استخدمها في تنظيف عصاة القياس، كان السائل بمستوى جيد، اضاف قليل الماء الى مبرّد السيارة، قفل غطاء المحرك، قرر الاستغناء عن جهاز التكّيف ليخفف عنه الحمل، ادره واندفع بها جنوبا . . .

على طول الطريق كان منّشغلا بما قرأه. تولّدت برأسه تساؤلات كثيرة . . . حدّث نفسه بصوت مسموع: – لا شك بان الذى كان يَتحدّث من خلال الورقة. في حروفها وكلماتها وسطورها، كان احد رفاقنا في ذلك السجن الرهيب بطرابلس، خلال الربع الاخير من ثمانينات القرن الفائت. ولكن من يكون يا ترى؟ هل هو ذلك السجين الغامض؟ الذى فعل فعّلته تلك بسجن *****(بوسليم) ونَفَدْ. تاركا وراءه تملّمل داخل زنازين السجن. حتى انه في اليوم الذى اُخّلى فيه سبيل ذلك الغامض. كان احد رفاق زنزانته قد انخرط في اضراب مفتوح عن الطعام. ثم لم تدوم معاناتنا بعد خروجه طويلا. فقد اُفرج عن اغلبية. ممن انّهوا مدد احكامهم وتخطوها بسنين. في مناسبة عُرفت حينها (بأصبح الصبح).

واما انا (مُحدّثكم) في هذه السطور. اسمح لنفسي بالقول، بانني قد كنت احد هؤلاء السجناء. ولكن دعوني اقول ايضا. بانه لا يراودني شك البتّة. بان فعّلت ذلك السجين الغامض. هي من زرعت التوجّس والخوف في عقل ادارة السجن والسجّان وجهازه الأمني. من إمكانية انتقال فيّروس عدّوى الاضراب. الي كيان زنازين ذلك السجن الرهيب. حينها لو حدث ذلك. سيعم تلك الزنازين تأزم، لا فكاك منه. الا بفتح ابوابها المغّلقة على فضاءات الحرية. ولمعالجة توجّس السجن والسّجان وقلقهما، والقضاء علي ما يُخيفهما في مهّده. ذهب السجن والسجان. في اتجاه خطوة اسّتباقية، خطوة من يقول (بيدي لا بيد عمرو). فعجّل ذلك وبدون شك، في اخلاء سبيلنا مع مساء ذلك اليوم المشّهود. ولكن ما ازعج النفوس حينها. وكدر صفّوها وفرحها. سعى السّجان وتمكّنه وبخبث استثنائي، من تطويع الحدث وتجّيره لصالحه. مُتكئا في ذلك على آلته الاعلامية العتيدة.

ولكن هل تكون يد ذلك السجين الغامض. هي من خطّت سطور هذه الورقة التي يُغلفها تراب هذه البقعة من فزان؟ وهل كان ذلك السجين المنّزوي بعيدا الجميع. والمُكّتفي بذاته في وحّدته، يعيّ ارتدادات فعّلته على السجن وبمن فيه؟! لا اعرف، لا اعرف . . . لكن تسلسل احداث السرد في الورقة مع الفترة الزمنية التي احتوتها. تقول وتشى بأن يده لا غير. هي لا سواها من خطّت كل ما جاء على ظهر هذه الورقة. التي يُغلفها تراب هذه المنطقة النائية. لقد كان (مُحدّثكم) من خلال هذه السطور، شاهد عيان على احداث تشّبه وتُحاكى ما جاء في هذه الورقة، كان ذلك مند سنين بسجن بوسليم الرهيب..

ظهرت امامه في البعيد، مباني متباعدة ومنتشرة على جنبات الطريق، تُعّلمه بانه على ابواب اكبر مدن وحواضر الجنوب. ولج مدخلها الجنوبي. احتوته شوارعها. توقف امام شارة ضوئية، كانت الشوارع خاوية، وكان وحيدا كعادته، والشمس تتربع في منتصف قبة السماء، تلبّس الشارة الضوئية لون اخر، اندفع بسيارته في جوف المدينة، ابتلعته طرقاتها فاختفى. فاضحي لا اثر ولا عين.


* (بانوسية) نسبة الى منطقة البوانيس. وهى تغطى الرقعة الجغرافية ما بين الاطراف الجنوبية لصحراء القاف شمالا. وتمتد جنوبا حتى ملامسة الحافة الشمالية لمنطقة سبها.

** (صحراء القاف) مفازة تغطى حيز من وسط الجغرافية الليبية.

*** (فزان) هي الاقليم الجنوبي بجغرافية ليبيا.

**** (المشاى) من خلال موقعه بين الكلمات. يظهر وكأنه احد رفاق السجين. وشريكه في المحاولة المزعومة.

***** (بوسليم) احد احياء مدينة طرابلس. يسّكنه تنوّع من المشارب والاعراق والالوان واللهجات. يجثم فوق صدره السجن الذائع الصيت، فاستمدّ اسمه من الحى.

الجنوب الليبي: – 2007 م.

مقالات ذات علاقة

فشل الشد.. فشل الضغط

الصديق بودوارة

قصص قصيرة

محمد دربي

ثورة.. دهشة.. وشاية

إبتسام عبدالمولى

اترك تعليق