سنوات طويلة جدا لم أقرأ شعرا يفوق في الوصف درجة الشفافية إلى حد أن سؤالا يلح عليك وأنت تقف أمامه هل تقرأ شعرا موسيقيا أم تستمع إلى عصفور جمع في ريشه ألوان الدنيا واختزن في حنجرته العالم وانطلق في تغريد بديع، بل إن سؤالا آخرا يحاصرك هل يكتب هذا الشاعر قصائده بذات الحبر الذي نكتب بخ أم إنه يكتب أشعاره بحبر هو مزيج من العر الذي وضعه الله في قارورة ورشّه على الزهور والورود على امتداد كونه الكبير.
إنك تقرأ لهذا الشاعر بداية فلا تحس به وهنا الخطورة وهنا الفخ الذي ينصبه لك إنه يخدعك ببساطته المتناهية فلقد فاض بما في قلبه وعليك أن تكون في كامل وعيك ويقظتك حتى تكتشف أن نهرا صغيرا رقراقا يجري بين قدميك فإذا ضاعت منك لحظة الانتشاء بالنهر فتلك مشكلتك وليست مشكلة الشاعر الذي قال وفجّر وتدفق وإن كانت ذلك في سكون ورقة ووداعة، إنه ينطبق عليه تماما قول جوركي (يروي الضفتين ولا يسأل عن شيء فإذا تجاوزته هذه الميزة الكبيرة فإنك تقف أمام ميزة أكبر وأعمق)، فالشاعر لا يعلن عن نفسه لا يقدم لك نفسه على إنه شاعر ولا يصلك نبأ بأن صوته قد ارتفع لأن قصيدة له لم تنشر في هذا العدد أو ذاك بل إنه لا يسألك أبدا هل قرأت قصيدتي التي نشرت أخيرا ؟ هل هي تركيبة الشاعر النفسية ؟ أم هو خجل المبدعين الصادقين اللذين يرون أن عليهم أن يبدعوا ما فاضت به جوانحهم أما ما تبقى فليس لهم به علاقة؟
لعل هذا الشعر يندرج تحت تصنيف الشعر المهموس الذي قال به المرحوم الدكتور محمد مندور ورغم أنني لا اميل إلى هذه التصنيفات أو هذه التسميات إلا أنني أعترف بصدق أن هذا الشاعر لم يشدني بتصنيف معين ولم يدفعني إلى قراءته أساسا من خلال تصور سابق لشعره وشاعريته بل أكاد أزعم أنني قرأته من باب التسلية وباحساس النشر المجامل، بعد أن أصيحت ظاهرة المجاملة تكاد تكون واضحة في أغلب المطبوعات أو قل الصفحات الثقافية والأدبية.
ولحسن الحظ تناثرت أحاسيسي شظايا صغيرة ووجدت نفسي أمام شاعر حقيقي سلاحه الوحيد الشعر المعجون بشفافية مذهلة وطريقه الوحيد إلى قلبك كلمة عذبة ساحرة لا ضجيج فيها ولا طبول حولها، إنني لا أقدم هذا الشاعر فشعره أقوى من أن يقدمه كاتب يتلمس طريقه أيضا في مجال الإبداع الإنساني ولا أبشر بميلاد شاعر جديد سيملأ الدنيا بالشدو والأغاني فلا شك أنه شاعر متمكن ما أكثر الأغاني التي أطلقها وما أروع الألحان التي نشرها وما أكثر العشاق اللذين انتظروا شعره واستنشقوا عبيره الفواح.
وربما كنت متأخرا في اكتشاف هذا الشاعر لسبب أو لآخر لكن هذا التأخر سوف لن يمنعني بكل تأكيد من أن أكون واحدا من اللذين سيحرصون على متابعة العبير الشعري الذي يطلقه بين الفينة والأخرى في وقت أصبح فيه البحث عن صوت شعري حقيقي عملية شاقة وقضية تحتاج إلى صبر كبير ومتابعة عنيدة، ولا بأس ونحن نتحدث عن هذا الشاعرمن أن نقف عند آخر قصيدة قرأتها له وهي قصيدة (تجليات الوجدي والاشتهاء) المنشورة بمجلة الفصول الأربعة العدد 43 السنة الحادية عشرة شهر الحرق 1990م.
يبدأ الشاعر نصر الدين القاضي قصيدته بسؤال ما أعمق الايحاءات التي يملأ بها النفس وما أعذب المعاني التي يودعها داخل الوجدان وما أشد الحيرة التي سيعانيها العقل أمام هذا السؤال:
هل ثمة حديقة ورد تستجيب
لاشتهاءات العاشق البنوية
وتستنفض بأسرارها العذبة ويشمخ
على خدها الورد الشعري
ويتخلق كون
من يناعة الشهوات المستحيلة
والانتشاء الفذ والحضور الحميم ؟
بعيدا عن الشفافية والرقة والعذوبة والانسيابية والبعد عن الصوت الجهير الصارع يبدأ الشاعر طلبه البسيط أن تستجيب حديقة ورد لاشتهاءات العاشق النبوية وهي اشتهاءات غاية في النبل والإنسانية إذ إن استجابة حديقة الورد لا تتطلب أكثرمن الاستفاضة بأسرارها العذبة حتى يشمخ على خدها الورد الشعري وهنا روعة الشاعر في اشتهاءاته النبوية تستجيب حديثة الورد فيشمخ على خدها الورد الشعري.
إن الورد بجماله وعبيره له زمن يشيخ فيه ويذبل ويحتاج إلى دورة جديدة يستعيد فيها ما فقده لكنه إذا استجاب لاشتهاءات العاشق النبوية فسيشمخ على خد الحديقة الورد الشعري، وهذا الورد هو الذي يروي النفس العطشى وهو الذي يوجد الديمومة حيث لا ذبول أو موت، فالورد الشعري باق ومعطاء وتأثيره أكبر من الوردة الطبيعية التي تأخذ دورتها وتنتهي حتى ولو كانت في يد عاشق أو على صدر محبوبة.
لكن القضية عند الشاعر لا تتوثق عند حدود استجابة حديقة ورد لاشتهاءات عاشق نبوي حتى يولد الورد الشعري، فالحركة الثانية بعد استجابة حديقة الورد هي أن يتخلق (كون) والحلم داءما عند الشاعر أن يتخلق كون يهندسه وفقا لرؤيته وأحلامه وطموحه، فالكون الجديد هو حلم الشاعر وهو الذي يعطي لكلماته الدفء والتوهج والاشتعال، والكون الذي يريده الشاعر ليس مستحيلا ولا شروط قاسية لصيرورته.
ماهو الكون الذي يحلم به الشاعر ويهندسه يتخلق كون من يناعة الشهوات المستحيلة والانتشاء الفذ والحضور الحميم، كون يجد الإنسان فيه نفسه ويشعر بأن شهواته المستحيلة قد آن لها الايناع ثم ما يتبع ذلك من انتشاء فذ وحضور حميم، انتشاء فذ يفيض على النفس بالراحة العميقة ويشعرها بجمال الحياة وبروعة الأشياء التي تحبها ويحقق ذلك الحضور الحميم عندما يكون اللقاء الساخن بيد الإنسان والإنسان وهو اللقاء الودود المنعش والأحاسيس والاشتهاءات والتطلعات المشتركة لكون جديد سيده الإنسان ويواصل الشاعر نصر الدين القاضي طلباته البسيطة جدا .
حديقة ورد تسافر إليها القصائد
تبتغي شهدها الحلو
واشتعالها البهي
أي حديقة ترفض هذا النداء الساحر أي حديقة ورد ترفض أن تسافر إليها القصائد لا تبتغي منها شيئا سوى شهدها الحلو واشتعالها البهي، إنها حديقة محظوظة لأن الذي يناديها يكشف عن جمالها المستتر وروعتها المخبأة وسحرها المكنون، فالقصائد تسافر إلى حديقة ورد ولا تبتغي سوى شهدها الحلو واشتعالها البهي فأي حديقة ورد ترفض هذا العرض الإنساني الجميل الذي يكاد يخرجها عن كونها حديقة ورد إلى كون بديع وما أكثر حدائق الورد ولكن أين الشاعر الذي يحولها إلى كون بديع ؟ ولا يكتفي الشاعر بهذا ويواصل همسه:
حديقة ورد
كم توجهت في قلب العاشق
وامتلأت بها الذاكرة
وبثت فيه من قصائدها وأحلامها
في الليالي الموحشات
إن حديقة الورد تعني الكثير للشاعر وهذا ما يكشف شفافيته اللا متناهية فلكم توغلت هذه الحديقة في قلب العاشق وكم امتلأت بها الذاكرة وكم بثت في القلب من قصائدها وأحلامها في الليالي الموحشات، إن حلم حديقة الورد يسيطر على الشاعر سيطرة كاملة فهي الذاكرة وهي القلب وهي القصائد وهي الأحلام في الليالي الموحشات وما أجمل وما أروع وما أنبل أن تتجسد الأحلام في حديقة ورد.
على أن حديقة الورد لم تخذل الشاعر ولم تتركه خارج سياجها وهو القادم إليها لشفافيته تتركه خارج سياجها وهو القادم إليها بشفافيته بوداعته بتواضع طلياته ثم باشتهاءاته النبوية، إن حديقة الورد لا تهزم الشاعر لأنه لا يأتي حاملا سيفه ليدمر الحديقة ويقتلع الورود ويصرخ في صلف وجهل هذا وقت ليس للورد ولا للحدائق، ولهذا تستجيب الحديقة في آخر المطاف تسقط حديقة همسات ووشوشات الشاعر الرقيق العصفور الملون الغريد ويحس الشاعر بأن حديقة الورد استجابت للعاشق النبوي المليئ بالصفاء والنقاء والحلم المشروع وبمجرد امتلاء الشاعر العاشق النبوي بايماءات حديقة الورد تسقط الأحزان وتختفي المواجع وتنسحق الألأم ويبدأ الكون الجديد التخلق وهنا يخرج الشاعر شاهرا سيف انتصاراته:
إن للعاشق أن يتأنق وأن يحلق
في ألق ضحكة
تأتي من حقول القلب
مغردة تحمل باقات
القرنفل الشفقي والدغدغات
يا إلهي أي لغة يمتلكها هذا الشاعر وأي قلب يحمله وأي قدرة على تكوين الصور المذهلة تسكن روحه، ولهذا عندما وقف في آخر المطاف وهو يعرف أنه قد انتصر في مراودة حديقة الورد لم ياخذه الزهو ولم تلعب بعقله النشوة ولكنه بكل طاقة الحب فيه همس :
وآن لحديقة الورد
بالاحتفال
إنني آسف لتاخري الشديد في اكتشاف هذا الشاعر وإنني لعاشق للشاعر ولحديقة الورد ولاشتهاءات العاشق النبوية.